أكاذيب المسكونيّة، وحقيقة الأرثوذكسيّة – جزء 2

أسباب الانشقاق عن الكنيسة

إعداد: روني سعيد

 

الأكذوبة المسكونيّة الثانية: "أسباب الانشقاق ليست عقائديّة".

يروّج المسكونيّون لفكرةٍ كاذبةٍ مفادها أنَّ جميع الانشقاقات عن كنيسة المسيح المستقيمة، إنّما حصلت بالدرجة الأولى لأسبابٍ ثقافيّة، سياسيّة، لغويّة، إثنيّة، قوميّة وغيرها... ومن أجل إثبات فكرتهم هذه، يلجأون إلى كتاباتٍ وأبحاثٍ حديثةٍ للاهوتيّين ومؤرّخين غربيّين، وليس إلى كتابات الآباء القديسين المُلهَمين من الله. فما يجمع هؤلاء الكُتّاب في الغرب – على اختلاف توجّهاتهم – أنّهم يدرسون اللاهوت والتاريخ الكنسي بمعزل عن الله وعمله في العالم، ووجوده الحيّ في الكنيسة، وكأنَّ المسيح لم يعدنا صريحًا أنّه سيبقى فيها إلى الأبد (متى 20: 28)، بقاءً حقيقيًّا وجوديًّا، لا رمزيًّا ووهميًّا.

هكذا، ينظر المسكونيّون إلى الكنيسة كما لو أنّها مؤسّسة أرضيّة بشريّة من روح وطبيعة هذا العالم الساقط، فيعتبرون أنَّ الاختلاف الثقافي والاجتماعي والسياسي والجغرافي بين أعضاء الكنيسة الواحدة، قد أدّى في النهاية إلى انقسام هذه الكنيسة؛ وهذا طبيعيّ بحسب منطقهم البشريّ، لأنَّ الاتّحاد بين الثقافات المختلفة، والمصالح السياسيّة المتناحرة، والبيئات الجغرافيّة المتباينة، هو أمرٌ مستحيلٌ.

وبالتالي جاء الانقسام الكنسيّ كنتيجةٍ حتميّة للاختلاف بين الشعوب، وليس كنتيجة للاختلاف الجوهريّ في العقيدة والإيمان؛ إذ لا يختلف المسيحيّون في الإيمان، بل في كيفية فهمهم لهذا الإيمان نفسه، انطلاقًا من ثقافاتهم المتعدّدة التي هي بدورها وليدة الإطارات التاريخية والجغرافية المختلفة.

من هنا، يعتبر المسكونيّون أنَّ أسباب الانشقاق غير عقائديّة، بل هي مجرّد عقبات ثقافيّة ولغويّة، واجتماعيّة وتاريخيّة وسياسيّة، عفا عليها الزمن، وبالتالي، يمكن تجاوزها إذا ما امتلكنا "المحبة". فطالما أنَّ الزمن تغيّر، بل تقدّم، والتاريخ ولّى إلى غير رجعة، والفروقات الثقافيّة قلّت بين البشر خاصّةً في زمن العولمة؛ إذًا فالعقبات التي تمنع الوحدة الكنسيّة يجب أن تزول، إن لم تكن قد زالت أصلًا، وهذا يعني أنَّه حان الوقت الآن لإتمام الوحدة بين المسيحيّين. وها هو النص الرسمي للصلاة لأجل وحدة المسيحيّين لعام 2024 يقول: "اللهم الرؤوف ... حوّلنا لكي نحب كلَّ إخوتِنا وأخواتِنا، ساعدنا في تجاوز عقبات الانقسام، فنبني عالمًا يسوده السلام في خدمة الخير العام"¹.

الحقيقة الأرثوذكسية المضادة: أسباب الانشقاق هي عقائديّة بحتة.

تؤمن الأرثوذكسيّة ومن خلال الخبرة الروحيّة الحيّة، أنَّ التاريخَ بأسره، وليس فقط التاريخ الكنسيّ، لا يمكن فهمه إلا من خلال اللاهوت. فكلُّ فهمٍ للتاريخ وأحداثه، بل كلُّ فهمٍ لأي شيءٍ في الدنيا، خارج المسيح وخارج تدبير الله وعمله في الكون، هو فهمٌ إلحاديّ يعزل الله عن عمليّة الفهم، أي يعزل أهم عاملٍ مؤثّر في التاريخ! لا يوجد فرقٌ البتّة بين الفهم الإلحادي لمجريات الأمور، والفهم المسكونيّ؛ كلاهما يستبعدان الله، كلاهما ينكران وجوده عمليًّا، كلاهما يتجاوزان الله بتعجرف وجهالة فينطبق عليهما قول كاتب المزامير: "قال الجاهل في قلبه: ’ليس إله‘. فسدوا ورجسوا بأفعالهم" (مزمور 14: 1)، هذا لأنّهم فسدوا في أفكارهم.

