في السلام بيننا
القدّيس غريغوريوس بالاماس
تعريب: عصام عيد
ألقى القدّيس غريغوريوس بالاماس هذه العظة بعد ثلاثة أيّامٍ من وصوله إلى تسالونيكي .1
1. كُلُّنا إخوةٌ إذ لدينا خالقٌ وربٌّ واحدٌ هو أبٌ لنا جميعًا. ونتشارك تلك الأخوّة مع الحيوانات والطبيعة الجامدة. نحن أيضًا إخوةٌ لأنّنا من سلالة أبٍ أرضيٍّ واحدٍ هو آدم، ونحن الخلائق الوحيدة المصنوعة على صورة الله. ولكن حتّى هذا أمرٌ مشتركٌ بين جميع الأمم. على نحوٍ خاصّ، نحن إخوةٌ لأنّنا من جنسٍ واحدٍ ونعيش في المكان نفسه، وفوق ذلك كلّه، لدينا أُمٌّ واحدةٌ هي الكنيسة المقدّسة، ونملك التَّقوى الحقيقيّة من لَدُن البارئ والمُكَمِّل، الذي هو المسيح ابن الله الحقيقيّ. فهو ليس إلهنا فحسب، بل سُرَّ أن يكون أخانا وأبانا ورأسنا، فَجَمَعَنا كلّنا في جسدٍ واحدٍ وجَعَلَنا أعضاءً فيه وواحدنا في الآخر.
2. لمّا قام المسيح من بين الأموات في اليوم الثالث، وظهرَ للنسوة اللواتي أتَينَ إلى القبر، قال لهنَّ: «اِذهبا قولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل، وهناك يرونَني» (متّى 28: 10). أتَرَون كيف يتنازل ويُدعى أخانا؟ كما قال عنه الرّسول: «لأنّه حقًّا ليسَ يُمسِك الملائكةَ، بل يُمسِكُ نسلَ إبراهيم. مِن ثمَّ كان ينبغي أن يُشْبِهَ إخوته في كلِّ شيءٍ» (عبرانيين 2: 16-17). المسيحُ هو أيضًا أبونا لأنّه وَهَبَنا ولادةً جديدةً بواسطة المعموديّة المقدَّسة ونِعمتِه الإلهيّة. يدعوَ رُسُلَه أبناءه، وعندما بلغ آلامه الخلاصيّة وَعَدَهُم بأنّه لن يَترُكَهم يتامى. ويقول الرّسول أيضًا: «فإِذ قد تَشارَكَ الأولاد في اللَّحمِ والدَّمِ اشتركَ هو أيضًا كذلك فيهما، لكي يُبِيدَ بالموت ذاكَ الذي لهُ سلطانُ الموتِ، أي إبليسَ» (عبرانيين 2: 14). يؤكّد بولس الرّسول أنّنا كلّنا جسدٌ واحدٌ في المسيح بقوله: «أمّا أنتُم فجَسَدُ المسيحِ، وأعضاؤُهُ أفرادًا» (1 كورنثوس 12: 27). وكما أنّ في كلّ جسدٍ أعضاءٌ عدّة، ومهما تعدّدت الأعضاء يؤلّفون جسدًا واحدًا، كذلك الأمر في المسيح، لأنّنا كلّنا اعتمدنا في الروح الواحد إلى الجسد الواحد.
3. يا إخوة، لدينا معموديّةٌ واحدةٌ للتجديد والولادة الإلهيّة، وإيمانٌ واحد، ورجاءٌ واحد، وإلهٌ واحد هو فوق الجَميع وداخل الجَميع وفينا كلّنا. وبمحبّته يجمعُنا معًا له، ويجعلنا أعضاءً واحدنا في الآخر وفيه. ولكن بتحريضٍ من الشيطان، دخلت الكراهية في ما بيننا طاردةً المحبّة خارجًا، لا بل دخلت الكراهية مِرارًا وفكَّكَت الوحدَة الموجودة بيننا بمحبّتنا بعضنا لبعضٍ ولله. هذه الكراهية لا تَشُلُّ المَدينَة فحسب من خلال تقسيم سكّانها، بل أيضًا تُصَنِّفُهُم في أحزابٍ مُتَحارِبة، وتثير تمرّداتٍ مدنيّة وفوضى واضطرابات يتعذّر إصلاحُها. تُحوّل الكراهية المواطنين إلى مُتَخاصِمين، وتجعل مدينَتَنا تشبه مدينةً هزمَها العدوّ. الكراهية تُحَرِّض مدينتَنا ضدّ ذاتها على نحوٍ مثيرٍ للشفقة، فتَخدعها دافعةً ايّاها إلى محاربة نفسها، إلى أن يصبح الخِلافُ البغيض مُعضلةً مقيتة.
