جهاد الصوم الكبير (الجزء 2/2)

جهاد الصوم الكبير (الجزء الثّاني).

الشّيخ أفرام أريزونا.

نقله إلى العربيَّة: جورج اللقيس.

 

بالطبع، يجب علينا أن نلتَزِمَ بالصوم فقط بقدر ما نستطيع، بِتَمْييز، فَلسنا جميعًا مُتَسَاوين. يقول المثل: «إن لم يَتمَّ العمل الصّالِح بصورَة جيّدة فهو ليس صالِحًا». بمعنى آخر، ما لم تتمّ مُمارسة الفضيلة بطريقة جيّدة أي في وقتٍ وبِمقدارٍ مُلائِمَين، ولكنها، بدلاً من ذلك، مورِسَت من دون تمييز، فسيكون ضَرَرُها أكثر من فائِدَتها. من المؤكد أن الصوم ضروريّ للغاية، وهو أمر نافع، لكنه وسيلة وليس غاية. إن للوسيلة غاية وهي التواضع. لهذا السبب نحتاج إلى تنظيم كل شيء وفقًا لتمييز الأب الروحيّ، وهو الشخص المُستنير بالروح القدس. سيُعلِن لك أبوك الروحيّ عن مقدار الصوم المناسب لك، وعن عدد المرّات التي تتناول فيها القربان المقدّس، وأين تُواجِه العدو، وما الذي يجب عليك فِعله في مختلف الأحوال التي تَمُرُّ بها. يجب ألّا نزيد على ما هو مناسبٌ لنا، فنحن بحاجة إلى الاعتدال في كل شيء، لأن الإسراف يُبطِل أي فائدة. إذَن، الصوم مُقدّس، لكنّه وسيلة. وعلينا أن ننظّمها حسب ما يقول أبونا الروحي، وما تسمح به قِوانا الروحية و الجسدية، ما دُمنا نمتلك حُسنَ النِيّة. يقول القدّيس باسيليوس الكبير إن هناك اختلافًا كبيرًا في المُرونة بين الناس كما هو الحال بين الحديد والعُشب.

أُصيبت القديسة سنكليتيكي بمرضٍ في الحَلْق في نهاية حياتها. كان حَلْقُها المبارك، الذي كان يَنطُق بكلمة الله دائمًا، يتقيّح من الداخل. لقد أنقذ فَمُها عددًا لا يُحصى من الناس. لقد طَلب الشيطان الإذن ليختبرها، فسَمح الله بذلك. أصبحت الرائحةُ الكريهةُ المنبعثة من جَسَدِها المُنْتَن سيّئة للغاية، لدرجة أن الراهبات واجهْنَ صعوبة كبيرة في تلبية احتياجاتها. لقد استخدمْنَ العطور ذات الرائحة الحادّة لمحاولة مَنْحِها القليل من الراحة من مرضها. عندما كان فَمُها سليمًا، كان يتكلّم ويُفيد كثيرين، ولكن عندما مرِضت، أصبحت قادرة على الكرازة بقوّة أكبر. لقد أعلنت بصمت عن صبرها العظيم واحتمالها التجربة التي سمح الله بها. لقد بذلت جهدًا جبَّارًا للتّعامل مع شيطان الاِستِيَاء و التَذَمّر، بسبب شدّة المرض وعَنائه. ما كانت حاجتها للصوم؟ ولهذا يُعتبر المرض نُسْكًا لا إراديًّا. رُبَّ شخصٍ مصاب بالسرطان، وآخر مصاب بالسكري، وآخر يعاني من مشاكل صحيّة مُضْنِية كثيرة. كيف سيطهّر هؤلاء الناس أنفسهم؟ وكيف سيعاينون نور الله؟ بالصبر وتقديم الشكر له. هؤلاء يُعَوِّضون الصيام الذي لا يستطيعون الالتزام به بسبب مرضهم. وفي الواقع، إنهم غالبًا ما يجاهدون عشرة أضعافٍ أكثر مِمّا لو كانوا صائمين.

