أكاذيب المسكونيّة، وحقيقة الأرثوذكسيّة – جزء 4
البابويّون: خلاف سياسيّ أم هرطقة عقائديّة
إعداد: روني سعيد
الأكذوبة المسكونيّة الرابعة: عام 1054 حصل انشقاق بين الشرق والغرب، نتيجة للتباعد الجغرافي، والثقافي، والسياسي. والجماعات الغربيّة هي "كنائس شقيقة".
يحاول المسكونيّون، لدى حديثهم عن انشقاق الغرب اللاتيني، التقليل من دور العوامل العقائديّة إلى حدّ تهميشها كليًّا. فتارةً، يتحدّثون عن تباين ثقافي بين شرقٍ أفلاطونيّ وغربٍ أرسطيّ، باعتبار أنَّ اللاهوت المسيحي – حسب زعمهم – لم يُصَغ إلّا بالاعتماد على الفلسفة اليونانيّة. وطورًا، يتناولون مسائل التنافس السياسي القائم بين الشرق الغرب في العصور الوسيطة، مدّعين أنَّ الانشقاق حصل عندما وصل هذا التنافس إلى ذروته.
وفي معظم الأحيان، يُقصد بالغرب ليس فقط الكاثوليك، بل سائر الشيع البروتستانتيّة أيضًا؛ إذ يقول مثلًا مطرانٌ أنطاكيٌّ سابق، معروف بترويجه الواسع للمسكونيّة: "المسيحيّون كلّهم لا يختلفون في مضمون إيمانهم ... بتبسيط الكلام ليس من اختلاف جوهريّ في العقيدة بين المسيحيّين ... نحن والكاثوليك والإنجيليّون، نقول في المسيح قولًا واحدًا ... اختلفنا في الكلام ولم نختلف في حقيقة إيماننا ... على صعيد الكلام في المسيح، كلّنا مستقيمو الرأي. الباقي كلام في غير المسيح".
ومن أجل الإقناع برؤيته المسكونيّة، يشير هذا المطران إلى أنَّ الأرثوذكسيّين يؤمنون بسبعة مجامع كبرى، وكلّها يؤمن بها الكاثوليك أيضًا. ثم يتحدّث عن أنَّ اللاتين الكاثوليك والأرثوذكسيّين يؤلّفون كنيسة واحدة، إذ لم يؤدّ الانشقاق الحاصل إلى هدم الوحدة الكنسيّة، بل تبقى الكنيسة هي المؤلّف الحاصل منهما معًا. من هنا، جاءت تسمية "الكنائس الشقيقة" التي اخترعتها روما، وتبّناها المسكونيّون "الأرثوذكسيّون" على رأسهم المطران المذكور، الذي يشمل البروتستانت في هذه "الأُخوّة" قائلًا: "أنا أرتضي من المسيحيّين من لا يخاطب مريم في الصلاة، على ألّا يكفّر الذين يخاطبونها. صلِّ كما شئت ولا تفصلْني عنك".
الحقيقة الأرثوذكسيّة المضادة: "هرطقات الغرب" هي التي أدّت إلى انشقاقه عن جسم الكنيسة "الواحدة".
لو لم ينغمس الغرب اللاتيني في الهرطقة من رأسه إلى أخمص قدمَيْه، انغماساً يتعذّر النهوض بعده، لكان من المستحيل للانشقاق أن يحصل، ولو اجتمعت العوامل الدنيويّة قاطبةً من ثقافيّة وسياسيّة وغيرها. فالله لا يمكن أن يسمح بأي انشقاق عن كنيسته، إلا إذا كان هناك "هرطقة" تشوّه الإيمان، وتهدم مسيرة خلاص الإنسان.