4. مَن كان أولئك الرّجَال الذين يتجوّلون في المدينة، فيهدمون أحيانًا البيوت ويسرقون محتوياتها، ويلاحقون مَسعورين أصحاب البيوت، يريدون قتلَهُم من دونِ رحمةٍ أو إنسانيّة؟ ألم يكونوا سكّانًا في هذه المدينة؟ مَن هم ضحايا هذا الجنون والجلَبة والعنف والاضطهاد؟ ألم يكونوا هم أيضًا سكّان هذه المدينة؟ تلك المدينة التي لطالما استَمدَّت منهم فوائد كثيرة. يا للعذاب! يا للبؤس العظيم! المدينة تُحارِبُ نفسَها، وتصير عَدوّةَ نفسِها. تُلاحِقُها أرجُلُها الخاصّة، وتدَمِّرُها أيديها الخاصّة، ويَصيح بها صوتُها الخاصّ. يخضع الرجال الصّالحون بخوفٍ فيما يسيطر الرَّذيلون والحقراء. حقًّا إنّ هذا المرض المُتَفَشّي هوَ أسوأ من مرض المُخلَّعَين الوارد ذكرهما في الإنجيل، لأنّ ارتكاب الشرّ أردأ وأكثر أذًى من البطالة.
5. لكن لا تمتعضوا حين تسمعون هذه الأقوال. فأنا لا أقولها لِتَوبيخِكم، بل لكي تعرفوا المرض الآن، وبما أنّكم صاحون، تجدوا السبب الذي جعلكم تخضعون له، وتتوقوا إلى الحصول على الشفاء الذي هو هِبةٌ من الله، وتسارعوا إلى فعل ذلك، وتحافظون على هذا الشفاء. والله سيعطيكم القوّة أيضًا كما أعطى المُخَلَّعَين. فهو لم يَشفِهِما فحسب، بل أعطى كلَّ واحدٍ منهما القوّة على حمل السرير الذي كان مُنطَرِحًا عليه وعلى المشي من دون تعثُّر.
6. ما كان سبب مرض أولئك المُخَلَّعَين اللذين شَفاهُما المسيح؟ كان ثمّة رَجُلان مُخَلَّعان: أحدهما كان مُضطَجِعًا بقرب بِركَة «بيت حسدَا» في أورشليم (يوحنّا 5: 2-15)، والآخر حمله أربعة رجالٍ في كفرناحوم (متّى 9: 1-8، مرقس 2: 1-12). ما كان سبب مرضهما؟ الخطيئة. وقد أوضح الربُّ ذلك في قوله لأحدهما، لما رأى إيمانه قبل أن يُشفى جسده: «يا بُنَيَّ، مغفورةٌ لكَ خطاياكَ» (متّى 9: 2). وقال للآخر الذي رآه بعد شفائه: «ها أنتَ قد برِئتَ، فلا تُخطِئ أيضًا، لئلَّا يكونَ لكَ أشرُّ» (يوحنّا 5: 14). في حالتهما، سَلَبَت خطيئتُهما الصحّة منهما وجعلتهما مُخَلَّعَين. أمّا أنتم، فالخطيئة التي تشتركون فيها جميعًا سَلَبَت منكم المحبّة، وجعلتكُم أعداءً بعضكم لبعض. فكيف خَسِرتُم الرابطَ الذي يجمعكم، وهو محبّة الله والآخرين، إن لم يكن بسبب فتون أذهانكم بالخطيئة؟ قال الربّ في الأناجيل: «لكثرة الإثم تَبرُدُ محبّة الكثيرين» (متّى 24: 21). وحالما تَبرُد المحبّة بالكامل، يستحيل على نعمة الله وعنايته أن تبقيا.
