عظةٌ في ميلاد سيّدتنا الفائقة القداسة.
الأرشمندريت إفرام، رئيس دير الڤاتوبيذي.
نقلتها إلى العربيّة: يولا يعقوب.
إخوتي وآبائي الأحبّاء1، اليوم هو باعثٌ للتَّمجيد وللابتهاج الرّوحيّ؛ لأنّنا نعيّدُ لِميلاد الدّائمةِ البتوليّة مريم، والدةِ الإله، والزّهرةِ الطَيِّبَة العَـرْفِ، الّتي خرجَتْ «مِنْ جِذْعِ يَسَّى». إنّنا نعيّدُ لـ«ميلاد ابتهاج العالم كلّه»، الّذي هو، حسب القدّيس أندراوس الكريتي، «مدخلُ الأعياد جميعِها، ومقدّمةٌ لِسرّ المسيح»؛ هذا الميلاد الّذي أصبحَ عُنصُرَ إعادة الولادة، وإعادة الجبلة العقليّة، وزينة الطّبائع وتجدُّدها. اليومَ، تولدُ الّتي ستحمل في حشاها، في الزَّمَن، بطريقةٍ فائقةٍ للإدراك، ولا يُنطَقُ بها، اللهَ الكلمة، خالقَ العالم ومخلِّصَه، غيرَ المحدود بِزمنٍ، والأزليَّ الّذي لا بداءة له.
هي تتويجٌ، وإتمامٌ، وتَهيِئَةٌ للجنس البشريّ في العهد القديم لاستقبال الله، المُخلِّصِ المُتجسِّد. تشيرُ إليها وتصوّرها، أمثلةُ العهد القديم، ونَماذِجُه، وصُوَرُه، وُرسومُه، ونُبوءاتُه كلُّها، عبرَ العُلَّيْقَة غير المُحترِقة2 في رؤيا موسى، واللَّوْحَيْن المَكتوبَيْنِ بِإِصْبِعِ ٱللهِ، وتابوت العهد، وعبرَ المَنّ السّماويّ، والتّابوت المُغَشّى بِالذَّهَبِ والمِبْخَرَة الذَّهَبِيّة (عبرانيّين 9 : 4)، وعبرَ المائدة والمنارة، وعصا هارون الّتي أفرعَتْ، وسُلَّم يعقوب، وجَزَّة جدعون المُنَدّاة، والجبل غير المُقتَطَع بِيَدٍ في رؤيا دانيال، والأَتُّون الّذي ندّى الفتيةَ الثّلاث بالنّار، وأيضًا عبرَ قدس الأقداس في خيمة الشّهادة. والدةُ الإله، هي نقطةُ التَّحوُّل بين العهدَيْن القديم والجديد. في العهد القديم، كانَتْ كَرْزَ الأنبياء، ورَجاء الأبرار؛ أمّا في العهد الجديد، فهي عُذُوبَةُ الملائكة، ومَجْدُ الرّسل، وبَأْسُ الشّهداء، وبَهجَةُ القدّيسين، وفخرٌ للجنس البشريّ؛ لذلك تُعظّمُها «جميعُ الأجيال».
كانَتِ الخليقةُ كلُّها، تنتظرُ مَولدَها. حَسَب القدّيس نيقولاوس كاباسيلاس، سيّدُتنا الفائقة القداسة هي «ثمرةُ المَخلُوقَات»، أي أنّها النّقطة الّتي كانت الخليقة تتّجهُ إليها. كما أنّ الشّجرةَ موجودةٌ من أجل الثّمرة، كذلك الخليقة موجودةٌ من أجل العذراء، والعذراء موجودةٌ من أجل المسيح. كما يُشَدِّدُ الآباءُ، الخليقةُ كلُّها، المنظورةُ وغيرُ المنظورة، مع السّماوات والأرض أيضًا، خُلِقَتْ من أجل العذراء الكّليّة الطّهارة، لا الجنس البشريّ فَحَسْب. في بداية الدّهور، عندما نَظَرَ اللهُ إلى خليقتِه، وقال إنّها «حَسَنَةٌ جدًّا»، كان في جوهره يتطلّع إلى ثمرتها، سيّدتِنا الفائقة القداسة والدة الإله، وكان مَديحُه هذا، في الواقع، إنّما مَديحٌ للعذراء.