لم يعد المسيحيّون في هذا الزمان البائس، يؤمنون بأيّ نواميس إلهيّة وروحيّة تسوس العالم، إذ يُرجِعون كلَّ حدثٍ لعوامل دنيويّة بالدرجة الأولى؛ لقد نسوا أنَّ الله هو الضابط الخليقة بأسرها في قبضته، القائل لأبنائه: "شعور رؤوسكم جميعها محصاة" (متى 10: 30)، الذي أكّد لهم أنَّ عصفورًا صغيرًا لا يسقط إلا بإذنه، وأوصاهم هكذا: "لا تخافوا، أنتم أثمن من العصافير جميعًا" (متى 10: 29)؛ فكم بالحريّ هي ثمينةٌ كنيسته المقدّسة التي دُعيت "كنيسة الله"؟ كيف يمكن أن يسمح الله بانفصال "روما العظيمة" (سابقًا) عن كنيسته المقدّسة، لو أنّها لم ترتدّ حقيقةً عن جوهر الإيمان العقائديّ؟ هل يظنّ المسيحيّون أنَّ الله نائم؟
ولن ندخل في تفاصيل البدع التي استحدثها الغرب، وكيف ارتدّ عن الإيمان الحقيقي، فهذا يحتاج إلى بحثٍ مستقل ومتكامل1؛ ولكن يهمّنا هنا توضيح بعض النقاط وأوّلها أنَّ المجامع الكبرى المسكونيّة ليست سبعة، ومن المؤسف أنَّ أسقفًا أو كاهنًا "أرثوذكسيًّا" يجهل أو يتجاهل ما هو مفترض أن يكون بديهيًّا. يبدو أنَّ التاريخ توقّف لديهم عند القرن الثامن، فتناسوا المجامع التي عقدتها الكنيسة لمواجهة البدع المحارِبة للإيمان الأرثوذكسي. فالمجمع الذي انعقد عام 879-880 "زمن القدّيس فوتيوس الكبير، بطريرك القسطنطينيّة حينذاك، اشتركت فيه الكنيسة جمعاء، بما فيها كنيسة روما، قبل الإنشقاق، والبطريركيّات الشرقيّة كلّها. ومجامع أخرى محليّة أو مناطقيّة عديدة، واحد منها نال قبولاً أرثوذكسيًّا شاملاً (بمثابة مسكوني)، وهو الّذي انعقد في القسطنطينيّة أيضًا، سنة 1351، زمن القدّيس غريغوريوس بالاماس أسقف تسالونيكي"2.
وتفاديًا للإطالة، سوف نركّز فقط على مجمع القديس فوتيوس الكبير الذي أدان عقيدة انبثاق الروح القدس من الابن (Filioque). لا تقلّ أهميّة هذا المجمع عن أي مجمع مسكوني آخر؛ فقد "حملت التحديدات والقوانين، في نهاية المجمع، هذه التسمية: ’المجمع المسكوني المقدّس‘"3، ناهيكَ عن أنَّ رئيس المجمع نفسه – القديس فوتيوس الكبير – دعاه "مجمعًا مسكونيًّا"4. إضافةً إلى ذلك، ينطبق على هذا المجمع كل خصائص المجمع المسكوني، فهو يشهد لإيمان الكنيسة العقائدي ضد هرطقات مستجدّة، باشتراك "383 أسقف وبحضور ممثلّين عن بابا روما والبطريركيّات الشرقيّة الثلاث الأخرى"5.
وقد سبق هذا المجمع المسكونيّ الثامن (879-880) هرطقة كبرى نبتت في الغرب هي بدعة الفيليوكفه (filioque)، التي غيّرت في دستور الإيمان بزيادة "انبثاق من الابن"، على الرغم من أنَّ المجمع المسكوني الثالث6، والرابع7 كانا قد أقرّا بأنَّ من يزيد أو يحذف ولو حرفًا من هذا الدستور، يكون مفرزًا من كنيسة الله. ولم تكن هذه الزيادة ذات شأن هامشيّ كما يروّج المسكونيّون، بل إنّها بدّلت المعنى كلّه مشوّهةً وحدة الثالوث من جهة، وتمايز الأقانيم من جهة أخرى. لهذا السبب، يقول القديس فوتيوس الكبير بوضوح: "هذا التجديف بما يختصّ بالروح القدس، أو بالأحرى بالثالوث القدّوس ككلّ، الذي لم يتجاوزه شيء، يمكن أن يكفي بذاته، وبدون الاتّهامات الأخرى، بِرَشْقِهِم بألف حرم"8.
ولم يرفض القديس فوتيوس الكبير هذه الهرطقة انطلاقًا من "شرقيّته"، بل من "أرثوذكسيّته"، فقبل أن يولد القديس فوتيوس، كان البابا لاون الأول يرفض هذه الزيادة التجديفيّة التي أضافها الإسبان الكارولينجيّون، ناقِشًا سنة 809 دستور الإيمان الأرثوذكسي على لوحَين من الفضّة، ومعلّقًا إيّاه على "الباب الرئيسي لكنيسة القديس بطرس في روما"9، وكاتبًا: "أنا لاون، وضعته لأجلي محبّة الإيمان الأرثوذكسي وحفظه"10. وما قاله هذا البابا الأرثوذكسي لأولئك الأسبان يختصر كل شيء: "لن أقول إنني أفضّل نفسي على الآباء؛ وليكن بعيدًا عني أن أحسب نفسي مساويًا لهم"11.