7. سأعطيكُم مثلاً عن كيفيّة عمل هذا الهوى. إنّ نفسَنا هي مثل مصباح، والأعمال الصالحة هي الزَّيت. وبَدَلاً من الفتيل هناك المحبّة التي لا يستقرّ عليها النور، بل نعمة الإلهيّة. عندما يَفسُد زيتُ الأعمال الصالحة، لا بدّ لفَتيل المحبّة في النفس من أن يصبح باردًا. فيَغادر نورُ محبّة الله وعنايته أولئك الذين هجروا الفضيلة وطردوا المحبّة. لقد أدار الله وجهه عنهم وثاروا بعضهم على بعض. كما قال داود: «تحْجُبُ وَجهَكَ فَتَرتاعُ» (مزمور 103: 29). لقد حَلَّ بنا العِصيان المَدَنيّ والفوضى بسبب الخطيئة. هذان يجلبان جميع أنواع الشرور ويقدّمان مسكنًا لأمير الشّر في داخل قادة العصيان وأتباعهم. يسكن فيهم ويحوّلهم إلى وحوش مفترسة. ولا نبالِغُ اذا قُلنا إنّه يُهَيِّئُهم كي يكتسَبوا صفاتِ الشياطين. هذا الذي منذ البَدءِ كان قاتلًا يكره البشر، يجعلهم الآن قتَلةً ومُعادين للمسيح مُعطي الحياة. كما يجعلهم إلى درجةٍ أكبر، غير مُطيعين ومُعادين لِمُلوكهم الأرضيّين ولأبيهم الروحيّ وراعيهم ومعلّمهم.
8. عودوا الآن إلى طريق إنجيل المسيح وتمسّكوا به بِحَزمٍ، لكي تنمو وحدتكم ولا تنكسر. حينئذٍ سيعود إليكم الرّبّ ويمنحكم السلام ونعمة الروح الإلهيّ. كما أنّ المُخَلَّع في أورشليم ظلَّ مضطجعًا بقرب بِركة «بيت حسدا» التي تشفي المرضى، كذلك أنتم لم تبتعدوا كلّيًّا عن كنيسة المسيح الواهبةِ السلام. لكن كما أنّ المخلَّع لم يكن لديه مَن يساعده للحصول على النعمة من تلك البِركة، أنتم أيضًا لم يكن لديكم في هذا المكان راعٍ يَعِظُكُم بالسلام ويجمع الأعضاء المُتَفَرِّقين ويوحّدهم، ويَطرد خارج جسد كنيسة المسيح المرضَ والضّعفَ النّاتِجَين من الكراهية.
9. أتَينا الآن لنقِفَ بجانبكم في المسيح. نحن سُفَراء المسيح، كما لو أنّه يتوسّل إليكم من خلالنا. تَصالحوا مع الله. أَيقِنوا روابط القربى بينكم، لا الروابط الرّوحيّة فحسب، بل أيضًا تلك الجَسَدِيّة العائدة إلى أجدادنا. تَذَكّروا أيّام السلام القديمة. كم من الحَسَنات جَلَبها لكم السلام، لقد تَبَدَّدَت الآن. لا تولوا الشّرّ أهمّيّةً ولا تَسعوا إلى ردّ الشّرِ بالشّرِ، بل تَغَلّبوا على الشّرّ بالخير. أحبّوا بعضكم بعضًا لكي تبلغوا المحبّة التي من الله وتُظهِروا له المحبّة. فمن المستحيل على الذين لا يُحبّون إخوتهم أن يحِبّوا الرّبَ أو أن يحظوا بنعمته وعنايته (راجع 1 يوحنّا 3: 17 و4: 20).
10. يا إخوة، أطيعوني أنا الآتي إليكم لأعظكم جميعًا بالسلام فوق كلّ شيء، بحسب وصيّة الربّ. اشتَرِكوا في عمل الطاعة هذا من خلال غفران الواحد للآخر إذا وجَدَ عِلّة للشكوى ضدّه، كما غفر لنا المسيح، لكي تصيروا أبناء السلام وأبناء الله. هو سلامكم «الذي جعلَ الاثنين واحِدًا، ونَقَضَ حائطَ السِّياج المتَوَسِّطَ» (افسس 2: 14)، مُبطلًا العداوة بصليبه. لقد قال لتلاميذه، ومن خلالهم لنا: «وأيُّ بيتٍ دخلتُمُوه فقولوا أوّلاً: سلامٌ لهذا البيتِ» (لوقا 10: 5). كلُّ عَمَلِ مَجيئه هو السلام، لذلك طأطأ السموات ونزل. سبق لداود أن قال عنه: «يُشرقُ في أيّامهِ الصِّدِّيقُ وكثرةُ السَّلام» (مزمور 71: 7). وفي مزمورٍ آخر يقول عنه: «لأنّهُ يتكلَّمُ بالسَّلام لشَعبِهِ ولأتقِيائِهِ فلا يَرْجِعُنَّ إلى الحماقة» (مزمور 84: 8).