وحتى نفهم أسباب الانشقاق عن كنيسة المسيح الواحدة، علينا أولًا أن نفهم طبيعة الكنيسة. لقد تكلّمنا في ما سبق عن طبيعتها باعتبارها "واحدة"، والآن سنتكلّم عنها باعتبارها "مقدّسة" كما ورد في دستور الإيمان. فالقداسة هي صفة ملازمة للكنيسة، صفة أبديّة لها إذ لا كنيسة إلا الكنيسة المقدّسة. فماذا يعني أنَّ الكنيسة مقدّسة؟

الكنيسة هي مقدّسة لأنّ المسيح هو رأسها (أفسس 5: 23، كولوسي 1: 18)، والمسيح هو القدّوس الذي يقدّس الكنيسة؛ يعني ذلك في ما يعنيه أنَّ الكنيسة هي قبل كلّ شيء مؤسّسة إلهيّة، أي مؤسّسة متجاوِزة منذ تأسيسها على الأرض، لكلّ العوامل الدنيويّة والبشريّة المتغيّرة سواء كانت ثقافيّة أو سياسيّة أو لغويّة أو جغرافيّة أو غيرها. ومن هنا، لا تُفهم الكنيسة باعتبارها جزءًا من هذا العالم المتغيّر باستمرار، هي لا تخصّ العالم وإن كانت في قلب العالم، ولكنّها تخصّ المسيح؛ لذلك يسمّيها الكتاب المقدّس "كنيسة الله" (1 كورنثوس10: 32، أعمال 20: 28) وليست كنيسة العالم، لأنّها من روح الله أتت لا من روح هذا العالم.

إلا أنَّ المسكونيّين المتذاكين سيقولون لنا كما هي عادتهم إنَّ الكنيسة ليست فقط مؤسسة إلهيّة، بل هي بشريّة أيضًا؛ بمعنى آخر، الكنيسة مؤسسة إلهية – بشريّة، وإن كان العنصر الإلهي متعاليًا عن العوامل الدنيويّة والثقافيّة واللغويّة وغيرها، فإنَّ العنصر البشريّ هو من طبيعة هذا العالم، وبالتالي فإنَّ جسد الكنيسة – جماعة المؤمنين (أعمال 2: 47) – هو جزءٌ لا يتجزّأ من العالم الأرضي بصراعاته السياسيّة والحضاريّة، واختلافاته الثقافيّة اللغويّة، وانقساماته الجغرافيّة. وعليه، لا يلغي العنصر الإلهي العنصر البشريّ؛ إذًا لا يمكن أن نفهم الكنيسة وتاريخها، بل وحتى آباءها القديسين ومجامعها وكتابها المقدّس، من دون فهم الأخطاء البشريّة التي نقيّمها وفقًا لثقافة عصرنا وفلسفته وعلومه، و"احتياجاتنا الإنسانيّة".

أما الأرثوذكسيّة فتجيبهم هكذا:

ليست الكنيسة مقدّسة في رأسها وحسب، بل هي بكليّتها مقدّسة، بكامل جسدها، أي بكامل أعضائها. فالعنصر البشريّ في الكنيسة، أي العنصر الذي يتّحد به المسيح، هو العنصر البشريّ المقدّس والمتألّه الذي يعمل بتوافق وتآزر مع المشيئة الإلهيّة، وليس هو ذاك العنصر الخاطئ غير التائب والعاصي لمشيئة المسيح. والتالي، ليست جماعة المؤمنين هي جماعة الأشرار الذين يعملون وفق أهوائهم، وانطلاقًا من روح العالم بحسب ثقافةٍ من هنا أو سياسةٍ من هناك. لأجل ذلك، سمّى الكتاب المقدّس جسد الكنيسة – الذي هو جماعة المؤمنين – بجسد المسيح الخاص (كولوسي 1: 24)، فأعضاء الكنيسة القديسون ليسوا إلا أعضاء جسد المسيح الذي بلا عيب.

