لَطالَما كان النُّسكُ رَكيزةً للإيمان الأرثوذكسيّ، وحاميَ التّقليدِ الكنسيّ. النُّسّاكُ، هم حَمَلةُ صليب المسيح بامتياز. إنَّ مجدَ المسيحيّين (الحقيقيّين) جميعهم، على مَرِّ العصور المسيحيّة، حسب بولس الرّسول، هو صليبُ المسيح؛ الصّليبُ هو رمزٌ لأعلى درجات المحبّة: المحبّةِ المُتَفانية، رمزِ النّصر، ورمزِ المسيحيّة.
بعدَ سقوط الإنسان، ضَلّت قُوى النّفس، والتَوَت. أضحَت حياةُ النّاس، أرضيّةً، وشهوانيّةً، وجسديّةً وشيطانيّة. كما هي الحال اليوم، كانتِ الشَّهَواتُ الجسديّة، للطّبيعة السّاقطة، ثائرةً ضدَّ رغَبات النّفس السّماويّة. منذ مَطلع البشريّة، مارس النّاسُ إرادتَهم الحرّة، في سبيل خدمة أحد السيّدَين: الله - عبرَ سرّ التّقوى أو الحياة الإلهيّة - أو عدوّ البشريّة، عبرَ سرّ العِصيان. خدم قايين سرّ العِصيان وحضارته، ما حَوَّلَ البشريّة بسرعةٍ إلى الجسديّات.
رأى بنو الله، أنَّ بناتَ النّاس جَميلاتٌ؛ واتّخذوا لهم زوجاتٍ من بين اللّاتي كُنَّ حَسَناتٍ لهم؛ لقد رأى بنو الله، أنَّ بناتَ النّاس، كُنَّ جَذّاباتٍ من الخارج فاختاروا زوجاتِهم حسب غرائزهم، وشهواتهم. كانت الفوضى سيّدةَ الموقف، كما هو الوضع اليوم؛ فغِياب روح الله، يجلب الفوضى، والاختلاف، والاضطراب. أصبح النّاسُ وثنيّين، وعَبيدًا للجسد وللشّيطان.
فيتدخَّل الله؛ لكي يُخَلِّص البشريّة من طوفان الخطيئة. يغسل الخطيئة بالطّوفان، ويُخَلِّص عائلة نوح؛ كي يكملوا في سرّ الحياة الإلهيّ. وبعد بضعة أجيال، سوف يكمل إبراهيم، والبطاركةُ هذا السّرَّ، في العهد القديم مع موسى، وهارون، والكهنة، والأنبياء، والقضاة، الأتقياء، والملوك. لقد دُعِي إسرائيلُ للدّخول في عهدٍ مع الله، وبطاعة النّاموس والوصايا، أحرزوا كلَّهم التّقديس والنّقاوة؛ وهذا ما سمحَ للعذراء المباركة، الّتي تحدَّثَ عنها إشعياء، بأن تأتي. ما الحاجةُ للنّقاوة؟ لأنَّ الله لا يستطيع أن يلمس ما هو مُدَنَّس. حُضورُ الله، يجلب الخوف والرِّعدة، خاصّةً لأنَّ الإنسان يرى خطيئتَه، ويشعر بها وبدناستِه، في حضور النّور الإلهيّ.
إنَّ مزيج الدّخان، والنّار، والأصوات العالية، كانَ شديدَ الرِّعدة، فحتّى موسى قال:«أَنَا مُرْتَعِبٌ وَمُرْتَعِدٌ» (عبرانيّين 12 : 21). وعندما رأى إشعياءُ الرَّبَّ، جالسًا في الأعالي، على منبر شاهق، استولى عليه الخوفُ، وهتفَ: «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ...» (إشعياء 6 : 5). لذلك، أخذَ واحِدٌ مِن السّيرافِيمِ جَمْرَةً، وطَهَّرَ له شَفَتَيْه…
مخافةُ الله الطّاهرة هذه، الّتي هي البداية للحكمةِ الإلهيّة - تولِّدُ روحَ الخلاص (إشعياء 26 : 18). في جيلنا الفاسق الخاطئ، وُضِعَتْ هذه المخافةُ الطّاهرة، وهذه المَهَابَة العميقة لله القدير، جانبًا، وَاسْتُبْدِلَتْ بالمحبّة المسكونيّة الخاطئة، الّتي تُضعِفُ نفوسَ أعضاء الكنيسةِ المعاصرين. تُبْطِلُ الخطيئةُ هذه المخافةَ الإلهيّةَ، الّتي نحن بِأمسِّ الحاجةِ إليها، والّتي تقدِّس نفوسَنا، وتُنَجِّسُنا، كما تجعلُ نعمةَ الله غيرَ فاعلةٍ فينا.
لا يمكن لله أن يتّحد بالنّفوس، والأجساد الفاسِقة والنّجسة. قال اللهُ في العهد القديم: «لا تَثْبُتُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ لِلْأَبَدِ، لِأنَّه بَشَرٌ...» ( تكوين 6 : 3) لقد عَبَدوا ملذّاتهم... حياتهم أبيقوريّة1، تسعى إلى تَفادي الجهاد الجسديّ والرّوحيّ. انتبهوا هنا؛ لأنَّ هذه المسائل مُعاصِرة. يوجد الكثير من اللاهوتيّين الأبيقوريّين اليوم، الّذين اعتنقوا ذهنيّة العصر الجديدة (ما بعد الآباء) هذه. تتزايد النيقولاويّة2 الجديدة، في الكنيسة اليوم. يسعى هؤلاء النيقولاويّون الجُدد، إلى تقديس العلاقة الجنسيّة. حركةُ «العصر الجديد» الّتي تتعارض كليًّا مع الفكر الأرثوذكسيّ - مليئةٌ بالتّعاليم عن الأحاسيس المُرَوحَنة. هذه حال كتاب «الزّواج، الجنس والعُذوبيَّة: نظرة أرثوذكسيّة» (Minneapolis: Light and Life Publishing Company, 1975). يُرَفِّع هذا الكتاب العلاقات الجسديّة إلى خبرة ليتورجيّةٍ مقدّسةٍ، فيَرِدُ فيه: «الجنسُ، الاتّصال الحَميميّ بين الرّجل والمرأة وما ينتج عنه من اتّحادٍ بجسدٍ واحدٍ، هو مذبحٌ مقدّس. اللّحظة حين يقود الحبُّ الرّجلَ والمرأةَ إلى الجُماع بينهما، هي لحظةٌ مقدّسةٌ وحدثٌ مقدّس». حسنًا، إن كانت القداسةُ، تأتي من الجنس ومن خبرة الاتّحاد الزَّوجيّ، فيجب أن يكون القرن الحادي والعشرين، الّذي نعيش فيه، أكثرَ قداسة من القرون السّابقة كلّها. العكس هو الصّحيح، لقد تجاوز قرنُنا هذا، القُرونَ السّابقة في الفُجور، والفساد، والخطيئة. فكرُ الآباء، مُعاكِسٌ تمامًا للفكر النيقولاويّ الجديد هذا. يقول القدّيس مرقس النّاسك، في الفيلوكاليا: «إذا قطعنا رغبات الجسد، سوف تزول الشّرور الّتي فينا بسهولةٍ، بمعونة الرّبّ.»3 ويُعلِّم القدّيس نيلوس السّينائيّ: «إن أردتَ أن تصلّيَ بالرّوح، فلا تهتمَّ بأيّ شيءٍ جسديّ». طهَّرَ هؤلاء الآباء القديسون قلوبَهم، بضبط النّفس، والصّوم، والصّلاة، والإمساك. واستطاعوا بهذه الطّريقة، تفسيرَ تعاليم القدّيس بولس بشكلٍ صحيح.
يكتب القدذيس بولس الرّسول، في الإصحاح الثّامن من رسالته، إلى أهل رومية: «فَإِنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ فَبِمَا لِلْجَسَدِ يَهْتَمُّونَ، وَلَكِنَّ ٱلَّذِينَ حَسَبَ ٱلرُّوحِ فَبِمَا لِلرُّوحِ. لِأَنَّ ٱهْتِمَامَ ٱلْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ، وَلَكِنَّ ٱهْتِمَامَ ٱلرُّوحِ هُوَ حَيَاةٌ وَسَلَامٌ. لِأَنَّ ٱهْتِمَامَ ٱلْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ لِلهِ، إِذْ لَيْسَ هُوَ خَاضِعًا لِنَامُوسِ ٱللهِ، لِأَنَّهُ أَيْضًا لَا يَسْتَطِيعُ. فَٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْجَسَدِ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُرْضُوا ٱللهَ.» (رومية 5:8-8). ويقول في رسالته إلى أهل فيليبي: «لِأَنَّ كَثِيرِينَ يَسِيرُونَ مِمَّنْ كُنْتُ أَذْكُرُهُمْ لَكُمْ مِرَارًا، وَٱلْآنَ أَذْكُرُهُمْ أَيْضًا بَاكِيًا، وَهُمْ أَعْدَاءُ صَلِيبِ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِينَ نِهَايَتُهُمُ ٱلْهَلَاكُ، ٱلَّذِينَ إِلَهُهُمْ بَطْنُهُمْ وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمِ، ٱلَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي ٱلْأَرْضِيَّاتِ. فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، ٱلَّتِي مِنْهَا أَيْضًا نَنْتَظِرُ مُخَلِّصًا هُوَ ٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، ٱلَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ، بِحَسَبِ عَمَلِ ٱسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ.» (فيليبي 18:3-21). ويزوّدنا القدّيس بولس، برؤيته النّبويّة، بتحليلٍ روحيٍّ للنّزعة المناهضة للرّهبنة والنُّسك، المنتشرة عند مسيحيّي أيّامنا هذه: «وَلَكِنِ ٱعْلَمْ هَذَا أَنَّهُ فِي ٱلْأَيَّامِ ٱلْأَخِيرَةِ سَتَأْتِي أَزْمِنَةٌ صَعْبَةٌ، لِأَنَّ ٱلنَّاسَ يَكُونُونَ مُحِبِّينَ لِأَنْفُسِهِمْ، مُحِبِّينَ لِلْمَالِ، مُتَعَظِّمِينَ، مُسْتَكْبِرِينَ، مُجَدِّفِينَ، غَيْرَ طَائِعِينَ لِوَالِدِيهِمْ، غَيْرَ شَاكِرِينَ، دَنِسِينَ، بِلَا حُنُوٍّ، بِلَا رِضًى، ثَالِبِينَ، عَدِيمِي ٱلنَّزَاهَةِ، شَرِسِينَ، غَيْرَ مُحِبِّينَ لِلصَّلَاحِ، خَائِنِينَ، مُقْتَحِمِينَ، مُتَصَلِّفِينَ، مُحِبِّينَ لِلَّذَّاتِ دُونَ مَحَبَّةٍ لِلهِ، لَهُمْ صُورَةُ ٱلتَّقْوَى، وَلَكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا. فَأَعْرِضْ عَنْ هَؤُلَاءِ». (2 تيموثاوس 1:3-5)
نعم، علينا أن نبتعد عن الأساتذة، واللّاهوتيّين، والكهنة، والمطارنة المُعارِضين لتقليد كنيستنا المقدّس. لن نقدّم الطّاعة لأيّ أحد – ولا حتّى لملاكٍ من السّماء – يريد أن يقدّم لنا إنجيلاً جديدًا، أو عهدًا ثالثًا، أو لاهوتَ ما بعد الآباء، كالتّعاليم الّتي بدأ بِنَشرِها إغناطيوس، الّذي من ڤولوس.
