الشذوذ الجنسي ومعصيته
الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان
منذ القديم القديم، حاول الشيطان أن يُشوّه خليقة الله الحسنة جدًّا، فنجح. والتشويه الأوّل كان دخول الأهواء إلى هذه الطبيعة. إنّ سقوط الإنسان من فرح الحياة مع الله، ودخول الأهواء المعابة، أدخله في فراغ داخليّ هائل وصراع مع ذاته لا ينتهي. وعوض سعي الإنسان ليملأ هذا الفراغ والعطش الداخليّ بالتوبة واستعادة الوحدة الروحيّة مع الله، التي فقدها بالسقوط، فإنّه سعى ليملأها ممّا هو على الأرض: شهوة الطعام وحبّ الأجساد، وشهوة الغنى والتملّك، وحبّ السلطة والتسلّط، والمجد الباطل. من بين هذه الشهوات، شهوة الأجساد طوّرها الإنسان الشهوانيّ ممّا هو طبيعي إلى ما هو مُخالف للطبيعة.
وقد أثبتت الحقائق عبر التاريخ أنّ ما من واحدة من كلّ هذه الأهواء والشهوات استطاع أن يروي، ولو الشيء اليسير من عطش الإنسان الروحيّ، أو يملئ القليل من فراغه الداخليّ. لا بل بالعكس فإنّه بمقدار غرقه فيها بهذا المقدار يعظم الفراغ في داخله. لقد صدّق البعض كذبة أنّهم مثليّيّ الجنس، وأنّ ممارسة الشذوذ الجنسيّ يمكن أن يُعطيهم السعادة التي لم تستطع الممارسة الطبيعيّة أن تُعطيهم، ففشلوا، وازدادوا هوسًا بهذه الشهوة.
المثليّة الجنسيّة ليست سوى إحدى حالات الشذوذ التي دخلت إلى حياة الإنسان بعد السقوط. وبالعلاقة مع هذا الموضوع، ينبغي التشديد على حقيقتين: أولاً، هذا الشذوذ ليس أمرًا يحصل من الولادة، أي ليس خطأً في طبيعة الإنسان، إنّما مرض دخيل وانحراف في الطبيعة البشريّة. ثانيًا، الشفاء من هذا الشذوذ هو أمر مستطاع بالتأكيد، لكنّه يحتاج إلى موافقة جديّة من الإنسان الساقط في هذا الانحراف.
الشذوذ الجنسي لا يمكن أن يولد فينا بالطبيعة، أي بالولادة، إنّما تكيّف مع ظروف معيّنة تحدث في حياة الإنسان، تكون عادة في الطفوليّة، ويكون للجنس الآخر دورًا سلبيًّا في هذه الأحداث. وتنمو وتتقوّى هذه الخبرة الشاذّة في مرحلة المراهقة والشباب، فتظهر وكأنّها أمرًا طبيعيًّا يكبر مع هذا الإنسان بطريقة غير قابلة للسيطرة عليه.
هذه الأحداث الي تحدث في الطفوليّة، قد تكون عادة تعدّي جنسي، أو ممارسة جنسيّة فضوليّة مع أولاد آخرين من الجنس نفسه، أو تعرّض لأذى جسدي من الكبار. إضافة إلى عوامل أخرى لها علاقة بالتربية البيتيّة أو مشاكل الأهل والعلاقة السيّئة بين الأب والأم، وسلوكهم وما ينتج عنها من اضطراب الحياة العائليّة. كلّ هذه العناصر تقود إلى ترك آثار نفسيّة سلبيّة أو جراح نفسيّة تختلف بين شخص وآخر، لدى بعض الأفراد، من حيث شدّة الحساسيّة ورهافة الحسّ. وهذه الآثار تلعب دورًا أساسيًّا في تشكّل هذا الميل الجنسيّ نحو مماثله في الجنس.
