أكاذيب المسكونيّة، وحقيقة الأرثوذكسيّة – جزء 5
المسكونيّة وتحويل اللاهوت إلى فلسفة مدرسيّة
إعداد: روني سعيد
الأكذوبة المسكونيّة الخامسة: اللاهوت المسيحي بُنِيَ على الفلسفة اليونانيّة.
إنَّ الذين تركوا ينبوع الحياة والحقيقة، قد لجأوا – كما نَوَّهنا من قبل – إلى أطاريح فلاسفة اليونان المتضارِبة والنّابِعة من تحليلات بشريّة، فوصل بهم الأمر إلى ابتداع مسيحيّة جديدة لم يأتِ بها المسيح، ولا عرفها أيٌّ من الرّسل. والحقيقة أنَّ ما حصل في الغرب – والمقصود به غرب أوروبا لا غرب العالم كلّه – كان استبدالًا تامًّا للنَّهج الآبائي القائم على الكشف الإلهي، والجهاد الروحي للتطهّر من الأهواء والاستنارة الذهنية، بالنَّهج الفلسفي الأفلاطوني ثم الأرسطي بعد ذلك مع توما الإكويني.
ولمّا كان الباحثون في الغرب، يتعاملون مع اللاهوت باعتباره فلسفة وسيطيّة لا إعلان إلهي ثابت وخبرة القديسين الواحدة، فإنّهم يركّزون في أبحاثهم على المعلِّمين المسيحيّين المتأثِّرين بالفلسفة، أكثر من تركيزهم على القدّيسين المتألِّهين الذي لا يستقون أفكارهم اللاهوتيّة من فلاسفة اليونان. وهكذا، يَصِلون إلى استنتاج بأنَّ اللاهوت المسيحي بشكلٍ عام بُنِيَ على الفلسفة الأفلاطونيّة في الشَّرق، ولاحقًا على الفلسفة الأرسطيّة في الغرب.
مِمّا لا شكّ فيه، أنَّ تحويل اللاهوت إلى فلسفة مدرسيّة، يُقَوِّض سلطة هذا اللاهوت العقائديّة، ما يجعله مُتاحًا للتغيُّر، أو الانتقائيّة، أو التَّعديل والتَّحديث. وهذا ما تريده الحركة المسكونيّة، لتبني لاهوتًا جديدًا على أنقاض اللاهوت الأرثوذكسي الذي تعتبره قديمًا وغير صالح لعصرنا هذا، وهذا اللاهوت الجديد ليس إلا لاهوت العصر الجديد، وديانة المستقبل الواحدة.
الحقيقة الأرثوذكسية المضادة: اللاهوت المسيحي بُنِيَ بالروح القدس.
صراعات الفلسفة اليونانيّة لا تَخُصُّ الكنيسة بل العالم، وهي لم تَعنِ لها شيئًا يومًا؛ والقول بأنَّ اللاهوت المسيحي الآبائي بُنيَ على الفلسفة اليونانيّة هو قولٌ اعتباطيّ بعيد عن روح التمييز، وهذا طبيعيّ حين تكون مصدر هذه الفكرة هي دراسات "علماء" آبائيّات غربيّين. فمعظم هؤلاء الباحثون في الغرب، لا سيّما المعاصرون منهم، يتعاملون مع "جميع شخصيّات العصر الوسيط" بشكلٍ متساوٍ، بمعنى أنَّ القديس المستنير ذهنه بالنسبة لهم، هو كالفيلسوف الذي عمل على دَمْج المسيحيّة بالفلسفة اليونانيّة.
والواقع، أنَّ الآباء القديسين لم ينقلوا إلّا ما تسلّموه من الرسل والآباء الذين قبلهم، من دون أن يأخذوا أو يسرقوا ولو فكرة واحدة من الفلسفة اليونانيّة لم يأتِ بها المسيح ولا علّم بها الرسل. فهم عرفوا بوضوح أنَّ الحقيقة لم يصل إليها أيٌّ من فلاسفة اليونان، لسببٍ بسيط وهو أنّ الإنسان لا يستطيع بإمكانيّاته المحدودة أن يصل إلى اللامحدود؛ لا يُبلغ إلى الحقيقة الإلهيّة بالفلسفة، ولكن بالكشف الإلهي. وطالما أنَّ الفلسفة لم تنفع في الوصول إلى الحقيقة أو تَعَلُّمِها قبل مجيء المسيح، فهي لن تنفع بعد تجسّده.
ليس آباؤنا وحدهم مَن عرفوا استحالة معرفة الله – وكل ما يتعلّق بالروحيّات – عن طريق المناهج الفلسفيّة، بل إنَّ أعظم الفلاسفة اليونان قبل المسيح قد اكتشفوا هذا الأمر واعترفوا به جهارة. فها هو أفلاطون سيّد هؤلاء الفلاسفة يتكلّم بلسان معلّمه سقراط قائلًا: "من واجب الفيلسوف الحقيقي أن يعتقد اعتقادًا قويًا أنّه لن يلقى الحكمة الخالصة إلا بعد الموت" 1. ناهيك عن أنَّ سقراط بقي عاجزًا عن إعطاء أجوبةٍ شافية لكبرى المسائل لدرجة أنّه قال قبل إعدامه بقليل: "ها قد حانت الساعة للرحيل، أنا لأموت، وأنتم لتعيشوا. مَن مِنّا يذهب إلى المصير الأفضل؟ الأمر غير واضح أمام الجميع، باستثناء الإله"2.