لا يمكن للعنصر البشريّ في الكنيسة أن يكون منفصِلًا في عمله عن المسيح، لأنّ المسيح تجسّد ليتألّه الإنسان على حدّ قول القديس أثناسيوس الكبير، وهو اتّحد بالبشر عن حقّ حتى يتّحدوا هم به في الحقيقة وليس في الوهم. هؤلاء البشر المتألّهون هم أنفسهم الرسل والقديسون، وكل الذين يحذون حذوَهم فيصيرون "رعيةً مع القديسين وأهل بيت الله، مبنيّينَ على أساس الرسل والأنبياء، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية" (أفسس 2: 19-20). هذا هو الأساس: إيمان الآباء القديسين الذي سلّمه الرب يسوع المسيح، و"لا يستطيع أحدٌ أن يضعَ أساسًا آخر غير الذي وُضع" (1 كورنثوس 3: 11).

ولكن المسكونيّين سيتباعون عنادهم قائلين:

ليس كلُّ أعضاء الكنيسة قديسين، فهناك الخطأة الذين لم يتقدّسوا بعد، والمسيح إنّما أتى للخطأة لا للأبرار (لوقا 5: 32). وبذلك، فالقول بعصمة العنصر البشريّ هو إلغاء لهذا العنصر، بل هو إلغاء لبشريّة الكنيسة، إذ تصبح إلهيّة وحسب. ما يريد المسكونيّون قوله هو أنَّ الكنيسة المنظورة يمكن أن تضلّ، وأن تنقسم لأسباب غير عقائديّة.

وتعود الأرثوذكسيّة لتجيبهم:

ليس أعضاء الكنيسة معصومين، ولكنَّ الكنيسة بذاتها معصومة فهي "كنيسة الله الحي" (1 تيموثاوس 3: 15)، بل هي "عمود الحق وقاعدته" (أعمال 20: 28)، وهذا الحق "يثبت فينا وسيكون معنا إلى الأبد" (2 يوحنا 1: 2)؛ لقد وعد المسيح بأنّه سيرسل المعزّي أي الروح القدس ليمكث فيها إلى الأبد (يوحنا 14: 16)، وبالتالي لا يمكن للكنيسة أن تضلّ، وليس ضلالًا أعظم من أن تنقسم الكنيسة على نفسها لأسباب غير عقائديّة. وأكثر من ذلك، الكنيسة والمسيح حقيقتان غير منفصلتان عن بعضهما، فلا مسيح من دون كنيسة، ولا كنيسة من دون مسيح. فالمسيح نفسه هو رأس الكنيسة، وهو متّحد بها، وبغير الرأس لا وجود لباقي الجسد.

عصمة الكنيسة هي بشكلٍ أو بآخر عصمة الروح القدس الذي يعمل ويعلّم ويشهد للحق، ولكن بمن يعمل هذا الروح؟

لا يعمل الروح بكل الأعضاء، بل بأولئك الثابتين في الحق، أي المتألّهين حقيقةً والمشفيّين من أهوائهم، المتّحدين حقيقةً في جسد المسيح أي في الكنيسة. وقد لا يكون هؤلاء القديسون من ضمن رؤساء هذه الكنيسة، إذ ليس بالضرورة أن يكون كل بطريرك أو أسقف قديسًا، وما دام ليس قديسًا فإنَّ الروح القدس لن يعمل به بشكلٍ فرديّ، وهذا بخلاف العصمة الباباوية الموجودة في الكثلكة.

هكذا فقط يُصان العنصر البشريّ في كنيسة المسيح، هكذا فقط يكون احترام الله لحريّة الإنسان ومشيئته الخاصة. من هنا، لا يكشف الروح القدس الحق ويشهد له عن طريق الأسقف بالضرورة، بل عن طريق القديس ولو كان هذا القديس أصغر شخصٍ في الكنيسة. لذلك، ثمّة عصمة إلهيّة، تحفظ إلهيّة الكنيسة، وبقائها ثابتة في العقيدة الحق من دون أن تقوى عليها أبواب الجحيم؛ وهذه العصمة تتمثّل في أمرَيْن لا ثالث لهما: في الروح القدس الناطق بالآباء القديسين، أي في الإجماع الآبائي، وفي الروح نفسه العامِل في المجامع المسكونيّة التي فيها اجتمع كل أساقفة الدنيا، مثلما اجتمع كل الرسل في أورشليم فتكلّم الروح القدس فيهم "مجمعيًّا" لا فرديًّا (أعمال 15).

