خمسُ خُطُواتٍ إلى المسيح، الجزء 1/2، خمسة مساميرَ في صليب كلّ مسيحيّ

في مواجهة الخطايا الرّئيسة

خمسُ خُطُواتٍ إلى المسيح.

الجزء الأوّل: خمسة مساميرَ في صليب كلّ مسيحيّ.

في مواجهة الخطايا الرّئيسة.

القدّيس سيرافيم (زفيزندسكي) أسقف دميتروف.

نقلها إلى العربية: الياس الأشقر

 

هذه الأطروحة الكلاسيكيّة، للقدّيس الرّوسيّ المعاصر، سيرافيم (زفيزندسكي)، تستوجب القراءة، وإعادة القراءة.
 

كانت للطّغاة، الّذين في الشّرق، في العصور القديمة، خصوصًا في بلاد الفرس، وسيلتان فظيعتان وبَغيضتان للعقاب. كانت إحداهما، ربط المحكوم عليه بِجُثّةٍ متحلّلةٍ، وإحكام ربط يدي الجثّة حول عنقه. وكانت عينا الرّجل الميت المهترئتان، تحدّقان دومًا في عينَي المحكوم، الّذي كان يشمّ رائحة العفونة الصّادرةَ من الجثّة. كان يحتمل هذا الوِزر الرّهيب أينما ذهب، في صحوَته، وفي نومِه.

أمّا العقوبة الأخرى، فكانت وضع الرّجل المُدان عريانًا على لوحٍ، وإحكام تثبيت يديه ورجليه عليه. ثمّ كانوا يأتون بِجُرذٍ، ويضعونه على بطنه، مُغطًّى بوعاءٍ فخاريٍّ، وهذا الوعاء كان يُحمّى بمكواةٍ حارقة. فعندما يسخن الوعاء، كان الجرذ يلهث من العطش، ولأنّه لن يجد سبيلًا للخروج؛ كان يقضم معدة المحكوم عليه، إلى أن يبلغ أحشاءَه، مسبِّبًا آلامًا فظيعةً.

أصدقائي، في عصرنا الثّقافيّ والحضاريّ هذا، عصرِ الاكتشافات العظيمة، ما زالت هاتان العقوبتان، سائرتَي المفعول. يحمل العديد منّا، جثّةَ رجُلٍ هامدَةً على ظهره، وهي الإلحاد؛ والإلحاد هو نفسُه، الجرذ الّذي يقضم أحشاءنا. والبشر يحملون هذه الأعباء الفظيعة؛ لأنّ الجلّاد الرّهيب (الشّيطان)، يُحضِّر العقوبة لهم. أوّاه! ما هذا العذاب الّذي لا يُطاق؟

يا أصدقائي، إذا ذهبتم إلى المقابر، وقام الّذين دُفنوا كلُّهم هناك من قبورهم، وأحاطوا بكم، وتجوّلوا كظلالٍ شاحبةٍ من حولكم، ألا يرتجف قلبكم؟ ألن تسعَوا إلى الهرب منهم؟ لكن غالبًا ما نتجوّل حول الموتى الأحياء. أليس غير المؤمنين أمواتًا؟ أليست نفوسُهم هي أيضًا مَيّتة؟ ألا تنطبق كلماتُ رؤيا القدّيس يوحنّا اللّاهوتيّ علينا: «أنتَ تظنّ أنّك غنيٌّ، لكن أقول لكَ إنّكَ فقيرٌ وبائسٌ وميّتٌ». (رؤيا 3: 17).

إذن، قد يبدو لنا أنّنا أحياءٌ، لكن في الحقيقة، إنّ نفوسَنا مَيّتةٌ بسبب الخطايا؛ لأنّ الخطيئة، تقتل روح الله فينا. فلذلك، واجبٌ علينا أن نصرخ جميعنا: «يا يسوع القائم، أقِمْ أرواحنا».

يقول القدّيس بولس الرسول في الرسالة إلى أهل غلاطية: «حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلَّا بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ ٱلْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ» (غلاطية 6: 14). على كلّ مسيحيٍّ أن يُصلَب للعالم، على الصّليب. ولكلّ واحدٍ مسامير؛ أربعةُ مساميرَ، يُسَمَّر بها على الصّليب. يوجد أيضًا حربةٌ تطعن القلب.