خلال هذه الفترة، علينا أن نُجاهد حقًّا من أجل تنقية أَنفُسنا. وفي تقليدنا النسكيّ، لدينا نسّاك قضوا حياتهم كلّها في الصحراء، بِتَعَبٍ، وجُهدٍ، وأصوامٍ، ودموعٍ، ونومٍ على الأرض، وحرمان من كل أنواع الملذّات الأخرى. وكل هذا الجهد، المُقتَرِن بصِرَاع النفس ضد كل أنواع الأفكار المتعلّقة بِشَغَبِ الجسد، يولّد القداسة. فَحَرِيٌّ بكل راهب مسيحيّ، يريد اِختِبَار حالة التطهُّر، أن يُجاهِد وأن ينال الأجْر المُناسِب. إن الطهارة تجلب دالّةً عظيمةً نحو الله، لأنه هو نفسه طاهر. ووالدة الإله هي فائقة الطهارة، وقد عاش القديس يوحنا اللاهوتي حياته كبَتول، كما فعل قدّيسون كثيرون آخرون. إن جمال الكنيسة بكامله مؤسَّسٌ على الطهارة والنقاوة. عندما يكون قلبُنا نقيًّا وبَهِيًّا، سيفوح عِطرًا وينشر جمالًا. ولكن إذا كان لدى الناس رَجاسَةٌ في قلوبهم، فسوف يطردون هذا العطر والجمال. فلنجاهد من أجل تنقية داخل الكأس، أي قلبنا، حتى نكون أنقياء ومَرْضِيّين في عَينَي الله.

لدينا أمثلة من تاريخ الكنيسة عن أناس كثيرين "في العالم" (أي ليسوا رُهبانًا)، أرضوا الله وأصبحوا عُظماء. الأنبا بافنوتيوس [من مصر القديمة، واسمه يعني "رجل الله"]، هو ناسك ذو مواهب عظيمة، وقد صلّى ذات مرّةٍ إلى الله قائلاً:
«اللهمَّ، بِمَن جَمَعْتَني؟ مَن الذي يُشارِكُني مستوى الفضيلة ذاته؟».

فسمع صوتًا يقول له:
«في الإسكندرية رجلٌ فقير، سَكّافٌ، يسكن في قبوٍ. لديكما مستوى الفضيلة ذاته».
«لكنني كنتُ ناسكًا في الصحراء منذ الصِّغَر، وأنا مُتساوٍ في الفضيلة مع رجل علمانيّ متزوج؟».
«نعم، أنت مساوٍ له».

وفي اليوم التالي، أخذ القديس عصاه وكيسه، ووضع خبزًا يابسًا، وسافر إلى الإسكندرية. فقَصَدَ المدينة ووجد العلمانيّ فقال له:
«ماذا تفعل هنا يا صديقي؟»

«ماذا عليّ أن أفعل يا أبتِ؟ أنا رجلٌ خاطئ، أنا أسوأ شخص في العالم».

«هل يمكننا التحدث؟»

«بالتأكيد».

«ما هي الفضيلة التي تجاهد من أجل اكتسابها؟»

«الفضيلة؟، أنا؟ أنا أعيش ’في العالم’ وأنا مُشَوَّشٌ بالكامل. أنتَ الذي يقتني الفضائل».

«كلّا، أنت تفعل شيئًا ما».

«أنا لا أفعل أي شيء».

«لقد كشف لِيَ الله ذلك، فلا يُمكنك أن تَقُصَّ عليّ أكاذيب. لقد صلّيتُ وأخبرني أننا نتشارك مستوى الفضيلة ذاته. لا بُدَّ أن هناك شيءٌ مميّز فيك».

«آسف يا أبتِ. إذا كان من الممكن اعتبار ما أفعله شيئًا مهمًّا، فسأخبرك. تزوّجتُ، ومنذ اللحظة التي اعتَمَرتُ فيها الإِكلِيل، قلتُ لزوجتي: إذا كنتِ تحبّينني، فسنعيش منفصلَين، مثل أخٍ وأختٍ، و نسعَى من أجل تقديس نفوسنا. 'هل أنتِ موافقة؟'
'أنا موافقة'.
ومنذ ذلك الحين نعيش في عِفَّةٍ وبتولية».

في الصحراء، حاول المَغبُوط بافنوتيوس أن يطهّر نفسه من خلال حياة النُّسك والإِمساك، وساعده نهج حياته هذا كثيرًا. أما الرجل الآخر فقد عاش "في العالم"، مع زوجة، مع كل تحدّيات الحياة العلمانيّة، وبِعَون الله، وصل إلى رتبة قدّيس. وكان جهاده أعظم من جهاد الناسك. هذا دليل على أنه عظيم في عيني الله.

وبعد ذلك حدث شيء آخر يتعلّق بهذا السَّكّاف. في أحد الأيام، ذهب أحد المسيحيّين إلى المغبوط بافنوتيوس وقال:
«يا أبتِ، تشاجرتُ مع كاهنٍ ولا أعرف كيف كانت ردّة فعله، إن كان قد لَعَنَني أم شَتَمَني، لكنه الآن رحل عن هذه الحياة ولم نتصالح. ماذا أفعل الآن؟»

«ليس هناك ما يمكنني فعله في هذه الحالة، ولكن، هناك رجلٌ قدّيسٌ سأرسلك إليه وسيُساعدك. انزلْ إلى الإسكندرية، إلى القبو حيث يوجد هذا السَّكّاف. أخبرْهُ أنني أرسلتُكَ، أُذكر له المشكلة وسوف يُساعدك».