إنَّ المَغبوط ثيودوريتوس القورشي – وهو أهم من ردَّ على فلاسفة اليونان بشكلٍ شامل – يتعجّب كيف أنَّ اليونانيين يتباهون بفلاسفتهم، وهم ليسوا إلا "مخترعي عددٍ لا يُحصى من النَّظَريات"3، فلا نجد فيلسوفًا يتّفق مع الآخر بل الكلّ في صراعٍ شرسٍ مع الكل، حتى إنَّنا نرى التلميذ يَشُنُّ حربًا على أستاذه. هذا ما يؤكّده أفلاطون نفسه في محاورة تياتيتوس، إذ يقول: "ليس بينهم مَن هو تلميذ لآخر وإنّهم لَيَنْبُتون بمفردهم فيَتَلَقّون إلهامَهم المُتبايِن من أي ريح تهبّ، وكل واحد منهم يَعُدّ غيره عديم المعرفة بشيء"4. ومع ذلك، لا ينبغي – بحسب المَغبوط ثيودوريتوس – أن ننذهل من هذا الكَمّ من التناقض والتعدّد في النظريات، لأن "الطرق الخاطئة تتفرّع بلا نهاية"5.
إلا أنَّ المَغبوط ثيودوريتوس يرى أنّهم "مَعذورون، لأنّهم لم يستفيدوا لا من الشُّعلة التي حَمَلَها الأنبياء، ولا من نور الرسل، فلم يكن لهم مُعينٌ سوى الطبيعة وحدها... فَهُم – بمعالجتهم المسائل الإلهية – لم يستطيعوا أن يميّزوا الحق (من الباطل) في آرائهم"6.
وحتى لا يكون الدَّليل من أفلاطون وحده، سوف نستشهد بالفيلسوف بورفيريوس الصّوري (234-305)، المعاصر لكثير من آباء الكنيسة القديسين، والذي عاش في القرن الثالث بعد تجسّد المسيح. هذا الفيلسوف معروفٌ بعدائه للمسيحيّين، إذ وضع مؤلَّفًا بعنوان "ضد المسيحيين7" الذي فيه يهاجم الإيمان المسيحي بشكلٍ لم يسبقه إليه فيلسوفٌ يونانيٌّ آخر.
كلُّ هذا لم يمنع بورفيريوس من الاعتراف أنَّ الحقائق الفلسفيّة ليست عند اليونانيين سوى "تَخمين" وآراء قابلة للنقد، إذ يقول في رسالته إلى المصري أنيبون: "...سوف أبدأ بمعالجة موضوع الآلهة والأبطال (العباقرة)، وكذلك العقائد الفلسفيّة المتعلّقة، والتي قد قيل فيها الكثير من الأشياء من قِبل الفلاسفة اليونانيين، ولكنها– في معظمها – لا تؤسّس مصداقيتها إلّا على التَّخمين8"، ويشير في الرسالة نفسها إلى السبب الحقيقي الكامن وراء اعتبار الكتابات الفلسفية آراءً تقبل الشكّ بقوله: "إنَّ لدينا العديد من الصراعات الحمقى بيننا، لأنّنا نعتمد على القياس (المنطق) البشري لنشكّل صورةً عن الخير9".
وبعد أن التمس المَغبوط ثيودوريتوس العُذر لفلاسفة ما قبل المسيح، يتكلّم عن المسيحيّيين "الفلاسفة" مُوَبِّخًا إيّاهم: "ولكن الآن وقد طلعت الشمس... ماذا يتبّقى من كلام لندافع عن أولئك الذين هم عُميان في وضح النهار ويحجبون أعينهم كي لا ينتفعوا من النور؟"10
فكيف للعقل المحدود أن يسع اللامحدود؟ كيف للحقيقة الأزليّة اللامخلوقة أن تدخل العقل البشري المخلوق؟ وقد كان لسقراط الجرأة والتواضع للإعتراف بذلك حين سألوه "هل تعتبر نفسك حكيمًا" فأجاب: "أنا الحكيم الوحيد في أثينا لأنّي الوحيد الذي أعترف بأنّي لا أعرف شيئًا"! وفي أحد محاوراته عن الخير المطلق انتقده غلوكون في أنّه يتعرّض إلى آراء الآخرين دون أن يُكَوِّن رأيًا خاصًا به، فأجاب سقراط: "أمِنَ الصواب أن يتكلّم المرء في ما لا يعلمه بصورة من يعلَم؟" وقال سقراط أيضًا لغلوكون: "إنّي لا أثق بمقدرتي. وأخشى أن يجعلني تَهَوُّري الأخرق موضوعَ هُزءٍ. فيا سيّدي العزيز، دَعْنا نطوي عن كل بحثٍ يتعلّق حول ’الخير الأعظم’ في الوقت الحاضر، لأني أرى ذلك أسمى مما أُتيح لنا بلوغه في شوطنا الحالي."