يُشدّد الكتاب المقدّس على حقيقة أنّ الله من البدء خلق الإنسان "ذكرًا وأنثى" (تك27:1). الرجل كرأس ومعلِّم للمرأة، والمرأة كمعينة للرجل، ليسيرا بانسجام مكمّلين بعضهما البعض، ويبلغا معًا الهدف الواحد. هذا كان الترتيب الّذي خلق الله الإنسان عليه، وهو ما نسمّيه ترتيب الطبيعة. كلّ حالة مخالفة لترتيب اجتماع واتّحاد الرجل بالمرأة اعتبر شذوذًا، أو حالة مخالفة للطبيعة.
فالشذوذ يُشير إلى الحالة التي وصل إليها الجنس البشريّ بعد المعصية، التي جعلته متقبّلاً لكلّ أنواع الرجاسات. وهذا واضح في تعليم العهد الجديد، بولس الرسول في كلامه عن أولئك الّذين "أبدلوا مجد الله الّذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الّذي يفنى" (رو23:1)، يكشف عن الحالة التي بلغ إليها إنسان ما بعد السقوط، ذاكرًا في المقطع ذاته خطايا الإنسان الشاذّة التي يرتكبها بخلاف الطبيعة: "إنّ إناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعيّ بالذي على خلاف الطبيعة. كذلك الذكور أيضًا تاركين استعمال الأنثى الطبيعيّ اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكورًا بذكور ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحقّ" (رو26:1-27).
الشذوذ، إذًا، بحسب بولس الرسول هو خروج عن الطبيعة التي خلق الله عليها الجنسين. وهذه خطيئة أشرّ من كلّ الخطايا. أولئك الّذين "استبدلن الاستعمال الطبيعي"، بحسب الذهبيّ الفم، "طريقة حياتهم هي شيطانيّة". استطاع إبليس أن يُجرّب الإنسان بهذه الشهوة المضادّة للطبيعة ومنعه من بركة سرّ الزواج المقدّس، الّذي من خلاله يشترك الإنسان في مخطّط الله لخليقته "أثمروا وأكثروا وأملأوا الأرض" (تك28:1). هذا ما كشفه الله في خلقه الأوّل للإنسان أنّه "ذكرًا وأنثى خلقهما" (تك27:1)، ولا يمكن أن يكونا إلّا كذلك؛ وكلّ انحراف هو تعدٍّ على ناموس الله. لذلك كان الله قاسيًا وحازمًا في العهد القديم في وصيّته لشعبه، حين حذّرهم قائلاً: "ولا تُضاجِع ذَكَرًا مُضاجعة امرأةٍ، إنّهُ رِجْسٌ" (لاو22:18). ويُكمل الله بعد قليل بكلام أقسى بكثير: "وإذا اضطَجَعَ رجلٌ مع ذَكَرٍ اضطِجاع امرأةٍ، فقد فعلا كِلاهُما رِجْسًا؛ إنّهما يُقتلان، دمُهُما عليهما" (لاو13:20). من العهد القديم إذًا، كان الله واضحًا أن هذه الحالة رجسة تستوجب أقصى عقوبة.
أو ليست الطبيعة المخلوقة كلّها تعلّمنا أنّ كلّ ما خلقه الله هو ذكرًا وأنثى، من النبات والحيوان حتّى الإنسان. حين يُخالف الإنسان ناموس الطبيعة فهو يُصبح مُجرمًا ومتعدّيًا على ناموس الله. أمثال هؤلاء يُقاومون الله حين يُقاومون ترتيب خليقة الله، ويخلقون فوضى وفساد في هذه الخليقة وفي المجتمع البشريّ.