إخوتي وأخواتي، نحن نعيش في أوقاتٍ غريبة. الكثيرُ من كهنتنا، وزملائنا في الرَّعايا، قد استسلموا لروح هذا العالم. لا يستطيعون فهمَ انشغالكم بتقليد الكنيسة، وحِرصِكُم على الدِّفاع عن تعاليم آبائنا القدّيسين. يخلطون بين عطشكم الرّوحيّ ونَواياكُم المقدّسة، والتّعصُّب والرَّجعيّة.
كلّا، لن يفهموكم؛ لأنَّ روح العالم مُعارِضٌ، ومُعادٍ، ومحاربٌ لروح الله. هدف دِراستنا، هو أن نبرهن لأنفسنا أوَّلاً أنَّ الرّوح الهدوئيّ-النُّسكيّ، هو أكثر التّعابيرِ أصالةً عن المسيحيّة الأرثوذكسيّة التّقليديّة.
سندرس تطوّر هذه الرّوحانيّة على مَرّ الزّمن، ولكنَّنا سنركِّز على حركة الكولِّيفادِس (Kollyvades) في القرن الثاّمن عشر، وهي حركةٌ ما زالت فاعِلةً في أيّامنا هذه، بفضل باريوس4 الجديد، القدّيسِ يوسف الهدوئيّ. إنّني شديد الاهتمام بهذا العمل منذ مدّةٍ طويلةٍ؛ وإنّني لَمسرورٌ، لأنّني أرى الكثير من المعلِّمين المعاصرين، مثل الأب جورج ميتالّينوس، والأب ثاودوروس زيسيس، والميتروبوليت أمفيلوخيوس رادوفيتش، قد عملوا كثيرًا على نهضةِ الكولّيفادِس، الحركةِ المقدّسة الّتي ما زلنا جميعًا نستفيد منها، وما زال كثيرون منكم مشاركين فيها، حتّى هذا اليوم.
يتعلّق موضوعنا بسرّ التّقوى، وسرّ المعصية. هناك مَن يدركون أهمّية النُّسك، كوسيلةٍ للاستنارة، وللنّموّ الرّوحيّ؛ وهناك مَن لا يستطيعون أن ينفصلوا عن روح العالم - عالمِ الاسترخاء والرّاحة - روحِ سرّ المعصية. أتباع هذه الرّوح الجسدانيّة استحوذوا على موسى في الصّحراء. تقزّزوا من طعام الله السّماويّ، ورغبوا بالعودة للكرّات، والبصل، والثّوم في مصر. وبعد العنصرة، أصبح البعضُ من أهل فيليبّي أعداءً لصليب المسيح، وجعلوا بطنَهم إلهَهم. في الكنيسة الأولى، كان الأعداءُ لصليب المسيح، قليلي العدد، خلال سنوات الاضطهاد الرّومانيّ والوثنيّ. لا يمكن لمَن يحبّون بطنَهم أن يُجاهدوا؛ لا يستطيعون رفض وجودهم في الرّخاء، فإمّا يساومون مع العالم، وإمّا يشوِّهون رسالة الإنجيل، كالغنوصيّين والنّيقولاويّين. لقد حمل الرّسلُ، والإكليروس الأتقياء، والشّهداءُ سرَّ التّقوى، وعاشوه. كان روحُ الاستشهاد مُهَيمِنًا تلك السّنين، لدرجة أنَّ الكنيسة كانت بحاجةٍ لاستخدام قوانينَ للحَدّ من موجات الشّهداء. هكذا كانت غيرةُ أولئك المسيحيّين المُبارَكين… بعد منشور ميلانو، اعتُرِفَ بالمسيحيّة أنّها ديانةٌ، وحَظِيت الكنيسة ببركة الحرّيّة. ظهرتِ الرّهبنةُ مباشرةً بعد هذه الحرّيّة. استُبدِلَ الشّهداءُ بالرّهبان، الّذين سَعَوا لإكمال طريقِ الإنجيل الضّيّق، الميزةِ النُّسكيّة لكنيسة المسيح. يتكلّم القدّيس بولس، عن مبدإٍ يجهله معظم المسيحيّين، خاصةً اليوم، في رسالته إلى أهل كولوسي: «ٱلْآنَ أَفْرَحُ فِي آلَامِي لِأَجْلِكُمْ، وَأُكَمِّلُ نَقَائِصَ شَدَائِدِ ٱلْمَسِيحِ فِي جِسْمِي لِأَجْلِ جَسَدِهِ، ٱلَّذِي هُوَ ٱلْكَنِيسَةُ، ٱلَّتِي صِرْتُ أَنَا خَادِمًا لَهَا، حَسَبَ تَدْبِيرِ ٱللهِ ٱلْمُعْطَى لِي لِأَجْلِكُمْ، لِتَتْمِيمِ كَلِمَةِ ٱللهِ. ٱلسِّرِّ ٱلْمَكْتُومِ مُنْذُ ٱلدُّهُورِ وَمُنْذُ ٱلْأَجْيَالِ، لَكِنَّهُ ٱلْآنَ قَدْ أُظْهِرَ لِقِدِّيسِيهِ.» (كولوسي 24:1-26)
على مَرّ التّاريخ، تعرَّض المسيحيّون والرّهبان الغَيارى، والمتمسّكون بالحقيقة للاضطهاد؛ بسبب قناعاتهم الدّينيّة غير المتزعزعة، وجهادهم في سبيل الأرثوذكسيّة. هكذا كانت جهاداتُ الرّهبان المعروفةُ، من أجل الأيقونات المقدّسة خلال الحرب على الأيقونات، في القرنَين الثّامن والتّاسع. لقد حافظتِ الرّهبنةُ، بهذا الموقف، جيلاً بعد جيلٍ، على نقاوةِ العقيدة في الكنيسة. كما أنّها شدَّدت حياة الشّعب الأرثوذكسيّ الرّوحيّة، وساعدتهم أيضًا على الصّمود، كي ينتصروا بجهادهم المستمرّ على العالم، وعلى قُوى الشّرّير (أكثر من %90 من قدّيسينا هم في مَصافّ النّسّاك). الهدوئيّةُ إذن، هي العمودُ الفقريّ لكنيسة المسيح؛ فالمسيح نفسُه، ووالدتُه الفائقة القداسة، والقدّيسُ يوحنّا المعمدان، عاشوا حياةً هدوئيّة. الهدوئيّةُ، هي العنصرُ الضّروريُّ الّذي ينقّي القلب، كي تستنير النّفسُ باشتراكها في الأسرار المقدّسة. الأقمارُ الثّلاثةُ، والآباءُ الكابادوكيّون العظماء، في القرن الرّابع، والقدّيس يوحنّا الدّمشقيّ، والقدّيس مكسيموس المعترف، والقدّيس فوتيوس الكبير، وأعمدة الأرثوذكسيّة الثّلاثة: هؤلاءِ كلُّهم، كانوا مُحِبّين للنُّسك والهدوئيّة. خلال القرن التّاسع، أدرك القدّيس فوتيوس الكبير بوضوحٍ، أنَّ هرطقةَ «الانبثاق من الابن» (filioque) - القائلة بانبثاق الرّوح القدس من الآب والاِبن – لم تكن سوى غيضٍ من فيضٍ، للمرض الرّوحيّ الغربيّ. هذه الجريمةُ الرّوحيّةُ، لم تحصل بين ليلةٍ وضُحاها. لقد خرجت من حضن المسيحيّة الغربيّة، وبعد عدّة قرون، لم تكن الرِّئاسة في الغرب تملك الصَّحوة الرّوحيّة اللّازمة للانتباه لتلك الكذبة البائسة. لم يستسلم القدّيس فوتيوس لغطرسة البابا نيقولاوس، كما رأينا منذ مدّة، لأنَّ بابوات الغرب لم يعودوا مُمثِّلين لروح الكنيسة الأولى. خلال القرن الحادي عشر، وضع القدّيس سمعان اللّاهوتيّ الجديد، اللّاهوتَ الهدوئيَّ في الواجهة. يُسَمّى «الجديد»، ليس لأنَّه أتى بلاهوتٍ جديدٍ؛ إنّما لأنَّه أتى من بعد القدّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ، الّذي عاش في القرن الرّابع. اتُّهِمَ القدّيسُ سمعانُ من قِبَل مُعاصِريه، بأنّه مُبتَدِعٌ؛ بأنَّه قدَّم شيئًا جديدًا، لاهوتًا جديدًا، لكن لاهوتُ العشق الإلهيّ، والنّشوة الإلهيّة، والنّور غير المخلوق، لم تكن شيئًا جديدًا للّذين بقوا في حالة اليقظة. أمّا لِذَوي الفكر السّياسيّ والعلمانيّ – للإكليروس والشّعب الجسدانيّين، والأرضيّين على حدٍّ سواء – كان هذا «Kaina daimonia» أي تعليمًا جديدًا.
حصل الأمر ذاته في خلال القرن الرّابع عشر. اتُّهِمَ القدّيس غريغوريوس بالاماس أيضًا بأنًّه مُبتَدِعٌ، لأنَّ معظم الرّهبان، قد نسوا عنصر الهدوئيّة – طريقَ السّكينة – في الأرثوذكسيّة.