هذه هي كنيسة المسيح: آبائيّة ومجمعيّة. وعلى أساس الآباء القديسين والمجامع يُقاس الحق والباطل، يُحفظ التقليد المقدّس، فيبقى من هو أمين للمسيح، ويُعزل من هو خبيث وخائن للمسيح كما أوصى الكتاب المقدّس: "اعزلوا الخبيث من بينكم" (1 كورنثوس 5: 13). فالذين بقوا في شركة ووحدة مع كنيسة المسيح، ليسوا أولئك الذين ينتمون إلى ثقافة معيّنة تتماشى مع مؤسّسة دنيويّة أوجدها البشر، إنّما هم أولئك الذين بقوا أمينين لفكر المسيح وراسخين في عضوية جسده، الذين استطاع ضميرُهم أن يصرخ: "ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الاشياء الموهوبة لنا من الله، التي نتكلم بها ايضا لا بأقوال تعلّمها حكمة إنسانية بل بما يعلّمه الروح القدس قارنين الروحيات بالروحيات ... إنه من عرف فكر الرب فيعلمه. وأما نحن فلنا فكر المسيح". (1 كورنثوس 2: 12، 13، 16).

وأما الذي لم يثبت في فكر المسيح، مجدّفًا على الروح القدس أي مهرطِقًا ومبتدِعًا، ومتمسّكًا بعناد وعن وعي وإصرار بهرطقته، فهذا إنّما عزلته الكنيسة، أي عزله الآباء القديسون الملهَمون من الله حتى قبل أن يقرّر هو الانشقاق. فالروح القدس قد أعلن مرارًا وتكرارًا: "نحن لا نتخطّى الحدود القديمة (الأزليّة) التي وضعها آباؤنا، بل نحافظ على التقاليد كما تسلّمناها، وذلك لأنّنا إذا ما شرعنا في تخريب صرح كنيستنا ولو قليلًا، لانهار بجملته"².

لا، ليس المسيحيّ الحقيقي ابن بيئته، ولا هو ابن ثقافته أو ابن علوم عصره؛ إنّما المسيحيّ هو ابن الملكوت، ولديه فكر المسيح وثقافة المسيح، هو يعيش في العالم ولكنّه ليس من هذا العالم (يوحنا 15: 19). والمسيحيّ الأمين لمعلّمه ومخلّصه هو ابن الله بالتبنّي (غلاطية 4: 5)، هو المولود من روح الله الثابت والأزلي، لا من روح هذا العالم ذوي الثقافات المتعدّدة والمتغيّرة، فإنَّ "المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح" (يوحنا 3: 6).

من أجل ذلك، وفور تأسيس الكنيسة يوم العنصرة، قام الرسول بطرس بعظة إلهيّة أمام جمهورٍ وثنيّ ينتمي إلى بيئات ثقافيّة متعدّدة؛ ولم يكن الاختلاف الثقافي عائقًا أمام وحدة هؤلاء الشعوب في كنيسة المسيح الواحدة، ذات ثقافة المسيح الواحدة³. والسبب في ذلك هو أنَّ الرسول بطرس لم يخاطب الناس بقوّة بشريّة، ولا انطلاقًا من علوم وثقافة بيئته اليهوديّة، إنّما بالروح القدس الذي يوحّد ولا يفرّق؛ وفي المقابل، أصغت هذه الشعوب المختلفة إلى الكلام الإلهيّ بمؤازرة النعمة الإلهيّة التي أعطتهم الفهم الصحيح والنقيّ لعقيدة المسيح الواحدة.

وكلّما كان الرسل يبشّرون – وهم غير مثقّفون دنيويًّا – كان عدد أعضاء الكنيسة يزداد، ولم يكن الاختلاف الثقافي والسياسيّ واللغوي ليؤثّر قيد أنملة على الوحدة في التعليم المسيحي المستقيم. وقد أوصى الرسل بوضوح: "فاثبتوا إذن أيّها الإخوة، وتمسّكوا بالتقاليد التي تعلّمتموها إمّا بكلامنا وإمّا برسالتنا" (2 تسالونيكي 2: 15)، والتقاليد⁴ παραδόσεις هنا تعني الإيمان الذي قلّده الله للرسل، وليس تقاليد الناس التي اخترعوها باطلًا (مت15: 6)؛ حتى أنّهم أوصوهم بعدم الاكتراث بفلسفة وفلاسفة العصر: "أنظر أن لا يكون أحد يسبيكم بالفلسفة أو بغرور باطل حسب تقليد الناس وليس حسب المسيح" (كولوسي 2: 8).

وعليه، لم يكن صراع الكنيسة على مرّ العصور، صراع ثقافات أو مصالح سياسيّة، ولا كانت "مصارعتنا مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع اجناد الشر الروحية في السماويات" (أفسس 6: 12)، أي أنَّ صراع الكنيسة لم يتوقّف يومًا مع الشياطين الذين لا يملّون في حثّ المؤمنين على نكران إيمانهم، أكان ذلك بالاضطهاد الجسديّ، أم بالهرطقة التي تقود الإنسان إلى الارتداد عن إيمانه المسلّم للقديسين إلى إيمانٍ آخر لم يأتِ به المسيح ولا علّمه الرسل.