هذه كانت مأساة الإنسان بعد السقوط؛ لكن الله ليس بظالم، إنّه يشفي مَن يطلب الشفاء. لا بدّ من التشديد أنّ العلاج والعودة عن هذا الشذوذ إلى الحالة الطبيعيّة ممكنة لا بل وأكيدة أيضًا؛ لكنّها تعتمد حتمًا على قرار الإنسان ومساهمته الجديّة في عمليّة شفاء نفسه. وذلك لأنّ سقوط الطبيعة البشريّة والفساد الّذي تتخبّط فيه، لا يعني، بحسب القدّيس مكسيموس المعترف، أنّ أسس أو مبدأ الطبيعة قد سقط، إنّما مَيْل الطبيعة أو طريقة وجودها؛ وهذا الميل لا يُغيّر في أصل الطبيعة1. ولأنّ أصل الطبيعة لم يتأذّى، بقي الإنسان قادرًا أن يشفى من أيّ مرض أو انحراف في طبيعته. في المسيحيّة، الإنسان مدعو للعودة إلى الحالة الأولى التي خلقنا عليها الله وأرادنا أن نحيا فيها، وهذا ممكن بالتأكيد بقوّة المسيح القادر على كلّ شيء. لا أن نرضخ للحالة المخالفة للطبيعة التي نوجد فيها معتبرين إيّاها هي الحالة الطبيعيّة.
إنّ الكلام عن الجينات ودور الكروموزوم والهرمونات في بعض حالات الشذوذ تبقى غير مثبّته علميًّا إطلاقًا. إنّها إشاعات كاذبة هدفها فرض الشذوذ على ضمير البشر بالكذب. إنّها ليست سوى تجربة تأتي إلى الإنسان نتيجة عوامل خارجيّة لا علاقة لها بطبيعته الأصليّة. الدراسات العلميّة الجديّة تؤكّد أن الّذين بدون اختيارهم وجدوا أنفسهم في هذا التوجّه الجنسيّ يمكن أن يتغيّروا ويعودوا إلى طبيعتهم الأصليّة بشكل كامل. بحسب الإحصاءات العلميّة، هناك الكثير ممّن شعروا بميل شاذّ حين كانوا في سنّ المراهقة، لكن فقدوا هذا الميل تلقائيًّا وعادوا إلى حالتهم الطبيعيّة بعد أن تجاوزوا العشرين أو الخامسة والعشرين من العمر2. وهناك خبرات عديدة تؤكّد هذا الموضوع. ففي عالم السقوط والتركيز المؤلِّه للشهوة، قد يكون طبيعيًّا أن يشعر شاب أو فتاة بميل نحو جنسهم ذاته، لكن عدم إعطاء أهميّة للموضوع وعدم تغذية هذا الشعور وعدم الممارسة كليًّا، يساهم في تراجع هذا الميل تدريجيًّا، إلى أن يختفي هذا الشعور المنحرف كليًّا.
فموضوع الشذوذ الجنسيّ يدخل أيضًا في الحرب الروحيّة. هناك من كبروا في هذا الهوى، ولكن هناك من كانوا أصحّاء كليًّا، لكن خضعوا لتجربة خلقتها لهم الشياطين وهم في عمر النضوج. فالشياطين قادرة أن توحي في ذهن الإنسان أفكارًا شاذّة يرافقها أحاسيس عاطفيّة كاذبة، بأنّه يميل إلى مثل جنسه. إنّها تُحضر له صورًا وتخيّلات شهوانيّة شاذّة. حقًّا إنّ إبليس قادر أن يُدخل مشاعر كاذبة وشهوة جسديّة عارمة شاذّة حتّى على الأصحّاء من هذا الهوى، ويجعلهم يُصدّقون أنّهم يميلون حقًا إلى الّذين من جنسهم. غير المختبر في الإيمان والحياة الروحيّة يبدأ بمحادثة هذه الأفكار، وينتهي بالرضوخ لهذه الصور والمشاعر والتخيّلات، ظانًّا أنّها شيء موجود فيه.