فقال المسيحي في نفسه: «بالله عليكم. الناسكُ لا يستطيع تقديم المساعدة والشخص العِلمانِيّ يستطيع؟» ورغم ذلك، طاعةً للناسك، فَعَل ما أُمِر به. طلب منه السَّكّاف الانتظار حتى حلول الليل، ثم أخذه إلى كنيسةٍ في المدينة. وبعد أن طلب منه الانتظار مرّة أخرى، ذهب السَّكّاف إلى الباب الكبير، ورسم إشارة الصليب، فانفتح الباب. كان داخلُ الكنيسة مغمورًا بالنور، وكانت تُسمَعُ فيها موسيقى سماوية. قال السَّكّاف للرجل:
«ادخل إلى هناك وانظر إلى الجوقتين على اليسار واليمين، سوف ترى الكاهن هناك».

دخل الرجل ورأى الكاهن في الجوقة اليسار ونال المغفرة منه.

هل رأيتم ماذا يُمكن أن يحقّقه الجهاد النُّسكِيّ؟ وماذا يمكن لجهاد النّفس أن يفعل؟ ماذا فعل هذا الشخص العِلمانِيّ لتطهير نفسه؟ عندما أخبر الفتاة التي تزوّجها أنهما يجب أن يعيشا مثل الأخ والأخت، هل كانت تلك نهاية الأمر؟ لا، بل صاما، وسَهِرا معًا، وسَجَدا، وقرأا الإنجيل. لقد قرأا الكُتب الآبائية، وذهبا إلى الكنيسة، واعترفا، وتناولا القُدُسات، وطردا الأفكار الشيطانيّة، وجاهدا بِكدٍّ. وهكذا أصبحا قدّيسَين "في العالم".

إذن، هذا دليل على أنه حتى "في العالم"، عندما يخوض المسيحيّون الجهاد بنيَّةٍ حَسَنة، فإن نعمة الله لا تستثني أحدًا. لكننا نختلق الأعذار لأنفسنا، ونقول إننا لا نستطيع ذلك لأننا "في العالم"، والشَهوَة تستَحوِذُ علينا. ماذا علينا أن نفعل؟ أن نُجاهِدَ بالجسد والنفس. وبعبارة أخرى، علينا أن نُسَيطِر على أفكارنا. تأتي الأفكار، والتخيّلات الخاطئة، والصور، والوجوه، والأصنام، والمَشاهد. وعلينا أن نطردَها فورًا بـصلاة «يا ربي يسوع المسيح ارحمني». عندما يكون الذِّهن يَقِظًا إزاء عدم قبول كل ذلك ويمتلك السلاح الإلهي، أي اسم المسيح، فهو يقتل كلَّ عدوٍّ لنفسنا، سواء كان الشيطان، أو التخيّلات المَقيتة، أو الأفكار الخَبِيثة. فإذا احترَسْنا على نفوسنا، وأذهاننا، وقلوبنا بهذه الطريقة، فإنّ ذاتنا الداخلية ستبقى طاهِرة ونقيَّة.

فلنجاهد بِبَسالةٍ الآن، وستكون المكافآت عظيمة جدًا. لا يَجدُ أحدٌ النّعمة إلا إذا بَذَل الجُهد. إذا لم يعتنِ المزارعُ بِزَرْعِه، فلن يرى أيَّ ثَمَرٍ. عندما يكون صومُنا مَصْحوبًا، ومُعَزَّزًا ومُحاطًا بالصلاة، والمُطَالَعَة، والسَّهر، والحضور إلى الكنيسة، والاعتراف، والمناولة المقدَّسة، والأعمال الصالحة، وخاصة الصَّدَقات، فحينئذٍ تكتمل صورة جمال تهيئة النفس لاستقبال الأسبوع العظيم. عندها، سنختبر آلام المسيح المقدّسة بِعُمقٍ، لأن قلوبنا سَتَلين وتتغيّر وتُدرِك مدى عِظَم محبة الله للبشريّة. ثم سنختبر في داخلنا القيامة المقدَّسة بقوّة شديدة، ونحتفل بها كما يليق بالله، ونحتفل بالفصح المقدّس مع الملائكة. آمين.

https://pemptousia.com/2023/02/the-struggle-of-great-lent-%ce%b9i/