شهدت الإمبراطوريّة البيزنطيّة، تلك السّنين، تدهوُرًا كبيرًا: حصلت أزمةٌ كبيرةٌ في شؤونها الدّاخليّة والخارجيّة، إلّا أنّ الهدوئيّة، والرّوحانيّة الأرثوذكسيّة، كانتا تزدهران. ربّما بدأ الشّعبُ بالنّظر إلى أعماقه، وبالعودة إلى الله؛ لأنّهم ما عادوا يشعرون بالأمان، بسبب التّقلّص الذّي شهدتهُ الإمبراطوريّة الرّومانيّة الشّرقيّة، الّتي كانت قبلًا، لا تُهزَم. لم تظهرِ الهدوئيّةُ فجأةً: كانت البقيّة في الكنيسة تمارسها دومًا. لاهوتُ الكنيسة كلِّه، كان موجودًا في الكنيسة يوم العنصرة، وهو موجودٌ في الكتاب المقدّس بشكلٍ مُقتَضَب. دافع القدّيس غريغوريوس بالاماس، عَمّا كان دومًا صياغة الأرثوذكسيّة الأصيلة، وعن جوهرها، مقابل مسيحيّةٍ غربيّةٍ مُتَغَرِّبة، وعَلمانيّةٍ. وهي لم تعد مسيحيّةً حقيقيّةً فيما بعد، أي لم تعد مُتَمَركِزةً حول المسيح، بل أصبحَت عقلانيّةً، مُتَمَركِزةً حول الإنسان. دافع القدّيس غريغوريوس بالاماس، عن القُوى غير المخلوقة الّتي لأسرار الكنيسة المقدّسة. فُقِدَ التّمييزُ عند الغربيّين، بين جوهر الله وقُواه؛ لأنَّهم استبدلوا لاهوتَ الصّيّادين والقلب النّقيّ، بفلسفة أرسطو والفكر. أصرّ اللّاتين، عبر برلعام الكالابري والأوهام الفلسفيّة، على أنَّ نعمة الأسرار هي نعمةٌ مخلوقة. لكن إذا كانت النّعمةُ مخلوقةً، فلا يمكنها أن تُخلِّص. إنَّ نعمة الأسرار، هي إلهيّةٌ؛ لأنّها تنبثق من جوهر الله. أتى ازدهارُ الهدوئيّة، في القرن الرّابع عشر، بعنايةٍ من الله، كي يستمرّ وجود الشّعب الأرثوذكسيّ، السّنين اللّاحقة، تحت الاِحتلال التّركيّ العنيف. بزغ ازدهارُ الهدوئيّة من قلعة الأرثوذكسيّة، جبلِ آثوس المقدّس. كان القدّيس غريغوريوس بالاماس بادئ الأمر، راهبًا في جبل آثوس، لأعوامٍ عديدة. من ثمّ، أصبح أسقفًا لتسالونيكي (+1359). لم يقتصر التّجديد الهدوئيّ على جبل آثوس وتسالونيكي، بل انتشر في بلاد البلقان، وسائر الأرثوذكسيّة. في الواقع، كان بطاركة القسطنطينيّة الخمسة اللّاحقين، من صفوف الهدوئيّين. لقد حمت صلاةُ يسوع، مع الصّلاة والصّوم، الشّعبَ البسيطَ، خلال قرون الظّلم، تحت حكم الإسلام.
لكن تعليمُ التّقليد الهدوئيّ هذا، بدأ يذهب طَيّ النّسيان تدريجيًّا. فبعد قرنَين من الزّمن، بقيَت قِلّةٌ من الشّعب، تمارس هذه الصّلاة، في اليونان. كانت اليونان، تحت هجماتٍ مستمرّةٍ من الدّعاية الغربيّة، خاصّةً بعد الإصلاح البروتستانتيّ، وظهورِ الصّحافة المطبوعة. بدأ اليسوعيّون، والكالفينيّون بالتّنافس من أجل اقتناص النّفوس اليونانيّة، وكانت الكثير من الكتب تُصَدَّر إلى الشّرق. لكنّ اليونانيّين، في آسيا الصّغرى، قد حافظوا على الصّلاة الهدوئيّة، وعلى التّقوى.
مع نهاية الاحتلال التّركيّ، بدأت حركةٌ هدوئيّةٌ-رهبانيّةٌ أخرى، كانت أقلّ شهرةً، بالازدهار، ولكنَّها بالأهمّيّة نفسِها. وقد هيّأت الأراضيَ الأرثوذكسيّةَ، للسَّعي للاستقلال من الاحتلال التّركيّ العنيف: حركة الكولّيفادِس. كان موضوعُ جهادهم، إعادةَ إحياء الحياةِ الكنسيّة، اللّيتورجيّة والرّوحيّة، للشّعب الأرثوذكسيّ، في القرن الثّامن عشر. أمّنت حركة الكولّيفادِس الجوابَ الأرثوذكسيَّ، عن روح العصر ومَطالِبه – عصرِ التَّنوير والعقلانيّة الغربيّة – وهكذا، حقّقت توقّعاتها بإعادة إحياء الحياة الكنسيّة.
ولكي نفهم ميزة هذه الصَّحوة، في حركة الكولّيفادِس، يجب أن نتحدّث قليلاً عن الحياة الرّوحيّة في اليونان، قبل القرن الثّامن عشر: بعد احتلال القسطنطينيّة، سنة 1453، بدأ الكثيرُ من البيزنطيّين الأثرياء بالهروب إلى الغرب. سافر الشّباب اليونانيّون، إلى العواصم الأوروبيّة، طالبين المعرفة، الّتي لم تكن متوفّرةً لهم في وطنهم الأمّ الّذي كان لا يزال قابِعًا في ظلمة الجهل. لكن الكثير من هؤلاء الشّباب، عادوا إلى وطنهم لأهدافٍ نبيلة؛ لكي يُزيلوا هذه الظّلمة، ويساعدوا شعبهم. توسّعت هذه الظّاهرة أكثر في القرن الثّامن عشر. كان الجميع في تلك الفترة، يسعى لإعادة إحياء الحياة الرّوحيّة للشّعب الأرثوذكسيّ المُستَعبَد، لكنّ الآراء حول هذا السّعيِ، قد قسّمت الشّعبَ إلى مجموعتَين: الليبراليّين، والتّقليديّين.
ركّز اللّيبراليّون على الغرب الأكثر تطوُّرًا، وقبِلوا أسُسَ الفلسفة والتّعليم، والعلوم الغربيّة. كان معيارُهم مادّيًّا بطبيعته. أمّا التّقليديّون، فقد ركّزوا بالدّرجة الأولى على ملكوت الله، ورفضوا ذهنيّة الغرب العَلمانيّة، متمسّكين بالتّعليم الكنسيّ، وبالإرث الآبائيّ الكنسيّ. الحقيقة، هي أنَّ المجموعة الأولى كانت تضمّ عددًا أكبر من الأتباع؛ كان هؤلاء مَفتونين بأضواء باريس، وبِبَهْرجة الغرب، وروحِه العَمَليّة، ومنطِقِه المُقنِع، وتقدّمه العِلميّ. بالطّبع، يكثرُ الأتباع عندما يتعلّق الأمر بالبطن. خلال هذه الحقبة التّاريخيّة العصيبة، نشأت حركة آباء الكولِّيفادِس، للاستجابة لهذه الخلافات اللّاهوتيّة، وللإدلاء بالموقف الأرثوذكسيّ القويّ والمناسب، تجاه عقلانيّةِ «الفلاسفة الجُدد». لم تُعطِ هذه الحركة لمصافّ القدّيسين أسماءَ جديدة فحسب، كالقدّيس نيقوديموس الآثوسيّ، والقدّيس مكاريوس نوتاراس، والقدّيس أثناسيوس باريوس- على سبيل المثال لا الحصر- بل أثَّرت جدَّا في الحياة الرّوحيّة والاجتماعيّة لليونان. على سبيل المثال، أثَّرَت في الكاتِبَين العظيمَين، ألكسندروس باباديامنتيس وألكسندروس مورايتيدس، اللّذين من سكياثوس، وفي اللّاهوتيّ العلمانيّ والواعِظ العظيم، كوزماس فلامياتوس الّذي من كيفالونيا، كما أثّرت في الرّاهب بابولاكوس، الّذي اجتاح البيلوبونيز، والأب نيقولاوس بلاناس (القدّيس حاليًّا)، والقدّيس نكتاريوس العجائبيّ، والأب فيلوثيوس زرفاكوس. لكن دعونا نَستعرِض باختصارٍ، الأحداثَ الّتي أدّت إلى هذه النّهضة «الفيلوكاليّة».
القضيّة:
بدأت الحركة «الفيلوكاليّة» لآباء الكولّيفادِس، في جبل آثوس. بدايتُها قد تُحَيِّر البعض، أو تُعطيهم انطباعًا مُضلِّلًا، هوَ إنّ مُشاحَنةً سطحيّةً بين بعض الرّهبان، ذوي وجهات النّظر المحدودة، خلقت مشكلةً كبيرةٍ كهذه. مع ذلك، خلافًا لهذا الادِّعاء المنطقيّ والقابل للجدل، هزَّ هذا الخلافُ جبلَ آثوس لعقود. كان موضوعُ الكوليفا، قمّةَ الجبل الجليديَ الكنسيّ، إذا جاز التّعبير، كما سنرى في القصّة. السّببُ الأوَّلُ للخلاف، كان من قِبَل الرّهبان في إسقيط القدّيسة حنّة، في جبل آثوس. بدأ هؤلاء ببناء «كيرياكون» Kyriakon جديد (كنيسة رئيسة جديدة للإسقيط)، لتلبية مُستلزماتهم الدّينيّة، نحو عام 1750؛ لأنّ أخوِّيتَهم، كانت قد توسّعت. تبرَّع الكثير من المُحسنين بالمال، لاستكمال بناء الكنيسة الجديدة، وأعطوا الآلاف من الأسماء للرّهبان لذكرهم في خدم الذّكرانيّات.