11. حتّى النشيد الذي رَنَّمَتهُ الملائكة عند ميلادِه يُظهِر أنّه أتى إلينا من السماء جالِبًا السلام: «المَجدُ للَّهِ في الأعالي وعلى الأرض السَّلامُ وبالنَّاسِ المَسَرَّةُ» (لوقا 2: 14). عندما كان يُتَمِّمُ تَدبير خلاصِنا، ترك السلامَ لأصفِيائه ميراثًا إذ قال لهم: «سلاماً أترُكُ لكُم. سلامي أُعطِيكُم» (يوحنّا 14: 27). وأيضًا: «سالِمُوا بَعضُكُم بعضًا» (مرقس 9: 50)، وكذلك: «بهذا يعرِفُ الجميعُ أنَكُم تلاميذي: إن كان لكُم حُبٌّ بعضًا لبعضٍ» (يوحنّا 13: 35). وآخر صلاةٍ أعطانا إيّاها قبل صعوده إلى أبيه تُرسي محبَّتنا بعضنا لبعض: «لِيكونَ الجميعُ واحدًا» (يوحنّا 17: 21).
12. لا نَسقُطَنَّ من هذه الصلاة الأبويّة أو نرفضنَّ إرثَنا الذي من أبينا السماويّ، الذي هو خَتمُ نَسَبِنا إليه والدليل عليه. وإلّا، ربّما سنرفض أيضًا بنوَّتنا وبرَكتَنا وتَلمذَتنا، ونتخلّى عن الحياة التي وُعِدْنا بها. قد يُغلَقُ علينا خارج الخِدر الرّوحيّ، ونسمع أبانا وصانع السلام يقول لنا: «إنّي لم أعرِفكُم قطُّ! اذهَبوا عنِّي أيّها المُدانون بالكراهية والعداوة والفضائح» (راجع متّى 7: 23). لقد بَعَثَ السلام إلى العالم كلّه من خلال تلاميذة ورُسُلِه لئلّا يصيبنا ذلك.
13. ولهذا السبب يُلقي هؤلاء السلامَ في بداية عِظاتهم وكتاباتهم، ويُمَهِّدون لِحَديثهم قائلين: «نعمةٌ لكُم وسلامٌ مِن اللهِ». نحن أيضًا، كخُدّامٍ لبِشارتهم، نأتيكم الآن بالسلام. ومع بولس الرّسول نقول لكم: «اِتبَعُوا السَّلام مع الجميع، والقداسةَ التي بدونها لن يرى أحدٌ الرَّبَّ» (عبرانيّين 12: 14). إن كان الإنسان لن يستطيع أن يرى الله من دون السلام مع الجميع، فكيف سيرى الله في الدهر الآتي مَن لا يعيش بسلامٍ مع أبناء وطنه؟ كيف سيتجنّب أن يسمع: «في أرضِ الاستقامةِ يَصنَعُ شَرًّا ولا يرى جلالَ الرَّبِّ» (إشعياء 26: 10)؟ أرجو ألّا يسمع أحدٌ منّا هذه الكلمات المُدينَة، بل لِنَكُن متصالحين ومَجموعين إلى واحدٍ في سلامٍ ومحبّةٍ ووفاقٍ، وليكن ربّنا يسوع المسيح قائمًا في ما بيننا حَسبَ وَعدِه الصالِح. إنّه يُسَهِّل علينا صعوبة هذه الحياة، وفي الوقت المُناسب، سوف يَهَبنا الحياة الأبديّة والمجد والملكوت.
14. عَسى أن نحصُل جميعًا على ذلك من خلال نعمة وكثرة رأفة ربِّنا وإلهنا يسوع المسيح، مُعطي السلام، الذي له المجد والقدرة والكرامة والسجود، مع أبيه الذي لا بدء له والروح المُعطي الحياة، الآن وكل آنٍ وإلى دهر الداهرين. آمين.
https://www.johnsanidopoulos.com/2021/01/on-peace-with-one-another-timeless-and.html
1 ألقى القدّيس غريغوريوس بالاماس هذه العظة بعد دخوله مدينة تسالونيكي، في كانون الأول 1350 أو كانون الثاني 1351، بعد أن حرّرها الأمبراطور يوحنّا السادس كانتاكوزينوس من الغيارى (zealots)، بعد حربٍ أهليّة سبّبتها الخلافات السياسيّة-الدينيّة. يشجّع القدّيس غريغوريوس في هذه العظة المسيحيّين الأرثوذكسيّين على أن يكونوا في سلامٍ في ما بينهم، وأن يكونوا واحدًا في المسيح.