ما نوع الصّليب الّذي يمتلكه المسيحيّ؟ هذا الصّليب يُدعى التّخلّي عن العالم. واجبٌ رفضُ العالم. ليس العالم الّذي تُشرق الشّمس فيه، وليس الّذي تُزهر الزّهور الجميلة فيه. لا، فعبرَ هذا العالم، يمكننا أن نعرف الخالق، ونعظمّه. يجب علينا أن نبتعد منَ العالم الآخر، العالمِ ٱلْفَاسِقِ ٱلْخَاطِئِ، كما يسمّيه الرّسول مرقس. (مرقس 8: 38).

يتحرّك هذا العالمُ، على عربةٍ جُهنميّةٍ، مكوّنةٍ من ثلاث عَجَلاتٍ، كما يذكر الرّسول الطّاهر أيضًا. هذه العجَلاتُ، هي شَهْوَة الْجَسَدِ، وَشَهْوَة الْعُيُونِ، وَتَعَظُّم الْمَعِيشَةِ (1 يوحنّا 2: 16). وبوساطتها، تتّجه عربة العالم مباشرةً إلى هاوية الجحيم، إلى مملكة إبليس.

العجَلةُ الأولى، هي شهوة الجسد: تصيبُ الّذين يعيشون في النّجاسة، والّذين يقطعون رباط الزّواج (وهذا يحدث كثيرًا في عصرنا، ما يسبّب لنا حزنًا عظيمًا)، والّذين قطعوا وعدًا بحفظ بتوليّتهم، ومن ثمّ أخلَفوا الوعد.

العجَلة الثّانية، هي شهوة العيون. هذا ما يحدث عندما نخطئ بِنَظَرِنا، عندما نُدنّس طهارة نفوسنا عبرَ عيوننا. مثلًا، عندما نُعجَب بجمال شخصٍ ما، ولا نُمجِّد الله، بل نُرضي أنفسنا بأفكارٍ ورغباتٍ دَنِسة. النَّظَراتُ، الّتي تُؤثّر في الجانب العاطفيّ للرّوح، تُعَدّ أيضًا شهوة. يجب نقش العبارة الآتية، على أبواب المسارح: «شهوة العيون». عندما يَشغَفُ الرّقصُ نفوسَنا، ننجرّ لهذه الشّهوة.

يحدث تعظّم المعيشة، عندما يسعى الإنسان إلى فعل كلٍّ شيءٍ بنفسه، وبطريقته الخاصّة، وينزعج عندما يعارضه الآخرون: «كيف لهم ألّا يستمعوا لي؟ هل أنا على خطأ؟ مستحيل». إننا غالبًا ما نتمسّك بشدّةٍ بهذه الرّغبة.

هذه هي العربة، الّتي تقود العالم ٱلْفَاسِقِ ٱلْخَاطِئِ. وعندما يتبع الإنسان طريق التّخلّي عن العالم، فلا بدّ لهذه العربة من أن تظهر وتلتقيه، لِتُغريه، ولِتجبره على اتّباعها. سوف تحاول عرقلة مَسيرِهِ لإيقافه. تتّجه هذه العربة في طريق، وأمّا الإنسان، الّذي تخلّى عن العالم، يتّجه في طريق آخر. وواجبٌ على كلّ مسيحيٍّ، أن يكون مصلوبًا على صليب التّخليّ عن العالم. ليس الرّاهبُ وحدَه، مَن يتخلّى عن العالم؛ بل كلّ مَن يُسمَّى مسيحيًّا. كلّهم، لا يستطيعون أن يحبّوا العالم، ولا الّذين هم في العالم.

للمسيحيّين أربعةُ مسامير، تُثبّتهم على الصليب. الأوّل هو إنكار الذّات: هذا المسمار يثقبُ اليد اليُمنى؛ لأنّها غالبًا ما تصنع وتعمل. إنّها صورةٌ لمبدإ النّشاط، وهي مُسمَّرةٌ بمسمار إنكار الذّات. ماذا يعني أن ننكر ذواتنا؟ ألّا نعطي ذواتنا أيّ اهتمامٍ أو ملاحظة. إذا وَبَّخوكَ، لا تنزعج؛ إذا مدحوكَ، لا تبتهج. وكأنّهم يتكلّمون على شخصٍ آخر.

المسمار الثّاني، هو الصّبر. وهو الذي يُسَمِّر اليد الشِّمال؛ لأنّها تُعَدّ رمزًا للشّرير، وعكسَ الخير. إنّ رِجل المسيحيّ اليُمنى، مُسمرّةٌ على الصّليب بمسمار سِهرانيّات الصّلاة، والمُثابَرة على الصّلاة. «صلّوا بلا انقطاعٍ» تقول كلمة الله (1 تسالونيكي 5: 17). إنّه لَمِنَ الضّروريّ - وإن كان الجسد في حالة رقاد النّوم، أو في حالة الرّاحة - أن تكون الرّوحُ يَقِظةً، ومُصلِّية.