كانت خدمُ الذّكرانيّات، تُقام يومَ السّبت. كان باستطاعة آباء الدّير عادةً، ذكر نحوِ ألفين إلى ثلاثة آلاف اسمٍ في أثناء التَّقدِمة، من دون أيّ تغييرٍ ملحوظٍ في ترتيب الخدمة. لكن بعد حملة جمع التّبرعات هذه، ازداد عددُ الأسماء جدًّا؛ لهذا، أصبحوا بحاجةٍ إلى ساعاتٍ إضافيّةٍ، لذكر الأسماء كلّها. امتدَّ القدّاس الإلهيّ إلى ما بعد الظّهيرة، فأصبح وقتُ الرّهبان، ضيّقًا جدًّا. كان يومُ السّبت أيضًا، يومًا للتبضّع، وكان - حسب تعاليم الكنيسة - يبدأ بعد صلاة الغروب يومَ الجمعة، وينتهي بعد القدّاس الإلهيّ صباحَ السّبت، الوقت الّذي يُسمح فيه بتحضير «الكوليفا» (القمح المسلوق، المُقدَّم في نهاية خدمة الذكرانيّات، كرمزٍ لأجساد الرّاقدين، حسب القدّيس يوحنّا الإنجيليّ). يرد في الإنجيل: «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ ٱلْحِنْطَةِ فِي ٱلْأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِير. مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا ٱلْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ». (يوحنّا 12:24-25). حتّى ذلك الوقت، كانت تُرتَّل خدمةُ الذكرانيّات، في كنائس المقابر كلَّ سبتٍ، في كلّ ديرٍ وإسقيطٍ من الجبل المقدّس. قرَّر الرّهبان في دير القدّيسة حنّة، نقلَ الذّكرانيّات من السّبت إلى الأحد. كانوا بحاجةٍ إلى ساعاتٍ إضافيّةٍ، يومَ السّبت، لبيع أعمالهم اليدويّة، في السّوق الرّئيس في كارييس، حيث كانوا أنفسهم يبتاعون موادًّا لبناء كنيستهم الجديدة. كلّ ذلك يبدو منطقيًّا وبلا ضررٍ، للوهلة الأولى.
صدمت هذه الحادثة بعض الرّهبان، من بينهم الشّمّاس نيوفيطوس البيلوبونيزي الكافسوكاليفيّ، الّذي دخل في صراعٍ عقائديٍّ مع الرّهبان في دير القدّيسة حنّة. مع مرور الوقت، قسَّم هذا الخلاف الرّأيَ الرّهبانيّ إلى معسكرَين متقاتِلَين، وبَلبَلَ كنيسة القسطنطينيّة حرفيًّا. تعرَّض الرّهبان الّذين أرادوا إبقاء خدم الذّكرانيّات يوم السّبت حصرًا، وفقًا لتقليد الكنيسة القديم، للتّعيير والسّخرية، ونُعِتوا باِسم «الكولِّيفادِس» احتقارًا لهم. لكن مع مرور الوقت، أصبح هذا اللّقب مديحًا للرّهبان التّقليديّين، أمثال القدّيس نيوفيطوس (+1784)؛ والقدّيس مكاريوس نوتاراس، أسقف كورنثوس السّابق (+1805)؛ والقدّيس نيقوديموس الآثوسيّ (+1809)؛ والقدّيس أثناسيوس باريوس (+1813) والكثير غيرهم. بخلاف ذلك، عُرِفَ الرّهبانُ الّذين قَبِلوا بإقامة الذّكرانيّات في أيّام الآحاد، بالإضافة إلى يوم السّبت، بالمُعادين للكولِّيفادِس(Anti-Kollyvades)، وأشهرهم ثاوذوريتوس الّذي من يوانّينا، وبيساريون الّذي من رابساني في ثيساليا. بعد سنواتٍ قليلةٍ، عادت حركة الكولِّيفادِس من جديدٍ إلى الواجِهة الرّوحيّة، للجبل المقدّس، بالتّزامن مع إصدار كتابٍ عن المناولة الإلهيّة (1777). نُشرَ هذا الكتابُ، المجهولُ المصدر، في البندقيّة، ولكنَّه أتى بكلّ تأكيدٍ من أوساط الكولِّيفادِس؛ لأنّ محتواه يتطابق مع وِجهات نظرهم. يزعُم بعضُ الباحثين المُعاصِرين، أنَّ نيوفيطوس الكافسوكاليفي كتبَ النّسخة الأصليّة من الكتاب، ثمّ نقَّحَها القدّيسان مكاريوس ونيقوديموس، وزادا عليها. أغنى القدّيس نيقوديموس الطّبعةَ الثّانية (1783) بالكثير من النّصوص الآبائيّة.
كان هدف هذا الكتاب: «استعادة ميزة النّعمة التي كانت للمسيحيّين الأوائل، وهو يُثبِت، عبرَ الشّواهد الكتابيّة والرّسوليّة والآبائيّة، إنّ المناولة المتواترة أمرٌ ضروريٌّ، ومنقذٌ للنّفس، لكلّ إنسانٍ مسيحيٍّ أرثوذكسيٍّ، ما دام ليس من قَيدٍ للمناولة» (من مقدّمة طبعة 1783). حسب القدّيس نيقوديموس: «إنّ تَهاونَ المسيحيّين الكبيرَ، وازدراءَهم بالغذاء الرّوحيّ والسّماويّ، الّذي للمناولة الإلهيّة، هو السّببُ الرئيسُ لانعدام القداسة، ونقصِ الفضيلة، وازديادِ الشّرّ فينا». أدانت بطريركيّةُ القسطنطينيّةِ المسكونيّةُ في البداية هذا الكتابَ(1785)؛ لأنّه خلَّفَ فضائحَ وانقسامات. لكن فيما بعد، وفي البطريركيّة المسكونيّة نفسِها، أزال البطريركُ نيوفيطوس السّابع (1799-1801) هذه الإدانة. بالإضافة إلى مسألة المناولة المتواترة، نتجت أيضًا مشاكلُ أخرى؛ منها: مسألةُ تقديس الأيقونات، والحُرمُ الكنسيّ، وخدمةُ تقديس المياه الصّغيرة والكبيرة، والعلاقةُ بين القُدُسات و«الأنتيدورون» (قربان بدل التّقدمة، الّذي يُوزَّع في نهاية القدّاس الإلهيّ)، والسّجودُ أيّامَ الآحاد، وغيرُها. لكنّنا لن نتطرَّقَ لهذه المسائل، لِمَحدوديّة هذا المقال، بل سننتقل إلى أعمالٍ ونشاطاتٍ أخرى، أكثر أهميّةٍ للكولِّيفادِس. كما ذكرنا سابقًا، بَلبَلَ هذا الخلافُ الجبلَ المقدّسَ، وكنيستَه الأمّ، كنيسةَ القسطنطينيّة، الّتي أرادت أن تُعيد السّلام والهدوء، إلى الحياة الرّهبانيّة المضطربة.
لهذه الغاية، أرسل البطريرك ثيودوسيوس الثّاني (1769-1773) عامَ 1772، رسالةً إلى رُهبانِ الجَماعتَين، أورد فيها إنَّهم يملكون حريّة اختيار اليوم الّذي سيقيمون فيه خدم الذّكرانيّات، من دون أن تُدينَ أيُّ جماعةٍ، الجماعةَ الأخرى. وفي موضوعِ المناولة الإلهيّة، ليس لها عددُ مرّاتٍ مُحدَّدٌ- أي كم مرّةً يجب على المرء أن يتناول- لكن ما يهمّ، هو التّحضير المُسبَق واللّائق، قبل المناولة الإلهيّة. من الواضح، إنَّ البطريركيّة المسكونيّة حاولَت، في رسالتها، إعادةَ الهدوء إلى الجبل المقدّس. غير أنَّ الهدوء لم يتحقَّق. لم تنجح الرّسالةُ تلك، في تهدِئة الوضع في الجبل المقدّس. تَبِعتها رسائلُ أخرى - باءَت بالفشل أيضًا - أُوصيَ فيها الرّهبان، بالالتزام بالممارسة الّتي تَتَّبِعها الأديرة، الّتي ينتمون إليه. لم يُقَدِّم الرّهبانُ في دير القدّيسة حنّة الطّاعةَ، وذهبوا إلى القسطنطينيّة ليعرضوا حُجَجَهم هناك. ذهب آباءُ الكولِّيفادِس أيضًا، لكن من دون نتيجة. أخيرًا، عُقدَ مجمعٌ في دير كوتلوموسيو، عامَ 1774، لحلّ هذه المسألة. دعا المجمعُ آباءَ الكولِّيفادِس، ولكنَّهم لم يحضروا، عندما تيقّنوا أنَّ المجمع كان بأغلبيّته، يتألّف من أولئك الّذين يقيمون الذّكرانيّات أيّامَ الآحاد- أي المُناهضين للكولِّيفادِس. احتجَّوا في المجمع على آباء الكولِّيفادِس، أمام البطريركيّة المسكونيّة، فأرسلوا المُعارِضَ الأشهر للكولِّيفادِس، الرّاهبَ بيساريون الّذي من رابساني، مُمَثِّلًا عن المجمع، إلى القسطنطينيّة، بعد أن زوَّدوه برسائلَ - كانوا قد حرَّفوا مُحتواها - للقدّيسيَن أثناسيوس باريوس، ونيقوديموس الآثوسيّ.
أدَّت مساعي بيساريون في القسطنطينيّة، إلى انعقاد مجمع البطريركيّة المسكونيّة، عامَ 1776، وإدانة الكولِّيفادِس. إِثرَ هذا القرارِ، طردَهم المُعارِضون من الجبل المقدّس، لكن هذه المُعاملةُ الشّيطانيّةُ، من قِبَل المُعادين للكولِّيفادِس، ساهمَت في انتشار هذه الحركة المقدّسة في أنحاء اليونان وخارجها. بعد عدَّة سنوات، تَبرَّرَ آباءُ الكولِّيفادِس، عندما تسلّم البطريرك جبرائيل الرّابع كرسيَّ البطريركيّة، عامَ 1807، وحصل تَبريرُهم الكامل عامَ 1819، خلال رئاسة البطريرك القدّيس غريغوريوس الخامس الشّهيد.
مُمَثِّلو حركة الكولِّيفادِس:
للأسف الشّديد، لا نملك الأرقامَ الدّقيقة لعدد الرّهبان الّذين حافظوا على التّقليد. لكن من المُؤَكَّد، أنَّهم كانوا كثيرين. سنذكُر باختصارٍ أبرزَهم.