والشيطان ما برح يومًا ينفث بالبدع والهرطقات، حتى يفصل ما أمكنه، أعضاءً من الكنيسة عن هذه الكنيسة الواحدة غير المنقسمة، فكما يقول القديس إيريناوس أسقف ليون (القرن الثاني): الهرطقة "تحلّ (تمزّق) أعضاء الحقيقة"⁵ η αίρεση, «λύει τα μέλη της αληθείας». والهرطقة كما يتفّق الآباء القديسون ليست إلا "إيمانًا جديدًا"، تعلّم عن "إله غريب"⁶.

بناءً على ذلك، فإنَّ كلَّ الذين انشقوا عن الكنيسة، هم أولئلك الذين أضلّهم الشيطان بالهرطقات، الذين سبق وأعطوا حقوقًا لإبليس باستعلاء فكرهم وكبريائهم؛ هذا لأنّهم، قبل أن يتنقّوا من أهوائهم، وقبل أن تستنير أذهانهم وتتقدّس عقولهم بالنعمة الإلهيّة، اعتمدوا على أفكارهم الخاصّة، أو على معلّمين كذبة من دون تمييز، فانطبق عليهم قول الرب على لسان أرميا النبيّ: "تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة لينقروا لأنفسهم آبارًا، آبارًا مشقّقة لا تضبط ماءً" (أرميا 2: 13).

إذًا، فالصراع لم يكن بين ثقافات أو قوميّات كما يتخيّل المسكونيّون، بل بين المستنيرين بالروح الذين يتكلّمون عن الله انطلاقًا من خبرتهم الحيّة معه ومعاينتهم له من جهة، وبين الغارقين في ظلمة أهوائهم الذي يتكلّمون عن الله انطلاقًا من "الكلام الباطل ومخالفات العلم الكاذب الإسم" (1 تيموثاوس 6: 20). وليس أدلّ على ذلك إلا قول القديس ذياذوخوس الفوتيكي: "ليس أعجز من الفكر الذي يتفلسف خارج الله في أمور الله"⁷.

ولقد استطاع آباؤنا القديسون أن يواجهوا الكثير من البدع والهرطقات، التي بدأت منذ زمن الرسل (أعمال 2: 29-30)⁸، من غير أن يؤدّي هذا إلى انفصال عدد كبير من الناس عن الكنيسة. ولكن هذا لا يعني أنَّ الحال كانت دائمًا على هذا النحو، ففي بعض الأحيان أدّت الهرطقات إلى انشقاق عددٍ كبير عن الكنيسة الواحدة؛ وقد حفظ الروح القدس الذين ثبتوا على الإيمان، من دون أن يمنع أتباع البدع من أن ينشقوا، ذلك أنَّ الرب يحترم حريّة الإنسان ولا يخلّص أحدًا رغمًا عنه. والآباء القديسون بمجامعهم المسكونيّة، حدّدوا الإيمان الحقيقي والتعليم الصحيح الشافي والمخلّص، وألقوا الحرم (الأناثيما) عازِلين أعداء الروح القدس عن الكنيسة، ولم يكن ذلك إلا طاعةً للوصيّة الإلهيّة بعزل الخبيث من الكنيسة كما سبق وذكرنا، ولوصيّة أخرى أيضًا: "نوصيكم أيها الإخوة باسم ربنا يسوع المسيح أن تتجنبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب وليس حسب التعليم الذي أخذه منا" (2 تسالونيكي 3: 6).

ولعلّ أبرز انشقاقان في هذا الصدد، هما الانشقاق المونوفيزي عن الكنيسة الذي حصل إبّان مجمع خلقيدونية عام 451، وانشقاق اللاتين الذي حصل بعد رفضهم للمجمع المسكوني الثامن، أو مجمع القديس فوتيوس الكبير عام 869 الذي كان قد سبق لهم وقبلوه. وهنا، يعتبر المسكونيّون أنَّ الانشقاق المونوفيزي يعود إلى عوامل لغويّة ولفظيّة، في حين أنَّ انشقاق اللاتين يرتكز بالدرجة الأولى على خلافات سياسيّة وصراع على السلطة. وبالتالي ننتقل إلى أكذوبتَيْ المسكونيّين الثالثة والرابعة بخصوص كلّ من المونوفيزيّين واللاتين.

يتبع...