وقد حذا حذوَ البابا لاون الأول، باباوات آخرون نبذوا البدعة، إلى أن جاء البابا نيقولاوس الأول (858-867) وتبنّاها، وكذلك البابا أدريانوس الثاني (867-872) الذي تمسّك بها حتى انشقّت روما عن الكنيسة الجامعة عام 867 نظرًا لارتدادها عن الإيمان. إلا أنَّ هذا الانشقاق لم يستمرّ أكثر من اثنتي عشرة سنة، وذلك بفضل القديس فوتيوس الذي أعاد الوحدة في "الإيمان الحق" في المجمع المسكوني الثامن؛ وأيضًا، بفضل البابا المستقيم يوحنا الثامن (872-882) الذي رفض الهرطقة بغيرة مقدّسة مُصَرِّحًا أنَّ "هذه الإضافة حديثة العهد، وإنّها من الأكيد لم تأتِ من كنيسة روما"12.
شدّد المجمع المسكوني الثامن على أن وحدة الكنيسة تكمن أوّلاً في جامعيّة الإيمان الواحد. وقد وقّع نوّاب البابا أنفسهم، على منع أيّ "حذف أو زيادة أو تغيير"، في قانون الإيمان. كتب البابا يوحنا الثامن، بعد انتهاء المجمع، رسالة إلى القدّيس فوتيوس يشدّد له فيها على أن كنيسة روما تحفظ قانون الإيمان كما هو: "... نحفظ دستور الإيمان كما تسلّمناه في الأصل، بدون أن نزيد أن نحذف شيئًا منه. لأننا نعلم أن من يتجرّأ على التلاعب به يستحقّ عقابًا قاسيًا". وينعت البابا هؤلاء "بالمغتصبين للكلمة الإلهيّة، ومُحَرِّفي تعليم المسيح الربّ"13. لكن الباباوات لاحقًا – لا سيّما في مطلع القرن الحادي عشر – تنكّروا لهذه الحقيقة وغيّروا في دستور الإيمان.
لقد ضربنا مثلًا واحدًا لنؤكّد أنَّ الصراع في روما نفسها، لم يكن صراع ثقافات، بل صراع بين المتمسّكين بالإيمان المسلّم مرةً للقديسين، وبين الذين استسلموا لروح غريبٍ عن المسيح، روحٍ لا يعرفه الرسل ولا الآباء المتوشّحون بالله. يقول على سبيل المثال القديس هيلاريون أسقف بواتييه (في الغرب): "لا يمكنني أن أتمنّى السلّام (الكنسي) إلا من الذين يتمسّكون بإيمان آبائنا ومعموديّتهم"14. وهذا على أيّ حال، موقف جميع آبائنا القديسين – من غير استثناء واحد – بدءًا من القرن الحادي عشر، وصولًا إلى القرن العشرين15.
أين هو اختلاف الثقافات طوال ألف سنة كانت فيها روما متّحدة في كنيسة الله بالإيمان الحق؟ ثم ألم تتغيّر الثقافات والنظريّات الفلسفيّة النّابِعة من روح هذا العالم في الألف سنة الأولى نفسها؟ كيف يفسّر المسكونيّون ثبات الكنيسة آنذاك في الإيمان القويم، على الرغم من وجود أباطرة هراطقة حاربوا الأرثوذكسيّة في الغرب والشرق معًا؟
ألعلّهم لم يقرأوا كيف اتّفق القادة السياسيّون في القرن الخامس عشر شرقًا وغربًا، على استعادة الوحدة من أجل حفظ مملكة القسطنطنيّة من السقوط؛ بل إنَّ الأساقفة الأرثوذكس أنفسهم وقّعوا على هذه الوحدة في مجمع فلورنسا اللصوصي (1437. ولكن الوحدة لم تتمّ، لأنّها وحدة السقوط والهلاك، وحدة الارتداد عن الإيمان، وحدة مع المسيح الدجّال؛ فكيف يسمح الله بزوال الكنيسة الأرثوذكسيّة حافظة الإيمان الحق، وهو الذي وعد أنَّ كنيسته التي هي "عامود الحق وقاعدته" (1 تيموثاوس 3: 15) ستثبت إلى الأبد وأبواب الجحيم لن تقوى عليها؟
حيٌّ هو إلهنا، ويستطيع أن يغلب بكنيسته روح العالم، ولو بأسقفٍ واحد هو القديس مرقس الأفسسي الذي بفضله وحده، سقطت تلك الوحدة الزائفة، إذ لم يستحِ وقتها، وهو في ذورته ضعفه (بشريًّا) مُحاصَرًا من الجهات الأربعة، أن يقول بوضوح إنَّ اللاتين "ليسوا منشقّين وحسب، ولكن هراطقة؛ وبالتالي، لا يحلّ لنا أن نقوم بوحدة معهم حتى يحذفوا ما أضافوه على دستور الإيمان"16، وطبعًا حتى يتراجعوا عن كل البدع. فلم يتوقّف الأمر على هذه الهرطقة، إذ قد أعاد اللاتين النظر بكل العقائد تقريبًا، وصاغوا عقائد مبتدعة الواحدة تلوَ الأخرى، ما انعكس طبعًا على مفهومهم للحياة الروحيّة الشفائيّة والجهاد الروحي، إذ حوّلوها إلى عبادة عاطفيّة وحياة اجتماعيّة أخلاقيّة.