لكنّ الله ليس بعيدًا عن المسيحيّ المؤمن؛ إنّه يعمل لخلاص الّذين يضلّون من دون اختيارهم، فيزرع في داخلهم خوف الله، ليعوا أنّ هذه تجربة مُهلكة. الشفاء يكون بالاعتراف واستشارة أب روحيّ مختبر في حياة الصلاة والحرب الروحيّة، الّذي ينبغي أن يوجّهه في كيفيّة حفظ قلبه نقيًّا، ومقاومة هذه الأفكار والمشاعر. وذلك بأن يطرد من ذهنه كلّ إيحاء شيطانيّ وفكر شهوانيّ ما أن يظهر، أكان لرجل أو امرأة. وبمعونة الله والأب الروحيّ، ومقاومة الإنسان لهذه المشاعر، تنتهي حتمًا هذه التجربة ويعود الإنسان إلى ميله الجنسيّ الصحيح بشكل كامل وكليّ، قبل أن يدخل هذا الهوى الشاذّ إلى الداخل ويتثبّت في القلب.
أمّا الّذين لا يُشفون فهم أولئك المصرّين على حالة شذوذهم ويجدون متعة في حالتهم وممارستهم الشهوانيّة المخالفة للطبيعة.
لهذا بدء العلاج هو قناعة الإنسان أنّ حالته ليست طبيعيّة، وأنّه من الممكن والأكيد التحرّر الكليّ من هذا الواقع. خاصّة باستعمال وسائل الإيمان.
هكذا، إن كانت الطرق العلاجيّة العلميّة تتكلّم عن إمكانيّة علاج مثل هذه الحالات من الشذوذ، فكم يكون أجدى علاج الكنيسة. إن المسيحي الّذي يعلم أنّ الصلاة والصوم القادران على إخراج الشياطين، يعلم بالأولى أنّهما قادران على إخراج مَن سقط في هذا المرض من كلّ أعراضه. الصلاة والصوم ترافقهما توبة عميقة واعتراف متواصل، ومناولة للأسرار الإلهيّة، يشفون كلّ مرض حتّى مرض انحراف الطبيعة، الّذي لم يُخلق عليه الإنسان بل اكتسبه بسبب فساد الطبيعة.
وبسبب انحرافه عن الطبيعة الأصليّة، الشذوذ الجنسي هو موضوع عقائديّ وليس فقط أخلاقيّ أو اجتماعي. بولس الرسول يضع مسألة الشذوذ الجنسيّ كلّها على هذه القاعدة اللاهوتيّة، قائلاً عن أتباع هذا الشذوذ أنّهم "استبدلوا حقّ الله بالكذب... لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان" (رو25:1-26). هذا يعني أنّ هؤلاء الشاذّين جنسيًّا استبدلوا الحقيقة التي خلق عليها الله الكون والكائنات بأكاذيب وأضاليل تناسب أفكارهم. مثل هؤلاء إيمانهم سيكون باطلاً ومعرفتهم فاسدة. وحين يتكلّم بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس عن أنّ الشاذّين لا يدخلون الملكوت: "لا تضُلّوا لا زناة ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعو ذكور... يرثون ملكوت الله" (1كور9:6-10)، يظهر لنا بوضوح أنّ الموضوع هو عقائديّ له علاقة بالخلاص؛ كما يُثبّت كذب أولئك القائلين إنّ الميل الجنسيّ للشخص لا يؤثّر على علاقته بالله.
وما يُثبت أنّ هذا الميل الشاذ هو خطيئة رجسة، ارتباطه بالممارسة الفعليّة للهوى. إنّ المقتنعين بحالة الشذوذ التي هم فيها، ليس فقط غير قادرين على عدم الممارسة الفعليّة لهذه الشهوة الجسديّة، إنّما، الإحصاءات الرسميّة تُثبت بما لا يقبل الشكّ، أنّ الّذين يمارسون الفعل لا يكتفون إطلاقًا بشريك واحد بل دائمًا يطلبون آخر جديد، لعلّهم يجدون إرواء أكبر لشهوتهم. هذا ما عناه بولس الملهم من الله، حين قال عن مثل هؤلاء: "اشتعلوا بشهواتهم". إنّ هذا التعبير "اشتعلوا"، بحسب الذهبيّ الفم، يدلّ على عدم استقرار وعدم راحة3. إنّ عدم الرضى عن الذات وعدم الاكتفاء بشريك واحد هو دليل أكيد أنّه ليس ميل طبيعيّ. يطلب الإنسان المحبّة والسعادة والسلام ولكن لن يجدها إطلاقًا في هذه الشهوة المنحرفة، لأنّها تُعطّل كلّ قواه الروحيّة؛ بعد أن حطّمت هذه الشهوة كل انسجام بين النفس والجسد.