1- القدّيس نيوفيطوس الكافسوكاليفيّ.
كما قلنا سابقًا، كان نيوفيطوس الكافسوكاليفيّ، أوّلَ الآباءِ في الكولِّيفادِس، حسب التّسلسل الزَّمَنيّ. كان آثوسيًّا، وقد حصّل تعليمًا جيّدًا، وكان يتحدّر من البيلوبونيز. وُلِدَ في باتراس نحو عام 1713، ودرسَ في القسطنطينيّة، وفي باتموس ويوانّينا. نال الإسكيم الرّهبانيّ، في إسقيط كافسوكاليفيا، وعلَّمَ طلاّبَ اللّاهوتِ، في «معهد اللّاهوت الآثوسيّ للكهنة» (Athonias)، الّذين غالبًا ما سلكَ الكثيرُ منهم طريقَ الرّهبنة. وعامَ 1749، أصبح مديرًا للمعهد. نُفيَ من الجبل المقدّس، بسبب مشاركته في حركة الكولِّيفادِس. كفَّ عن تعاوُنِه مع الكولِّيفادِس بعدَ نَفيِه. عمل مديرًا لمدرسةٍ في خيوس عامَ 1760، وعمل في أدريانوبوليس عامَ 1767، وخارج حدود اليونان، في رومانيا حيث رقد في بوخارست، عامَ 1784.
2-القدّيس مكاريوس نوتاراس.
كان القدّيس مكاريوس نوتاراس، من نسل عائلة نوتاراس النّبيلة والتّاريخيّة، المعروفة حتّى من السّنوات البيزنطيّة. من بين أنسباء القدّيس مكاريوس المعروفين، نذكر القدّيسَ جيراسيموس شفيعَ كيفالونيا، وبطريركَي أورشليم دوثيساوس وخريسانثوس، والعالِم ثيوفانيس نوتاراس. درس القدّيس مكاريوس في شبابه في كيفالونيا. امتلك الدّعوة إلى الحياة الرّهبانيّة، فتوجَّه إلى دير رقاد والدة الإله (Mega Spilaio) في جنوب اليونان، لكنّهم لم يستقبلوه في الدّير؛ لأنّه لم يحصل على موافقة والدَيه. أُجبِرَ على العودة إلى بيت والده في كورنثوس، حيث تطوّع للعمل بصفتِه مُعلِّمَ المدرسة الجديد. عندما بلغ الرّابعة والثّلاثين عامًا، سنة 1765، سيمَ أسقفًا على كورنثوس بمطالبة من الإكليروس والعلمانيّين. لكن أسقفيّته لم تَدُم طويلًا. أدَّت أحداث ثورة البيلوبونيز، المُسَمّاة «أورلوفيكا»، ضدَّ الأتراك عام 1769، إلى تنحِيَتِه عن كرسيّ الأسقفيّة. بعد هذه الأحداث، طلب الأتراك، من البطريركيّة المسكونيّة، اختيارَ أسقفٍ جديدٍ للبيلوبونيز. ومنذ ذلك الحين، كرَّسَ القدّيسُ مكاريوس نفسَه للحياة النّسكيّة. ذهب إلى الجبل المقدّس، في الوقت الّذي ثار فيه الخلاف في الذّكرانيّات، وانضمَّ على الفور إلى جَماعة الكولِّيفادِس. كانت تَقدِمته الرّئيسة، لحركة الكولِّيفادِس، وللعالم الأرثوذكسيّ كلّه، جَمعَ كتاباتِ الآباء المقدّسة، وإصدارَ الكتابِ المعروف: «الفيلوكاليا». زار القدّيس مكاريوس الكثيرَ من مكتبات الأديرة، بحثًا عن المخطوطات، والكتاباتِ المنسيّةِ للآباء القدّيسين، لتَسليمِها إلى القدّيس نيقوديموس ليُنقِّحَها، ويزيدَ عليها قبلَ نشرِها. ثمرةُ عملِهِما، كانت مجموعتَي «الفيلوكاليا» و"الأفرجيتينوس" (Evergetinos)5، والكثير من الكتب الرّوحيّة الأخرى. كان القدّيسُ مكاريوس، مثالًا للأساقفة: فقد جمع ما بين الموهبة الرّوحيّة والتّعليميّة. على الرّغم من أنّه عاش في الفقر، اشتُهِرَ بأعماله الخيريّة، مساعدًا الطّلاب على وجه الخصوص في إكمال دراستِهم. في موضوع دوره في حركة الكولِّيفادِس، من المحتمل أنّه كان المُلهِمَ الأوّلَ، والأهم،َّ والمُولِّد للحركة. رقَدَ في 16 نيسان 1805 في خيوس، وبعد ذلك مباشرةً تَجلَّت قداستُه، عبر معجزاتٍ كثيرة.
3- القدّيس نيقوديموس الآثوسيّ.
كان القدّيس نيقوديموس الآثوسيّ، المُمثِّل الثّالث لمصافّ التّقليديّين (اسمه في العالم، نيقولاوس كالّيفروتسييس). وُلِدَ في جزيرة ناكسوس، سنة 1749، حيث تابع مرحلة التّعليم الابتدائيّة. درسَ في سميرنا. بعد ذلك بقليل، تعرَّفَ بالقدّيس مكاريوس نوتاراس في جزيرة هيدرا، وطوَّرَ معه صداقةً روحيّةً وثيقةً، استمرّت مدى الحياة. سنة 1775، سيمَ راهبًا في دير ديونيسيو الشّريف، في جبل آثوس. كان، إلى حدٍّ ما، العبقريَّ اللاهوتيَّ لحركة الكولِّيفادِس. عندما اتَّهمه أعداؤه بالهرطقة، بسبب مشاركته في حركة الكولِّيفادِس، كتبَ عامَ 1807، كتابَ «اعتراف الإيمان» (Confession of faith) الّذي يُعدُّ عملًا دفاعيًّا عن الحركة بأكملها. لقد كان حقًّا شخصيّةً عظيمةً. امتازَ بذكاءٍ حادٍّ، وبذاكرةٍ غير عاديّة، وبالاستقامة والنَّزاهة. كتبَ وأعدَّ أكثر من مئة كتابٍ، من بينها الأفرجيتينوس والفيلوكاليا، بالتّعاون مع القدّيس مكاريوس. كما ترجمَ الكتب الغربيّة، الّتي طهَّرها من عنصرها المُناهِض لآباء الكنيسة، ثمّ عمَّدَها في التّقليد الأرثوذكسيّ. أصبح القدّيس نيقوديموس، أوّلَ الباحثين عن المخطوطات، بعد سقوط القسطنطينيّة بيد الأتراك، سنة 1453. بعد إدانة الكولِّيفادِس، ونفيِ الحركة الطَّوعيّ من الجبل المقدّس، بقيَ القدّيس نيقوديموس في جبل آثوس، كونه لم يُدَن؛ لكنّه واصلَ عَمَلَه هذا، الّذي غيّر حياة الكثيرين، في هدوء قلّايته. يبلغ عددُ أعماله كلّها، المنشورة وغير المنشورة، نحو مئة واثنتَي عشَرَ مؤلَّفًا، نجد فيها كامل الحكمة الآبائيّة الأرثوذكسيّة. «بفضل أعمال نيقوديموس والعودة إلى المبادئ الصّحيحة للنّسك الهدوئيّ، عَرَفَت حركة الكولِّيفادِس نهضةً تجاوزت الخلاف في الذكرانيّات، إلى حدٍّ كبير.» كرَّمَ مُعاصرو نيقوديموس أعمالَه، وعَدّوه قدِّيسًا. رقَدَ سنة 1809، وأُعلِنَت قداستُه سنة 1955.
4- القدّيس أثناسيوس باريوس.
كان القدّيس أثناسيوس باريوس، من أهمّ المناصرين لحركة الكولِّيفادِس. اسمُه في العالم أثناسيوس توليوس. وُلِدَ في قرية كوستوس، في جزيرة باروس سنة 1725. بعد ذلك، تخلّى عن كنية عائلته «توليوس» واتّخذ كنية «باريوس». أكمل التّعليم الابتدائيّ، في جزيرة والدَيه «باروس». وبعد ذلك، انتقل إلى سميرنا للدّراسة، ومنها إلى الجبل المقدّس. كان طالبًا لتعليم نيوفيطوس الكافسوكاليفيّ، وأفجانيوس فولغاريس، لأربع سنواتٍ، في معهد اللّاهوت الآثوسيّ للكهنة (1752-1756). غادر إلى تسالونيكي، في نهاية العام 1758، حيث تولّى إدارةَ مدرستَين اثنتين فيها. بسبب الجائحة الّتي تفشَّت في ذلك الوقت؛ علَّقَ القدّيس أثناسيوس الدّروسَ، واستأنف العمل في تسالونيكي بصفته مُدَرِّسًا. أصبح مديرًا لمدرسة Athonias بقرارٍ بطريركيّ، عام 1771. لكن في الوقت عينه، افتُريَ عليه، واتُّهِمَ بالهرطقة، وجرَّدته البطريركيّة المسكونيّة من أُسقفيَّته؛ بسبب مشاركته الفعّالة في حركة الكولِّيفادِس. بعد هذه الأحداث، غادَرَ القدّيس أثناسيوس إلى جزيرة خيوس، حيث مكثَ حتّى رقاده سنة 1813. كان القدّيس أثناسيوس نشيطًا على الدّوام، كما نرى من ظروف حياته الخارجيّة. كان مناضلًا في جماعة الكولِّيفادِس. جاهدَ من أجل رفع المستوى الرّوحيّ لمواطنيه. حارب «الفولتيريّة» (Voltairism)6 والإلحادَ، وعواقب التَّنوير الأوروبيّ الأخرى. ودافعَ عن تعليم الكنيسة وفلسفتِها، قائلًا إنَّ آباء كنيستنا يُقدِّمون حلولًا للمسائل الفلسفيّة كلّها. بسبب موقِفه غير المتزعزع؛ اصطدم بأكثر علماء العصر شهرةً، العالِمِ الغربيّ أدامنتيوس كوراس، الّذي من أتباع المذهب الإنسانيّ (humanism). كتبَ القدّيسُ أثناسيوس، الكثيرَ من الأعمال الدِّفاعيّة، واللّيتورجيّة، والتّعليميّة. كان باريوس «أشهر يونانيٍّ في القرن الثّامن عشر بعد أفجانيوس فولغاريس»، حسب L. Petit، أسقف الرّوم الكاثوليك. أحصَته الكنيسةُ الأرثوذكسيّة في مصافّ القدّيسين عام 1995، مذهولةً من سيرة حياتِه وقداستِه.