1 ننصح بالاطّلاع على كتاب "أعمدة الإيمان الأرثوذكسي" للأرشمندريت غريغوريوس رئيس دير بكفتين، حيث نجد كيف واجه آباؤنا القديسون العظماء البدع اللاتينيّة لا سيّما: القديسون فوتيوس الكبير، غريغوريوس بالاماس، ومرقس الأفسسي. وهو أفضل كتاب باللغة العربيّة متخصّص في هذا الموضوع.
2 الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان، المجامع الأرثوذكسية ما بعد السبعة، موجودة على صفحة القديس غريغوريوس بالاماس: https://www.saintgregorypalamas.org/
3 الأرشمندريت غريغوريوس اسفطان، أعمدة الإيمان الأرثوذكسي، بكفتين، الكورة، منشورات القديس غريغوريوس بالاماس، 2018، ط1، ص42.
4 Mansi, XVIIa, 517 B. (Masni is an abbreviation for: “Sacrorum Conciliorum Nova Amplissima Collectio, 1692-1769).
5 الأرشمندريت غريغوريوس اسفطان، أعمدة الإيمان الأرثوذكسي، مرجع مذكور، ص41.
6 القانون السابع من المجمع المسكوني الثالث (أفسس 431)، في: مجموعة الشرع الكنسي أو قوانين الكنيسة المسيحيّة الجامعة، جمع وترجمة الأرشمندريت حنانيا كسّاب، بيروت، منشورات النور، 1998، ط2، ص341.
7 وردت الفكرة نفسها في رسالة القديس كيرلس الإسكندري إلى يوحنا الأنطاكي، وهي الرسالة التي تبنّاها المجمع المسكوني الرابع، وفحص الإيمان على أساسها (أنظر: المرجع نفسه، ص383 ؛ See also NPNF, 2, 14).
8 PG, 102, 736 - E
9 الأرشمندريت غريغوريوس اسفطان، أعمدة الإيمان الأرثوذكسي، مرجع مذكور، ص13.
10 Richard Haugh, Photios and the Carolingians, The Trinitarian controversy, Belmont, 1975, pp. 165-166.
11 Ibid.
12 John S. Romanides, Franks, Romans, Feudalism, and Doctrine, Holy Cross Orthodox Press, Mass. 1981, p. 66.
13 Mansi, XVII, 523, 526; Richard Haugh, Photios and the Carolingians, The Trinitarian controversy, Op. Cit., p129; The lives of the Pillars of Orthodoxy, Colorado, USA, Holy Apostles Convent, 1990, p. 95.
14 ضد أوكْسنتيوس، 4
15 راجع مثلًا ماذا يقول الآباء القديسون الحديثون والمعاصرون عن اللاتين والحركة المسكونية: "القديسون الأرثوذكسيون والحركة المسكونية"، في: مجلة التراث الأرثوذكسي، السنة الحادية عشرة، كانون الأول 2015 على الرابط التالي:
https://www.orthodoxlegacy.org/?p=1952
16 Lives of the Pillars of Orthodoxy, Op. Cit., p. 453; Mansi, 31A, 885 DE; Praktika, Vol. V, fasc. II, p. 400 (25-33); Nicholas P. Basileiade, Saint Mark of Ephesus and the Union of the Churches [in Greek], Athens, GR: The Brotherhood of Theologians of Sotir, 1983, 3rd ed., p. 121.