لهذا السبب بالتحديد، أولئك الشاذّين جنسيًّا والممارسون له، يُعانون، في العادة، من مشاكل نفسيّة، تختلف في حدّتها من شخص لآخر. وبسبب هذه الحالات، إضافة إلى إمكانيّة إلتقاطهم أمراض عديدة تأتي من ممارسة هذا الفعل، أغلبهم، بحسب الإحصاءات، لا يعيش أكثر من ثلثي سنيّ حياة الإنسان العاديّ المتزوّج4.
الإحصاءات الرسميّة عن مرض "الإيدز"، أي مرض نقص المناعة المكتسبة، تُثبت أنّ حوالي ثلثي الإصابات بهذا المرض تحصل بين الشاذّين جنسيًّا الممارسين له5. وهذا تأكّيد آخر أنّ هذا الفعل ليس سوى حالة شاذّة، غير طبيعيّة في الإنسان.
لا يمكن للكنيسة أن تساوم على موضوع إدانة الشذوذ الجنسيّ. إنّه ليس فقط أحد أشكال الإدمان الفاسدة، إنّما هو خطيئة وخطيئة مكروهة؛ مجرّد قبولها هو زنى، لا بل أكثر من زنى، حتّى وإن لم يحصل فعل الزنى. لأنّها تعاكس تدبير الله وحكمته، التي بها خلق الإنسان من البدء رجلاً وامرأة. إنّ الكنيسة التي ترضخ لضغط العولمة وروح العصر الدهريّة وتُظهر تعاطفًا مع حالة الشذوذ، تُخالف مشيئة الله لا بل تسقط في الهرطقة. لا يمكن لله أن يكون إله الشاذّين، إنّه إله التائبين منهم. والكنيسة هي كنيسة التائبين منهم. تدين خطيئتهم، لكنّها تحبّهم وترعاهم كأمّ لتشفيهم، لا لتتكيّف مع حالتهم المرضيّة. وهذه المحبّة قد تكون قادرة أن تعوّض عن ضعف قديم أو نقص ما، قادهم إلى هذه الحالة الشاذّة.
هدف الزواج والعلاقة بين الرجل والمرأة هي المحبّة وثمرتها إنجاب الأولاد. والمحبّة الحقيقيّة هي حاجة للإنسان لا يمكنه أن يحيا بالحقّ من دونها. هذا الميل الجنسيّ، المجبول بالشهوة، ليس سوى تشويه لهذه المحبّة وتحطيم لكلّ الهدف الّذي لأجله خلق الله الإنسان رجلاً وامرأة. المطلوب عودة الإنسان إلى ذاته، إلى ضميره الحيّ، ليمكنه أن يجد ذاته الداخليّة، ذاته غير الملوّثة بالشهوة الدنيئة؛ ومن هناك يجد الله الّذي وحده نبع المحبّة والفرح. بهذه العودة الداخليّة يُحقّق الإنسان الهدف النهائيّ لخلقه. إنّ مَن وجد نفسه في حالة الشذوذ هذه من دون اختياره، عليه أن يحمل صليبه ويُجاهد بمقدار ما هو مُستطاع، مُنتظرًا رحمة الله القادر، حتمًا، أن يُخلّصه، من هذا الواقع المنحرف والأليم.