5- من أتباع حركة الكولِّيفادِس، نذكر أيضًا رئيسَ دير البشارة في سكياثوس، الكاهن-الرّاهب نيفن؛ والشّيخ إيروثيوس، رئيس دير النبيّ ايليّا في هيدرا، ويعقوب البيلوبونيزي، وأغابيوس القبرصيّ، وخريستوفورس برودروميتيس، والقدّيس أرسانيوس الّذي من باروس.
الرّؤية اللاّهوتيّة للكولّيفادِس:
أراد المناهِضون للكولِّيفادِس، على غِرار أبنائهم، المسكونيّين المُعاصِرين، تكييف حياة الكنيسة مع الظّروف التّاريخيّة السّائدة، ومع حاجات الكنيسة اليوميّة. لم يَعِ هؤلاء، أنَّ التّغيّرات يجب أن تحدث دائمًا وفقًا لمعيار الإيمان غير المُتَبَدِّل، وليس وفقًا لمُتَطَلِّبات العالم المُتَبَدِّلة. كونهم دنيويّين، اعتقدوا أنَّ العصر ومُتطلِّبات الحياة، هي المعيار الّذي يُحدِّد العقائد والممارسات اللّيتورجيّة. على العكس، لم يُرِد آباء الكولِّيفادِس أساسًا، خدمة الحاجات الدّينيّة للنّاس؛ بل ركَّزوا، بشكلٍ أساسٍ، على عبادة الله. حسب آباء الكولِّيفادِس، يجب أن تكون العبادةُ ذبيحةً نابعةً من محبّة الإنسان لله، وليست مجرّد منهجيّةٍ لخدمة حاجات الإنسان الدّينيّة. من وجهة نظرٍ أرثوذكسيّةٍ، علينا أن نسعى للارتقاء نحو السّماوات، لا لِتَقويض السّماويّات لمستوى الأرضيّات.
بإمكاننا القول، إنَّ الرّؤيةَ اللّاهوتيّة للكولِّيفادِس مستندةٌ إلى الكتاب المقدّس، ومتمحورةٌ حول الله؛ أمّا ذهنيّة المُعادين للكولِّيفادِس، فكانت بشريّةً ومُتمحوِرةً حول الإنسان والعالم. وقعَ الرّهبانُ اللّيبراليّون، في جبل آثوس، تحت تأثير الرّوح الغربيّة، الإنسانيّة العَلمانيّة المُعاصرة (المذهب الإنسانيّ)، والتّنوير. قاسى العالمُ المسيحيُّ في الغرب، بعد سقوط البابا عام 1054، ثلاثَ سقَطاتٍ روحيّةٍ أخرى: عصر النّهضة، الّذي حوَّلَ الإنسان من الله إلى ذاته، وحركة الإصلاح البروتستانتيّ، الّتي قسَّمَت المسيحيّة إلى مئات الآلاف من الطّوائف اليوم، وعصر التّنوير- أو الظّلمة بالأحرى- الّذي دفع أوروبا إلى الإلحاد. يتَّضح مِمّا ذكرنا، أنَّ الخلاف في الذّكرانيّات كان انعكاسًا لهذين الموقِفيَن اللّاهوتيَّين، وليس مجرَّد خلافٍ تافِهٍ بين بعض الرّهبان، الّذين لم يكن لديهم شيئًا أفضل ليفعلوه. لِنَرَ إذن، ما البراهين الّتي قدَّمها الكولِّيفادِس، لدعم مواقِفهم. حسب القدّيس أثناسيوس باريوس، إنَّ الاحتفال بالذّكرانيّات، أيّامَ الآحاد هو «عملٌ غير ملائم» - بكلمات أخرى، عملٌ غير مقبولٍ وخاطئ: غيرُ ملائمٍ؛ لأنَّ الجنّاز والخِدَم المُحزِنة، لا يجب ترتيلها في هذا اليوم المُفرِح. وخاطئ؛ لأنَّ كتاب القوانين الرّسوليّة، يذكر إنَّ «من يحزن في يوم الربّ يكون مذنِبًا بالخطيئة».7 يُقدِّم القدّيس نيقوديموس الآثوسيّ، في كتاب «عتراف الإيمان» (Confession of Faith) براهينَ أكثر من القدّيس أثناسيوس باريوس، في موضوع منع إقامة خِدَم الذكرانيّات أيّامَ الآحاد. ويُمَيِّز بين نوعين من الذّكرانيّات: تلك الّتي يُقيمها الكاهن، عندما يذكر أسماء الرّاقدين في الذّبيحة الإلهيّة، الّتي تحدث من دون حزنٍ وعويلٍ، والأخرى الّتي تُقام «مع الكوليفا»، أي مع الكثير من البكاء والنّحيب. لذا، حسب القدّيس نيقوديموس، ليست الذّكرانيّاتُ ممنوعةً؛ إنّما الممنوع هو النَّوح والحزن. كذلك إنَّ خِدم الذكرانيّاتِ، ممنوعةٌ في الآحاد، حسب قوانين الرّسل، الّتي تفيد أنّه «ليس من اللّائق الحزن والنّوح، يومَ العيد». زيادةً على ذلك، لا تعكس خِدمُ الذّكرانيّات والكوليفا، بالنّسبة إلى الكولِّيفادِس، الصّلاةَ من أجل الرّاقدين فحسب؛ لكنَّها أيضًا شهادةٌ لموتِ الرّبّ، ولنزولِه إلى الجحيم يومَ السّبت المقدّس، ليُعتِقَ المعتقلين فيها. تَرمز الكوليفا إلى جسد الإنسان المائت، الّذي ينتظر القيامة. إذن، يوم السّبت هو يوم النّوح والحزن على الأموات، أمّا يوم الأحد، فهو يوم الفرح، والسّرور بالقيامة العامّة المُنتَظَرة للأموات. بما أنّ يومَ الأحد يملك رمزيّةً كهذه، علينا أن نشهدَ لها، ونُجاهِرَ بها، ويجب ألّا يُشَوِّه أيُّ شيءٍ هذا السرَّ العظيمَ ليوم الرّبّ، أو أن يُخفيَه. يُمَثِّل كلُّ رمزٍ، حقيقةً معيَّنةً، كما يقول القدّيس نيقوديموس، لا ينبغي الخَلطُ بين هذه الرّموز المُختلِفة؛ لأنَّ التباسًا كهذا سيُشَوِّه التّعليم. رُبَّ سائلٍ: ما الغرض من وجود الرّموز في حياتِنا؟ ماذا يمكن أن تُقدِّمَ لنا؟ كلّما كانت الوتيرةُ الطّبيعيّةُ، لحياة الإنسان، مُتماشيةً ومُثبَّتةً في سرّ التّدبير الإلهيّ، واستحضارُ الأحداث التّاريخيّة مُحاذٍ للذّكرى اللّيتورجيّة والرّمزيّة للعيد، أصبح الإنسانُ مُتجذِّرًا في سرّ الحياة الإلهيّ، وهكذا يبدأ بعيش الفردوس منذ الآن. يبدأ بالاعتياد على الحياة الأبديّة، والعيش بمفاهيم أخرى. وعليه، يصبح الوقتُ الّذي نعيش فيه الآن، مُتَّحِدًا بالأبديّة. يتجلّى العالمُ، ويتألّه الإنسان تدريجيًّا. تتمثَّل مَهمَّةُ الكنيسةِ، في تزويد أبنائِها بجواز سفرٍ روحيٍّ يساعِدهم في دخول ملكوت الله والحياة الأبديّة، بخلاف سلطة الجحيم، والظّلمة، والموت الأبدِيَّين. نُشدِّد هنا، على فكرةٍ جوهريّةٍ: ليست عودةُ الكولِّيفادِس إلى وصيِّة الكنيسة القديمة، بالمناولة المتواترة، إعادةَ إحياءٍ للتّقليد القديم وحسب؛ بل بالأحرى حاجةٌ وُجودِيّة. من أجل العيش روحيًّا، والالتصاق بالله؛ علينا أن نَشترِك في الطّعام الإلهيّ الرّوحيّ والشّافي، والسرمديّ، والمُشدِّد لحياتنا: «الخبز السّماويّ» الّذي نحن بأمَسِّ الحاجة إليه. في زمن الكولِّيفادِس، أصبحت المناولةُ مرَّتين أو ثلاث مرّاتٍ في السّنة، أمرًا عاديًّا عند المسيحيّين، ظانِّينَ أنَّ الغرض من ذلك، هو عدم إهانة سرّ المناولة الإلهيّ المقدّس. غير أنَّ الكولِّيفادِس، كانوا على يقين أنَّ المناولة الإلهيّة ليست مكافأةً للكامِلين، إنَّما تشديدًا للخطأة في جِهادِهم الرّوحيّ؛ فحَثّوا على المناولة المتواترة من كأس الحياة. من بين هذه الأمور، نرى أنَّ آباء الكولِّيفادِس القدّيسين، كانوا مُهتَمِّين بشكلٍ أساسٍ بالمعنى الأعمق للحياة اللّيتورجيّة وبالحقيقة المُطلَقة للكنيسة، الّتي من شأنِها أن تمنح المسيحيّين المُعَمَّدين جميعَهم، ولادةً جديدةً بالرّوح؛ لكي يكونوا مستعدّين للعيش على مثال قامة المسيح، في الرّوح القدس. لهذا السّبب، ليس صدفةً أنَّ آباء الكولِّيفادِس، قد لجأوا إلى آباء الكنيسة الّذين استمدّوا من كتاباتِهم، الفلسفةَ الحقيقيّةَ والإلهيّة.
النّهضة الفيلوكاليّة:
- في اليونان
أحد أهمّ إصدارات الكولِّيفادِس، كتاب «الفيلوكاليا»، الّذي يُعَدّ مرجعًا جامعيًّا للأرثوذكس. كما سبقَ وذَكرنا، يعود الفضل الأكبر في هذه المجموعة إلى القدّيس مكاريوس، من دون أن ننسى فضلَ القدّيسِ نيقوديموس، لاهوتيِّ الحركة الدَّءوبِ، الّذي أعدَّ ومَحَّصَ الكتاباتِ الآبائيّةَ كلَّها، الّتي أعطاه إيّاها القدّيس مكاريوس.