وبعد شهادات الفلاسفة أنفسهم، لسنا نحتاج إلى شهادات القديسين يوحنا الذهبي الفم، باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي وغريغوريوس بالاماس، الذين درسوا كلُّهم الفلسفة، ولكنّهم اتّفقوا جميعهم أنَّ العقل لا يستطيع بالفلسفة أن يفهم شيئًا عن الله، بل إنَّ الكشف الإلهي يعطي الحقيقة الكاملة والشافية؛ إلا أنَّنا سنستشهد أخيرًا بالقديس الشهيد "يوستينوس الفيلسوف"، هذا الذي انتقل من الفلسفة العقليّة إلى الفلسفة الحقيقيّة المُعلنَة من الله، إذ يقول في مؤلَّفِه "حوار مع تريفون": "...غير أن نارًا اشتعلت فجأةً في داخلي فأحببتُ أولئك الأنبياء، حَمَلَة الحق، وجميع أصدقاء المسيح. ولمّا تَمَلّأت منهم وأمعنتُ النظر في أقوالهم أدركت أن فلسفتهم هي الفلسفة المفيدة. تلك هي الأسباب التي قادتني الى الفلسفة وجعلتني فيلسوفًا" (الفصل الثامن).
وما زال العالم بعد مرور أكثر من 1500 سنة على رقاد المَغبوط ثيودوريتوس، يحاول بعقله وحده، وبمناهجه العلميّة والفلسفيّة التي يفتخر بها، أن يصل إلى المعرفة اللاهوتيّة الحقيقيّة. ولكن يحدث اليوم ما هو أسوأ، إذ لا يقوم بذلك فلاسفة وثنيّون لم يتلقّوا البشارة المسيحيّة وتعاليم الآباء الرسل والقديسين، إنّما من يقومون بذلك هم مسيحيّون وما أكثرهم، الذين جعلوا من اللاهوت فلسفة خاصّة بالنُّخبة المُثَقَّفة وذوي الشهادات الجامعيّة الرَّفيعة؛ ظنَّ أولئك "اللاهوتيّون" الفلاسفة أنّهم بحكمتهم قادرون أن يفهموا اللاهوت أكثر من الآباء الأوّلين ومن بولس الرسول نفسه، إلا أنّهم لا يعرفون أنَّهم يقدّمون فلسفةً من دون حكمة، ولاهوتًا من دون إله، وعنصرة من دون روح قدس، بل ومسيحيّةً من دون المسيح يسوع!
1 أفلاطون، فيدون، ط3، ترجمة د. عزت قرني، القاهرة، دار قباء، 2001، فقرة 68، ب.
2 أفلاطون، فيدون، 42، أ.
3 Théodoret de Cyr, Thérapeutique des maladies hélléniques, traduction et notes de Pierre Canivet, Paris, Ed. Du cerf, 1958, p. 139.
4 أفلاطون، محاورة ثياتيتوس، ترجمة د. أميرة حلمي مطر، القاهرة، دار غريب، ط1، 2000، 180، ج.
5 Théodoret de Cyr, p. 139.
6 Ibid., p136
7 جاء في مقالةٍ لبيار بياتريس في "Kernos"، المجلة الدولية والمتخصصة في الديانة الإغريقية القديمة، ما يلي: "نحن لا نعرف بشكلٍ دقيق لا تاريخ كتابة هذا المؤلف، ولا بنيته، ولا مضمونه الكامل. إنّما ما نعرفه فقط هو أنّه كُتب في صقلية بعد العام 271 م، وأنّه يحتوي خمسة عشر فصلًا". ثم نقرأ في المقالة نفسها إنَّ المؤلف يحتوي على "هجومٍ عنيف" و"نقدٍ قاسٍ" للديانة المسيحية "الجديدة وقتها". ثم يتابع المقال ليتحدث كيف نقد آباء الكنيسة هذا المؤلف، حتى تم وضع الحرم الكنسي عليه؛ وكيف أنَّ كتابات الآباء هي أكثر من حفظ لنا شذرات من هذا الكتاب المفقود فضلًا عن المؤرخ الكنسي الشهير يوسابيوس القيصري. يُذكر أنَّ اسم "بورفيريوس" أصبح وقتها مضرب مثلٍ للدلالة على الهرطقة والإلحاد والتجديف على الله.
أنظر:
Pier Franco Beatrice, "le traité de Porphyre contre les chrétiens", Kernos, Centre international d'étude de la religion grecque antique, no4, 1991, p119-138
8 الرسالة إلى أنيبون المصري، 29 في:
Eusèbe de Césarée, La preparation évangélique, trad. Par Eusèbe Pamphile, Paris, Gaume Frères, 1846, Tome 2, Livre XIV, chapitre X.
9 الرسالة إلى أنيبون المصري، 45 في: Ibid.
10 Théodoret de Cyr, p. 138.