أمّا المقتنعون بأنّ حالتهم الشاذّة هي طبيعيّة، لا يُمكنهم بأيّ حال أن يكونوا مسيحيّين. لأنّ المسيحيّ هو الّذي يُطيع ويخضع لله وترتيبه. آباء الكنيسة كانوا صارمين إلى أبعد حدّ مع الّذين يُمارسون الفعل الجنسيّ. القدّيس باسيليوس في قانونه السابع من رسالته إلى أمفيلوخيوس، يضع السادوميّة أو ممارسة الشذوذ الجنسي على قدم المساواة مع القتلة والمشعوذين والسحرة والزناة، ويعتبر أنّهم يستحقّون العقوبة ذاتها. في الدولة البيزنطيّة، الإمبراطور يوستنيانوس أصدر سنة 559م مرسومًا ضدّ الشاذّين جنسيًّا.
البعض يحصرون خطورة الشذوذ الجنسيّ بالعلاقات الجنسيّة فقط؛ لكن، في الحقيقة، حالة الشذوذ هي في حدّ ذاتها خطيئة حتّى ولو لم يختارها الإنسان بإرادته. عالم اليوم، الّذي غطّاه الإلحاد والعقلانيّة، يتعامل مع حالة الإنسان الساقطة وكأنّها هي الحالة الطبيعيّة. رافضًا كلّ كلام عن حياة النسك والنعمة الإلهيّة التي تشفي الإنسان وتجعله خليقة جديدة بيسوع المسيح. يقولون إنّ هؤلاء الشاذّين لم يختاروا بإرادتهم هذا الخيار إنّما قبلوه. لا يتكلّمون إطلاقًا عن إمكانيّة شفائه. يمرض الإنسان دون إرادته لكنّه يتداوى بإرادته. إنّ الله، كما يسمح بأمراض جسديّة من دون إرادة الإنسان، وهدفها عودة الإنسان إليه بالتواضع والتوبة، هكذا يسمح بأمراض نفسيّة، والهدف أن يعي الإنسان مرضه، أنّه يحمل نتائج السقوط الأصليّة، وذلك لتكون دافعًا له كي يعرف حاجته إلى رحمة الله ويتوب.
إنّها التوبة، لأولئك الذين عرفوا مرضهم ويُجاهدون للتخلّص منه، كما هي لكلّ مَن يُريد أن يخلص. لا شفاء لأمراضنا النفسيّة ولحالة الخطيئة التي نحيا فيها سوى بالتوبة والاعتراف أمام أبٍ روحيّ، وبالصلاة والصوم. على المسيحيّ الحقيقيّ أن يتوب عن النتائج المريرة لحالة السقوط التي يوجد فيها. إنّ المؤمن الحقيقيّ لا يتهرّب من تحمّل مسؤوليّته في تحمّل نتائج السقوط التي نعيش فيها، إنّما يتعهّد هذا الميل الشاذّ كمسؤوليّته الخاصّة، فيتوب، يتوب عن ميل حتّى وإن لم يكن هو نفسه مسؤولاً عن دخوله فيه.
مثل هؤلاء التائبين وحدهم يمكنهم أن يتناولوا الأسرار المقدّسة. وحدهم التائبون عن حالتهم الشاذّة، الّذين عرفوا أنّها مرض خطير فيهم ويُجاهدون للشفاء منها، وحدهم التائبون يمكنهم أن يتناولوا جسد المسيح ودمه المقدّسين، اللذين أعطاهما ربّنا لتجديد هذه الطبيعة التي تشوّهت، لكن لم تتحطّم ولم تمت. الشذوذ الجنسي هو تحطيم كامل لهذه الطبيعة، تحطيم لإنسانيّتها، لأنّ انحرافها يجعلها ضدّ أهداف الله لإصلاح ما شوّهته إرادة الإنسان. يكفي أن يقبل الإنسان شذوذه الجنسيّ على أنّه حالة طبيعيّة، حتّى ولو لم يُمارس الفعل، حتّى يُقصى عن الاشتراك في تناول جسد المسيح ودمه. وبالطبع، مثل هؤلاء، حين يُمنعون من المناولة المقدّسة، فهم يُمنعون حتمًا عن كلّ الأسرار الأخرى، خاصّة سرّ الكهنوت وسرّ الزواج.
