الخطيئة وشرور الحروب
الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان
نقلاً عن نشرة الكرمة، عدد 2، الأحد 14 كانون الثاني 2024
كلّ الكتاب المقدّس من التكوين وحتّى آخر كتاب الرؤيا يتكلّم عن صراع لا ينتهي بين الخير والشر، بين وصايا الله وأهواء البشر؛ بين الملائكة القدّيسين والشياطين الخادعين؛ بين الأنبياء الملهَمين والمعلِّمين الكذبة؛ بين الآباء المدافِعين، والمرائين والهراطقة.
كلّ هذا الصراع كان سببه الأوّل كبرياء ملائكة كانوا قدّيسين سقطوا ليصبحوا شياطين؛ ومحاولتهم التي لا تملّ جعل البشر شياطين على صورتهم. الشياطين أدخلت الكبرياء إلى النفس البشريّة وأفقدتها سلامها الداخليّ. وما هذه الأحقاد والحروب بين البشر سوى نتيجة هذا الكبرياء الشيطانيّ الذي لا يرتوي إلّا بالانتقام. آباء الكنيسة نظروا إلى الحروب على أنّها عمل الشياطين. واعتبروا أنّ المسيحيّين هم "نسل سلام"، تدرّبوا ليس على الحروب إنّما على السلام. لهذا العدو الحقيقيّ الوحيد بالنسبة للمسيحيّ هو الشيطان، الذي يدفع البشر إلى العداوة والحروب وكلّ أنواع الأحقاد. كلّ حرب بين الناس تبدأ أولّاً في القلب البشريّ حين يستسلم الإنسان للبغض والحقد ضدّ أخيه الإنسان. الحسد الموجود عند الشيطان يدفعه لأن يريد أن يهلك كلّ الناس. وإذا تملّك الحسد إنسانًا، يصير وحشًا تجاه أخيه الإنسان، وآلة شيطانيّة لكلّ أنواع الشرور والأحقاد التي تمدّ جذورها في الحروب. أشرّ الحروب والأكثر قساوة وهمجيّة هي الحروب الدينيّة. الحروب الدينيّة هي من أقسى الحروب وأكثرها تكون من دون رحمة. الحقد الدينيّ أخطر بكثير من كلّ الأحقاد الأخرى؛ يُسيطر على النفس البشريّة بقوّة لا تُضبط. ليس المبدأ الدينيّ، إنّما الحقد، هو الذي يدفع الإنسان ليقتل نفسه، ويصير وسيلة قتل من دون رحمة لأعدائه.
إذًا، النفس التي لا تغفر سيأكلها حقدها حتمًا. لهذا كلّ حرب تخرج إلى النور يُحبل بها أوّلاً في داخل القلب المضطرب. يُحبل بها من أب هو إبليس وأمٍ هي الأحقاد البشريّة. يقول القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ: "نحن نقاتل ضدّ عدوّ يُقيم علينا صراعًا وحربًا داخليّة. عدّو طافح بؤسًا، يجد فينا بالذات الأسلحة التي يوجّهها ضدّنا، ويسلمنا إلى موت الخطيئة. بمواجهة هذا العدو، نحتاج إلى إيمان كبير، إيمان مطلق، لكن أيضًا إلى مساندة أكبر من جهة الله".
فالشيطان بعصيانه، فَقَد السلام الملائكيّ، فَقَد الفرح الإلهيّ، الذي كان له جزءًا من طبيعة وجوده. وأصبح الشرّ لذّته الوحيدة، ونشْرُ الحروب بين البشر تعزيته الكبيرة. اختار طريقًا لهذا العالم يتناقض مع طريق الله، وأقنع العالم أنّه لا يوجد سلام من دون حروب واقتتال للبشر فيما بينهم. إنّه سلام المتكبّرين ومحبيّ السلطة. كلّ سلام يقوم على الحروب والاقتتال سينتج حروبًا أعظم وشرورًا لا تنتهي. أمّا سلام المتواضعين، وحده يخنق الشرّ في جذوره. لقد علّم مسيحنا أحبّاءه، في مقابل كلّ هذه التجارب والحروب والاضطهادات، التي يُحرّكها إبليس، أن يُحبّوا ويغفروا لأعدائهم، ويسروا ويصلوا كي لا يدخلوا في تجربة.
في القرون الأولى للمسيحيّة، آباء الكنيسة، لأجل سلام المؤمنين، في دولة معادية لمسيحهم، كانوا يدعون إلى الابتعاد عن الاشتراك في أي نوع من أنواع الحروب وقتل الآخرين. يقول أوريجنّس في ردّه على الوثنيّ كلسوس Celsus، (حوالي 248م)، أنّ المسيحيّين بعدم عبادتهم الأمبراطور يشكّلون خطر سقوط الأمبراطوريّة بأيدي الأمم البربريّة والهمجيّة. أوريجنّس يدافع بقوله أنّ المسيحيّين يقدّمون للأباطرة أعظم مساندة بصلواتهم وتضرعاتهم لأجله. فبمقدار ما يكون عليه الإنسان من تقوى، بمقدار ما تصير مساندته للأباطرة فعّالة، أكثر من الجيوش التي تخرج لتقتل ما تستطيع من الأعداء. "المسيحيّون يحاربون عبر صلواتهم إلى الله من أجل أولئك الذين يحاربون لسبب عادل، ولأجل الأمبراطور الذي يحكم بعدل... غلبتنا عبر صلواتنا، تهزم كلّ الشياطين التي تدفع إلى الحروب، وتنقض الأقسام التي تعكّر السلام. نحن نعين الأباطرة أكثر من أولئك الذين يُفترض أنّهم يعملون الحروب".