يضاهي كتاب السّنكسار، مستوى التّعليم الرّوحي الابتدائيّ؛ والأفرجيتينوس، مستوى التّعليم الثّانويّ؛ أمّا الفيلوكاليا، فالمستوى الجامعيّ.
بعدما عُزِلَ القدّيس مكاريوس عن أُسقُفيَّتِه، تَوجَّه إلى الجبل المقدّس، حُرًّا من الأعباء المادِّيّة كلِّها. لكنَّه زارَ أوَّلًا الكثيرَ من المكتبات الرّهبانيّة، في اليونان وجُزُرِها، بحثًا عن كتابات الآباء عن اليقظة والهدوئيّة. لكن ما الذي دفعَ القدّيس إلى ذلك؟ كما قلنا سابقًا، اختبر القدّيس مكاريوس الحالةَ الرّوحيّةَ للنّاس في العالم، قبل أن يصبح ميتروبوليتًا على كورنثوس، وعندما كان لا يزال مُدَرِّسًا. كان على حقِّ، عندما اعتقد أنَّه لا يمكن للمرء اكتسابَ فكرٍ أرثوذكسيٍّ نقيٍّ، من دون امتلاك روحٍ لاهوتيّةٍ، بالإضافة إلى «الأرثوبراكسيا» (Orthopraxia)، أي الممارسة الصّحيحة. في الوقت عينه، لا يمكن أن نتقدَّم في الجهاد الرّوحيّ، ونأتيَ بثمرٍ، ما لم يكن جِهادُنا مبنيًّا على أساسٍ لاهوتيٍّ متينٍ، وعلى وجود الشّيخ (أي الأب الرّوحيّ). كلّ ما ذُكر، رآها القدّيسُ مجموعًا في أعمال آباء الكنيسة اليَقِظين. لذلك، كرَّسَ بقيّة حياتِه لهذه الغاية.
لذا، عند وصولِه إلى الجبل المقدّس، كان بحوزته الكثير من النّصوص، الّتي أغناها أكثر من المكتبات الآثوسيّة. اكتشف في دير فاتوبيذي كنزًا: كتابًا عن اتّحاد الذّهن «النّوس» بالله، جَمَعَهُ الغيّورون الكِبار في العصور القديمة، ويتضمَّن مختاراتٍ من كتاباتِ القدّيسين عن هذا الموضوع. بعد ذلك، استقرَّ في إسقيط القدّيس أندراوس، في كارييس. وهذا بالضّبط، حينما استدعى الراهبَ الشابَّ نيقوديموس، الّذي لم يكن يبلغ سوى 28 عامًا، وطلب منه الاطّلاع على الفيلوكاليا.
هذه المجموعة الكبيرة، الّتي تتضمَّن كتاباتِ النّسّاك كلَّها، من القرن الرّابع إلى القرن الرّابع عشر، سمَّاها القدّيس مكاريوس «الفيلوكاليا». استعار هذا الاسم من القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ (381+)، الّذي أطلقَ هذا الاسم على الأجزاء السّليمة من أعمال أوريجنس، والذي قدَّمها فيما بعد إلى صديقه، القدّيس باسيليوس الكبير. تعني كلمة فيلوكاليا: حبّ الجمال (philo تعني حُبّ، وkallos تعني جمال)، وهي مُطابِقةٌ لكلمة Calligraphy (الكِتابة الجميلة). تَمَيُّز القدّيس نيقوديموس، مكَّنَهُ من التّمعُّن في هذه الكميّة الهائلة من الأوراق، الّتي وَضَعَها القدّيس مكاريوس في عُهدَتِه. كان عليه أن يقرأَ، ويختارَ ويُمَحِّصَ، ويُصَحِّحَ، ويُدَقِّق، ليُعِدّ هذا الكنز السّماويّ. كان عليه أن يكتب سِيَرًا مُختصَرةً، للمؤلِّفين المُدرَجين في هذه المجموعة، ومقدِّمةً للكتاب. كان العمل هائلًا، لكن مَرضِيًّا جدًّا؛ لأنَّه ساهمَ في النّموّ الرّوحيّ للقدّيس نيقوديموس نفسه. في أثناء إعداده لكتابات القدّيسين اليَقِظين، حصَّلَ القدّيس نيقوديموس الغذاء الرّوحيّ كلّه، الّذي كانت تحتويه. بطبيعة الحال، تُمِّمَ هذا العمل بتوجيه من القدّيس مكاريوس. بدأ تعاون القدِّيسَيْن عامَ 1777، وأُنجِزَ في فترةٍ زمنيّةٍ وجيزة. عام 1782، نُشِرَ كتاب «فيلوكاليا الآباء اليَقِظين» في البُندُقِيَّة.
هذا العمل لا يُقدَّر بثمنٍ، مع العلمِ أنَّ عملاً واسعًا وقيِّمًا كهذا، لم يُقدِم على إنجازه أحدٌ حتّى ذلك الحين، ولم يُستبدَل بأيّ عملٍ أهمّ منه حتّى هذا اليوم. من المعروف، أنَّ الحركة الفيلوكاليّة لم تُؤَثِّر في الحياة الرّوحيّة لليونان فحسب، بل في سائر شعوب البلقان وروسيّا أيضًا. ترتبط النّهضة في الحياة الكنسيّة في هذه البلدان باسم «الستاريتز» (الشّيخ) المولدوفي المُنحَدِر من أصول أوكرانيّة، القدّيس باييسيوس فيليتشكوفسكي (1722-1794)، الّذي ترجمَ «فيلوكاليا الآباء اليَقِظين» إلى اللّغة المُعتَمدة في الكنيسة السّلافيّة القديمة.
وصلَ القدّيس باييسيوس إلى الجبل المقدّس، قبل نشوب الخلاف في الذّكرانيّات بوقتٍ قليل، عام 1746، مُفتِّشًا عن مرشدٍ روحيٍّ، كونه لم يستطع إيجاده لا في روسيّا ولا في مولدوفا. غير أنَّ رغبة القدّيس باييسيوس هذه، لم تتحقّق في آثوس أيضًا. فيما كان مُتعطِّشًا إلى المُرشدين الرّوحيّين، انكبّ القدّيس باييسيوس على قراءة أعمال الآباء، الّتي لم تلقَ، ذلك الوقت، الكثير من القبول. هذا هو بالضّبط، الأمرُ الّذي دَفعَه إلى تعلُّم اللّغة اليونانيّة، والبحث عن مخطوطات النّصوص الآبائيّة، في مكتبات الجبل المقدّس. استقرَّ القدّيس باييسيوس في إسقيط النّبيّ إيليا، فجذبَ بحضورِه، وقداستِه رهبانًا كثيرين، فتوسّعت الأخويّةُ جدًّا، ما اضطُرَّ القدّيس إلى ترك جبل آثوس، والعودة إلى فالاشيا؛ لأنّ الظّروف وقتَها، لم تكن تسمح بوجود أخويّةٍ كبيرةٍ كهذه، في شبه جزيرة آثوس.
تركَ القدّيس باييسيوس تلميذه غريغوريوس، في الجبل عند مغادرتِه إلى مولدوفا، عام 1764. تعلَّقَ غريغوريوس بالقدّيس مكاريوس، وساعده في نسخ المخطوطات، وسَلَّمَ هذه الثّروةَ إلى القدّيس باييسيوس في الوقت عينه. عندما نُشِرَ كتابُ «الفيلوكاليا» عام 1782، أخذَه القدّيس باييسيوس، وترجمَه إلى اللّغة السّلافيّة.
ساهمت الفيلوكاليا الرّوسيّة، في تجديد الحياة الكنسيّة لروسيا، في القرن الثّامن عشر. يُعَدّ ديرُ أوبتينا، أبرزَ نموذجٍ لهذه النّهضة الكنسيّة والرّوحيّة، وكان له تأثيرٌ مصيريٌّ في جماعة المفكِّرين، مُحِبّي السّلافيّة، من دون استثناء؛ لذلك، تحلَّت الأرض الرّوسيّة، عبر إعادة اكتشافها لجذورها الأرثوذكسيّة، بتعليمٍ مُوافِقٍ لروح المسيحيّة الأصيلة. أعطى هذا التّأثيرُ الرّوحيُّ، للكولِّيفادِس بالتّحديد، الحقَّ للأسقف أمفيلوخيوس رادوفيتش في التّحدّث عن «الحركة الفيلوكاليّة» بدلًا من«حركة الكولِّيفادِس»، قائلًا «إنَّ كلمة كولِّيفادِس، لا يمكنها أن تُعَبِّر، أو تتضمّن الأبعادَ كلَّها لهذه الحركة المُتعدِّدة الأوجه».
تأثير حركة الكولِّيفادِس في الحياة الرّوحيّة لليونان الحديثة:
بعد الخلاف في الذّكرانيّات، استمرّ معظم الكولِّيفادِس في آثوس، في مغادرة الجبل المقدّس، والتجمّع في شتّى مناطق اليونان- لا سيّما في الجزر الإيجيّة- وتأسيس الأديرة، الّتي أصبحت مركزًا لنشر الأفكار الخاصّة بحركة اليقظة هذه، الّتي للتّقليد الهدوئيّ: نقاوة القلب، المُضادّة لِعَقلَنَة الإيمان ببساطة. من وجُهات النّظر المُهمّة لدور الكولِّيفادِس، هي تلك الّتي تُرَكِّز على مَهَمَّتِهم بصفتهم آباءً، وشيوخًا روحيّين، للشّعب المُستَعبَد. كانوا في الكثير من الأحيان، مُدَرِّبين ومُلهِمين للشّهداء الجُدُد، زمن الاحتلال العثمانيّ.