المسمار الرّابع، الّذي يثقب رِجل المسيحيّ الشِّمال، هو عمل الصّلاة. إنّه من الخطأ القول إنّ الصّلاة سهلةٌ، أو إنّها حالةٌ من الفرح. لا، فالصّلاة هي عمل. يقول الآباء القدّيسون، إنّ الإنسان عندما يُصلّي بسهولةٍ، وبفرحٍ، لا يكون هو مَن يُصلّي؛ بل ملاكٌ مِن الله يُصلّي معه، وهذا أمرٌ جيّدٌ له. عندما لا تصلّي جيّدًا، وعندما تشعر بالتّعب وتكون بحاجةٍ للنّوم، وعندما لا ترغب في الصّلاة، ولكنّك تصلّي بالرّغم من ذلك، حينها تكون صلاتُك مرضيّةً لله؛ لأنّك تصلّي بِكُليّتك، وتجتهد من أجل الله، وهو يرى جهادك، ويفرح به.

كثيرون يقولون: «لمْ أُصلِّ هذا الصّباح. لم يكن لي مزاجٌ للقيام بذلك». المسيحيّ الجاهل، هو من يتفوّه بهذا. عندما لا يكون لك المزاج للصّلاة، اِذهبْ حينذاك إلى الكنيسة، وَانتصِبْ من أجل الصّلاة، لكي تكونَ رِجلاك كأنّهما مُسَمَّرتان على الصّليب. فالإنسانُ المُسَمَّر، لا يُمكنه التّحرّك؛ لذلك سخّر رِجلَيكَ في الوقوف للصّلاة، والجهاد.

يلبسُ كلُّ مسيحيٍّ على رأسه، إكليلًا من شوكٍ، ألا وهو أفكاره؛ فالأفكارُ مُعلَنةٌ للمسيحيّ دومًا. إنهّا تخترقنا، مثل الشّوكة. الإنسان يقف للصّلاة، وتنبت أفكارُه، فيضطرب في الكنيسة، حتّى أمام الكأس المانِحة الحياة. هذه الأفكار تزعجنا، وهي غالبًا ما تكون رهيبة. فهي تُخيف الإنسان، وعليه أن يستأصلها. يا لها من عمليّةٍ مؤلمة!

إنّ الحَربة، الّتي يخترق قلب المسيحيّ، هي حبُّ المسيح. فكلّ من لديه هذا الحبّ، يرى الرّبَّ الكلّيَّ الحلاوة أمامه دائمًا؛ كلُّ من يمتلك هذا الحبّ، يسمع في نفسه دومًا صلاة: «ربِّ يسوع المسيح، يا بن الله، ارحمني». إنسانٌ كهذا، لا يملك وقتًا للتّفكير في الأرضِيّات، ففكره يكون دائمًا مأسورًا بصورة مُخلِّصِه؛ لا يملك وقتًا لِيَدين الآخرين، أو ليحلِّلَ أفعالَهم، فهو يدين نفسَه فقط، كي لا يسيءَ إلى إلهه المحبوب. إنّ القدّيسَ إغناطيوس، الحاملَ الإله، امتلك مثل هذا الحبّ. لقد صاح: «آه، يا حبّي...»

إنّني أصلّي لله ألّا يركب أحدٌ منكم عربةَ العالم، وألّا تلمسكم أيّ عَجلةٍ، وأن تُصلَبوا على الصّليب دومًا، مُحتملين جراح المخلِّص. ربِّ، يسوع المسيح، نُصلّي لك. أهِّلْنا لأن نُصلَب ونُدفَن معك، على رجاء القيامة للحياة الأبديّة معكَ... يُمكن أن تموتَ نفسُنا، وتُصبحَ غذاءً للدّيدان؛ فالدّيدان، الّتي تُعذِّب نفسَنا، هي أهواؤنا وخطايانا. يُوجد أعدادٌ لا تُحصى لمثل هذه الدّيدان في نفوسنا، فلدينا الكثير والكثير من الخطايا، بالقول، وبالفعل، وبالفكر. إنّنا نُخطئ بهذه الطّرائق كلّها. كما يقول المُرنّم: لأنّ مآثمي قد تعالت فوق رأسي (مزامير 37 : 4). كم لدينا من الخطايا!

 

https://orthochristian.com/149237.html