من الطبيعيّ أن تكثر الخطايا المخالفة للطبيعة، في هذا العالم الفاسد الّذي يؤلّه الشهوة والجنس. لا يمكن أن يرى المرء في الشذوذ الجنسيّ سوى نفس مريضة تسعى لتأليه شهوة جسدها. فهذا الشذوذ ليس سوى مرض نفسيّ ينعكس على الجسد. إنّ الّذي يتحرّر من هذا المرض يعرف المعنى الحقيقيّ للإيمان الحيّ بالله. يعرف أنّ العفّة هي الفضيلة الكبرى التي جعلها الله في طبيعة الإنسان. العفّة القادرة أن تحرّر المؤمن التائب من الأفعال المناقضة للطبيعة. العفّة مع التوبة تُعيدان انسجام النفس والجسد معًا الّذي حطّمته هذه الخطيئة.
الشذوذ الجنسيّ، ليس سوى وسيلة لإفساد عفّة البشريّة وإغراقها في شهواتها. إنّها ليست سوى هجمة شيطانيّة تسعى للسيطرة على العالم عبر نشر الفساد بين البشر. كلّما غرق الإنسان في شهواته واستعبد لها كلّما سهلت السيطرة عليه. ليس الهدف الدفاع عن حقوق المثليّين، إنّما تدمير المبادئ والقِيَم الإنسانيّة. حين يصير الإنسان من دون قِيَم ومبادئ، يستسلم بسهولة لعدم الإيمان ولروح العصر الّذي يحيا فيه، ويتبنّى بحماسة أفكاره الشاذّة. وهكذا تسهل السيطرة عليه وتوجيهه كما يشاؤون.
قبل مجيء المسيح الأوّل، كانت الخطيئة والنجاسات قد تفاقمت وانتشرت في كلّ مكان، وذروتها، كما يُخبرنا بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية، كانت الخطايا ضدّ الطبيعة كالشذوذ الجنسي. وما يحصل اليوم من انتشار واسع وتشريع للشذوذ ولكلّ أنواع الرجاسات، قد يكون دليلًا على اقتراب مجيء المسيح الثاني. هذه المرّة لا ليخلّص إنّما ليدين إلى الأبد. من القرن الرابع، يقول القدّيس إيرونيموس في هذا الصدد: «عندما تتفاقم حالة مثليّي سدوم لدرجة لا تصدّق، بحيث ينتشرون في الشوارع من دون أيّ خجل- على سبيل سدوم القديمة- عندما يصاب الجميع، من الشبّان إلى المسنّين، بهذه الخطيئة، حينئذ يتمّ المجيء الثاني للمسيح»6.
1 القدّيس مكسيموس المعترف، (Opscula Theologica et Polemica 20, PG 91, 236D)
2 أنظر الدراسة التي نُشرت على صفحة التراث الأرثوذكسيّ، بعنوان: الفهم المسيحيّ للمثليّة، لكاتب متخفٍّ؛ العدد الثانيّ، تشرين الثانيّ 2023، ص 21-22.
https://www.orthodoxlegacy.org/wp-content/uploads/2023/12/2002.pdf
3 Archimandrite Sarantis Sarantou, The Passion of Homosexuality according to St. John Chrysostom.
4 "الفهم المسيحيّ للمثليّة"، لكاتب متخفٍّ؛ العدد الثانيّ، تشرين الثانيّ 2023، ص 24.
5 "الفهم المسيحيّ للمثليّة"، لكاتب متخفٍّ؛ العدد الثانيّ، تشرين الثانيّ 2023، ص 23-24.
6 تفسير سفر الرؤيا، ترجمة رولا ريمون الحاج، جزء 3، ص 97 (على المسودّة).