إنَّ هؤلاء الشّهداء الجدد، هم المسيحيّون الّذين نَكروا إيمانَهم، واعتنقوا الإسلام، في لحظة ضعف. هذا الجحود يحدث عادةً؛ بسبب الخداع، أو التّهديد، أو العنف، أو الضّغط، لمحاولة إغوائهم بالغنى الماديّ والملذَّات الأرضيّة. وعلى هذا، يقضي هؤلاء الجاحِدون المَرثيّ لهم، بضع سنواتٍ في النّسك الشّديد، والحرب الرّوحيّة، والممارسة الدّقيقة للصّلاة الهدوئيٍّة؛ بدافع التّوبة، وبإرشادٍ من بعض الرّهبان المختبرين. ومن ثمّ، يذهب هؤلاء الجاحِدون، ببركة شيخهم، ليشهدوا (ليصبحوا شهداء) رسميًّا (أي علنًا) على عودتهم إلى إيمان المسيح، أمام العثمانيّين. مِرارًا وتَكرارًا، كان الأتراك يحكمون على هؤلاء الأبطال السّماويّين بالموت، مثال: القدّيس نيقيطا نيسروس، الّذي كُرِّمتُ رفاتُه في أيلول الماضي، في جزيرة كوس، والقدّيس قسطنطين الّذي من هيدرا، والقدّيس جاوارجيوس الّذي من يوانّينا، والكثير غيرهم. أصبح مثالُ الشّهداء الجدد، دعامةً أساسيّةً لإيمان الشّعب اليونانيّ الخاضِع لسيطرة المسلمين. كانت البطريركيّة المسكونيّة أيضًا وراء كلّ ذلك - على الرّغم من أنَّها لم تستطِع أن تفعل الكثير، كَون موقفها كان حَرِجًا - فقد شَجَّعَت الأرثوذكسيّين على إقامة الأعياد السَّنوِيَّة، والاحتفال بذكرى الشّهداء الجدد، مباشرةً بعد انتقالِهم إلى الحياة الثّانية.
واللّافتُ، أنّ الغنى الرّوحيَّ الّذي شهدته الحركة، نتيجةَ انضمام آباءٍ روحيّين لها، امتدَّ ليطالَ أوجه الحياة الوطنيّة الأخرى، مثل دعم ِالمُناضِلين، من أجل إعتاق الجنس الرّومانيّ المسيحيّ، من مِلّة الرّوم (Rum Millet)، من الاستعباد التّركيّ. من نماذج الغنى الرّوحيِّ هذا، دير البشارة في جزيرة سكياثوس. كلَّ مرَّةٍ كان فيها وجود الـarmatloi- أي المُناضِلين المُسلَّحين في ثيساليا ومقدونيا- على الأرض مُهدَّدًا، في أثناء هروبهم من الأتراك، كانوا يَجِدون ملاذًا في جزيرة سكياثوس المُجاوِرة، حيث كان الرّهبانُ في دير البشارة المِضيافون، يُقَدِّمون لهم، بكلّ حَمِيّةٍ، الرّعايةَ الممكنة، من الخبز، واللّحوم، والجبن، والنّبيذ. نتيجةً لهذه التَّقدِمة الوطنيّة؛ أصدرَت الحكومةُ قرارًا بإعفاء الدّير من الضّرائب، في ذلك الوقت.
لكنّ دورَ دير البشارة، في سكياثوس، لم يقتصر على هذه التَّقدِمات والتَّأثيرات فحسب؛ فالدّير بنى، ورعى نفوسَ الزّوّار المسيحيّين كلّهم، ومنحَ اليونان الكاتِبَين المسيحيَّين العظيمَين: ألكسندروس باباديامنتيس، وألكسندروس مورايتيدس، من سكياثوس، اللّذين كانت مسيحيَّتهما، القائمة على الفيلوكاليا، ظاهِرةً لا مثيل لها حتّى يومنا هذا، في الأدب اليونانيّ الحديث.
لن نتكلَّمَ، في هذا المقال، عن سيرة حياة هذين الكاتِبَين، ولكنّنا سنُوَجِّه انتباهنا إلى جذور روحانيَّتهما. على الرّغم من أنَّهم وُلِدا بعد قرنٍ من فترة الازدهار، الّتي شهدتها حركة الكولِّيفادِس، إلّا أنَّهما تأثَّرا إلى حدٍّ كبير بروحِها الفيلوكاليّة، غير المحدودة، الّتي امتدَّت إلى جزيرة سكياثوس الجميلة، مع تأسيس دير البشارة، الدّيرِ الجديد (Nea Moni)، كما سمّاه السّكّان المحليّون. تأسّس الدّيرُ، من قِبَل الكاهِنَين الرّاهِبَين غريغوريوس، الّذي من سكياثوس، وشيخِه نيفن، الّذي من خيوس، وهما من جَماعة الكولِّيفادِس المَنفيّةِ خارج جبل آثوس. كان الشّيخُ ديونيسيوس، ثمرةً من قدّيسي الكولِّيفادِس، وأخًا في الجسد للأب أدمانتيوس مورايتيدس، والدِ ألكسندروس باباديامنتيس، وعمِّ ألكسندروس مورايتيدس. كان تلاميذُ الشّيخ ديونيسيوس، يُوَقِّرونَه جدًّا لدرجة أنَّ باباديامنتيس كتبَ عنه ما يلي: «لو وُلِدَ قبلَ القرن الرّابع، لكان شهيدًا؛ ولَو وُلِدَ بعد القرن الرّابع، لكان راهبًا قدّيسًا». في نَعوَتِه لوالدِه عامَ 1895، كتبَ باباديامنتيس أنَّه «تعلَّم إقامة الذّكرانيّات، من آباء الكولِّيفادِس المُوَقَّرين». كَون الألكسندروسَان (أي باباديامنتيس ومورايتيدس) مُنحَدِرَين من هذه السّلالة الرّوحيّة والجسديّة، لشيوخ الكولِّيفادِس، فقد وَقَّراهم، وكرَّماهم، وأَحبّاهم؛ لكنَّهما عَمَّدا أيضًا قلَمَهما الأدبيّ المُشترَك بروحِهم الكولِّيفاديّة. يَمدح مورايتيدس القدّيسَ نيقوديموس، مُسَمِّيًا إيّاه «مُعَلِّم العصر العظيم». لكن باباديامنتيس يُضيف أيضًا- في روايته «The Hatzopoulos»، عن الأبَوَين نيفن، وغريغوريوس، ورفقِائهما النّسّاك الآخرين، موضِحًا: «تعرَّضَ هؤلاء المَعروفين بـاِسم الكولِّيفادِس، للاضطهاد حتّى في الجبل المقدّس؛ لأنَّهم شدَّدوا على دقّة إيماننا، وأشياء أخرى كثيرة، بالإضافة إلى عدم إقامة ذكرانيّات الرّاقدين أيّامَ الآحاد. إنَّ سبت الرّاقدين موجودٌ، لكن هل سبق وسَمِعتم أيّها المسيحيّون بأحد الرّاقدين؟». إنَّ الأهميّة المُعطاةَ للحياة اللّيتورجيّة، والعبادة الإلهيّة، في الأرثوذكسيّة، مِن قِبَل باباديامنتيس، هي تذكيرٌ دائمٌ بالأسلاف الرّوحيّين، لحركة الكولِّيفادِس.
إنَّ الألكسندروسَين، اللّذين كثيرًا ما كانا يتذكَّران السّنوات البريئةَ من حداثَتِهما، كانا يعودان بالذّاكرةِ دائمًا، إلى دير البشارة، وإلى الرّهبان الفاضِلين والأتقياء. حزينٌ هو استرجاعُ تراتيل السّهرانيّات اللّيليّة، المُبَكِّتة للضّمير، والألحان الموسيقيّة لزقزقة عنادِل الفجر. لم تكن اليونان لتحظى بمورايتيدس، لو لم يقل له الشّيخ ديونيسيوس «اِذهب، وحَصِّل العلمَ أوّلًا»، عندما عبَّرَ الشابّ ألكسندروس عن رغبتِه في أن يصير راهبًا. وهكذا حصلَ العالَمُ الأكاديميُّ والأدبيُّ، على مورايتيدس بفضل نصيحة الشّيخ تلك. لكن، ببقائه أمينًا لرغبة شبابِهِ، أصبح في نهاية حياتِه راهبًا، مُتَّخِذًا اسم أندرونيكوس عند سِيامته.
دَعونا نُورِد، في هذا المقطع الخِتاميّ، المُلَخَّصَ الآتيَ للأب جاورجيوس ميتالينوس، في هذا الموضوع:
يُشير ظهور الكولِّيفادِس، في القرن الثّامن عشر، في آثوس، وفي اليونان على نِطاق أوسع، إلى عودةٍ قويّةٍ إلى جذور التّقليد الأرثوذكسيّة، في قلب الرّوحانيّة الأرثوذكسيّة. إنَّ هذه الحركة، كما سُمِّيَت، مُجَدِّدةٌ وتقليديّةٌ؛ مُنَمِّيةٌ وآبائيّةٌ. بكلمتَين: أرثوذكسيّةٌ بحتة. تعرّضت كثيرًا للهجوم، وأُسيء فَهمُها، وافتُرِيَ عليها، من قِبَل أولئك الّذين تَرَبَّوا في ظلمة السّكولاستيّة الغربيّة، أي الّذين انقطعوا مِن الجذور الآبائيّة، ولم يتمكَّنوا مِن فَهمِها، لأنَّهم تَعلَّموا النّظر إلى ما هو أجنبيّ، على أنَّه لهم وليس غريبًا عنهم. في القرن الثّامن عشر العصيب، أرادَت الكولِّيفادِس التّصدّي لعقلانِيّة التَّنوير المُتضخِّمة، عبرَ الخبرة الأرثوذكسيّة للأسرار، الّتي تُخَلِّص الإنسان بالتّطهير، وبالاستنارة، وبالتّألّه.
https://www.orthodoxethos.com/post/the-spiritual-movement-of-the-holy-kollyvades-fathers
1. نسبةً إلى أبيقوروس، وهو أحد الفلاسفة الإغريق القدماء. (المترجم).
2. اُنظر رؤيا 15:2 وتفسير الآية في كتاب شرح سفر الرّؤيا للشّيخ أثناسيوس ميتيليناوس، الجزء الأوّل. (المترجم).
3. The Philokalia, vol. 1, London: Faber and Faber, 1983, p. 122, no. 181
4. نسبةً للقديس أثناسيوس باريوس أحد مؤسِّسي حركة الكوليفادس (المترجم)
5. معظم كتاب الإفرجيتينوس موجودٌ باللّغة العربيّة ضمن سلسلة «كيف نحيا مع الله» (المترجم).
6. نسبةً إلى الكاتب الفرنسي Voltaire (المترجم)
7. القوانين الرّسوليّة، الكتاب 5، الفقرة 20. (المترجم)