لكن بعد اندماج المسيحيّين في امبراطوريّة مسيحيّة، وازدياد خطر الوثنيّين والبرابرة، أصبح المسيحيّون ينظرون إلى سلامهم على أنّه جزء من سلام الأمبراطوريّة، لكن ليس من دون تحفّظ. يعتبر القدّيس باسيليوس أنّ الوظيفة العسكريّة ليست مانع للإنسان الذي يسعى إلى القداسة. في رسالة إلى جندي يقول: "يُمكن، حتى في الوظيفة العسكريّة، أن يحفظ الإنسان محبّة كاملة لله، وأنّ المسيحيّ عليه أن يتميّز ليس بالثياب التي يرتديها وإنّما بجهوزيّة نفسه". حتّى في حالة حدوث قتل في الحرب، يقول قدّيسنا: "أسلافنا لم يعتبروا القتل في الحرب كجريمة لكن، كما أفهمه، أعطوا أعذارًا لأولئك الذين يصارعون لأجل التهدئة والتقوى. مع هذا، حسن أن تذكّر أولئك الذين أيديهم ملوّثة أن يمتنعوا عن المناولة فقط لثلاث سنين". أحد النصوص الآبائيّة الأخرى من نهاية القرن الرابع بداية الخامس، يمنع الذي سفك دمًا في الحروب من الاشتراك بالأسرار حتّى يتطهّر من خطيئته بدموع التوبة والنوح.
خارج الوظيفة العسكريّة، تبقى الكنيسة أمينة كليًّا لوصايا المسيح أن الحروب كلّها غير عادلة وغير مبرَّرة. في الغرب تمادى البابوات في نظرتهم إلى مبدأ الحرب العادلة. وذلك استنادًا إلى المغبوط أوغسطينوس، الذي دافع عن مفهوم استخدام القوّة بهدف الدفاع عن الوطن أو لإستعادة أرض مغتصبة. وقد تطوّر هذا المفهوم لينشئ منه مفهوم "الحرب المقدّسة". هذا المفهوم للحروب دفع العديد من بابوات روما على الدعوة إلى الحروب الصليبيّة وإعطاء صكوك غفران كاملة للمحاربين، مع التأكيد لهم أنّهم في حروبهم ضدّ الكفرة ينالون المكافأة الأبديّة. هذا المفهوم لم يكن موجودًا في الكنيسة في الشرق، التي سعى آباؤها لأن يحفظوا أوّلاً السلام الداخلي للنفس البشريّة. متذكّرة دائمًا قول المسيح "أحبّوا أعداءكم"، وأنّ "مَن أخذ بالسيف بالسيف يُؤخذ" (متى 52:26). الحروب والقتل في الحروب يُحطّم فضيلة المحبّة في النفس البشريّة. لهذا حين حاول بعض أباطرة الروم، كنيكيفورس فوكاس، أن يحصلوا على موافقة الكنيسة في الشرق بأن يُكرَّم الجنود الذين يسقطون في الحروب تكريم الشهداء، رفضت الكنيسة طلبهم.
حروب المسيحيّين كلّها مقدّسة؛ لكنّها حروب روحيّة غير منظورة. حروبًا لا تتوقّف، يُحارب فيها الإنسان لا أخيه الإنسان، إنّما أهواءه والأبالسة الذين يدفعونه لقتل أخيه الإنسان. لهذا كلّ الحروب والاضطهادات يسمح بها الله لشعبه، ليكون له زمن توبة وعودة صادقة إلى الله، بإيمان ثابت وصلاة متواضعة ودقّة في حفظ الوصايا الإنجيليّة. إذا تحقّقت هذه التوبة فإنّ الله يوقف الشرور والاضطهادات ضدّ الكنيسة ومؤمنيها، ويعطيهم سلامًا مقدّسًا وفرحًا إلهيًّا أبهى وأنقى. وهذا بالتحديد ما كان يحصل في العهد القديم مع شعب الله. كثيرون هم الذين فتّشوا عن السلام الحقيقيّ لهذا العالم البائس خلال العصور، فلم يجدوه. آخرون أرادوا فرض هذا السلام بالقوّة ففشلوا. وحدها وصايا المسيح قادرة بالإقناع أن تُبيد قوّة الشرّ وتُحطّم شرّ الشياطين، وتنشر سلامًا حقيقيًّا بين البشر. العمل بوصايا المسيح يُعطي سلامًا بين البشر، لأنّه يقوم على الغفران لأعدائنا، لا على العقاب والانتقام. هذا السلام الآتي من محبّة الله، لا من انتقام البشر. يقول القدّيس أمبروسيوس: "السلام الذي يطرد إغراءات الأهواء ويُهدّئ اضطرابات الروح هو أرفع من ذاك الذي يُخضع البرابرة. ليس أمر أعظم من أن تُقاوم العدوّ داخلك من ذاك الذي هو خارجًا بعيدًا عنك". ملكوت الله ليس فيه حروب وأحقاد إنّما سلام لا ينتهي؛ وقد أعطانا وصايا تجعل هذا العالم أيقونة للعالم الآتي. الله سلام، ومملكة السلام لن يدخلها إلا الذين ثبتوا في هذا السلام، الآتي من محبّة الحقّ وعدالة الله، لا عدالة البشر.