في عيد اليوم، تتبارَكُ الخليقةُ كلُّها بِمولد السّيّدة العذراء، البريئة من الأدناس. لم تكن هذه «الخليقة الجديدة» أفضل امرأةٍ على وجه الأرض، ولا حتّى أفضل امرأةٍ على الإطلاق، ولكنّها كانت الوحيدة القادرة على إنزال السّماوات إلى الأرض، وعلى أن تجعلَ الله إنسانًا. خَلَقَ اللهُ الكلمةُ، والخالقُ، الطّبيعةَ البشريّةَ بِحَيْثُ إنّه عندما يحتاج أن يولد، فإنّه سيتّخذ هذه الطّبيعةَ من والدتِه. أتى اللهُ، الّذي لا يُرى وغيرُ المنظور بالنّسبة إليها، الآن، وعبرَها، إلى الأرضِ، وصار منظورًا. اتَّحَدَ بِالخليقة، واشترك معها بِطريقةٍ أكثر تآلُفًا ويقينًا. بفضلِ طبيعته البشريّة، يجعل الخليقةَ متّحدةً بِأقنومه، ويُؤَلِّهُها. الله، الفائق التَّصوُّر، والفائق الوصف، الّذي لا مسكن له، أخذ «صُورَةَ عَبْدٍ» (فِيلِبِّي 2: 7)، وجسدًا بشريًّا، ونَفْسًا عقلانيّةً. كان يتعامل مع النّاس، ويمشي على الأرض. هو الّذي «لا يَسَعُهُ مَكانٌ»، قد احتواه حشا العذراء، فصارَت الفائقةُ القداسة «الحظيرة التي وَسِعَت غير الموسوع».
لقد انحلَّ اليوم عُقرُ حنّة، وَهي تَلِدُ «الميراث للعالم أجمع»، حَسَب القدّيس كيرلّس الإسكندريّ. صَنَعَ اللهُ عدّةَ عجائبَ مماثلةً، في العهد القديم: لِسارَةَ زوجة البطريرك إِبْرَاهِيم، ورِفْقَةَ زوجة إِسْحَق، وحَنَّةَ والدة النّبي صَمُوئِيل، و أَلِيصَابَات والدة يوحنّا السّابق. ولكنّ أعجوبةَ اليوم مختلفةٌ تمامًا. قد يكون أبناءُ الأمّهات- الآنِف ذِكرهنَّ، اللّاتي حُلَّ عُقرُهنّ الطّويل الأمد بأعجوبةٍ- فاضِلين وقدّيسين بالفعل، لكن وحدها مريم، ابنة يواكيم وحنّة، كانت «ممتلئةً نعمةً»، وأصبحَتْ والدةَ الإله، بِطريقةٍ لا يُسْبَر غَوْرُها، لِكلٍّ من البشر والملائكة.
لم تولد سيّدتُنا العذراء من حَبَلٍ بلا دنسٍ، كما يعتقد الكاثوليك خَطَأً، لكن نتيجة علاقةٍ زوجيّةٍ طبيعيّةٍ بين يواكيم وحنّة. انحلَّ عُقْرُ حنّة الطّبيعي، بفضل تدخّل الله المباشر، استجابةً لِصلوات والِدَيها الصِّدّيقَيْن. اجتمعَ يواكيم وحنّة الطّاعِنان في السّنّ، ليس بدافع الشّهوة الجسديّة أو اللّذّة، بل طاعةً لله فقط، وكان هذا خَتْمًا لِعِفَّتِهما. بهذه الطّريقة، حُبِلَ بِالعذراء، في حالةٍ من اللّا هوى الكامل، في بطن حنّة، عبرَ يواكيم. وحقيقة أنّه حُبِلَ بها بعفّةٍ، تعني أنّ طريقة الحَبَل هذه كانت طاهرةً. لكن، لكي تولد العذراء منعتقةً من الخطيئة الجدّيّة، أي لكي يكون قد حُبِلَ بها بلا دنسٍ، كان يجب أن تولد من عذراء، كما وُلِدَ المسيحُ.
لكن من أجل إنجاب مثل هذا الطّفل، أظهر الجدّان الصِّدّيقان إيمانًا راسِخًا غيرَ متزعزعٍ، وصبرًا ثابتًا غَيْرَ مُنْقَطِع. لم يستسلما، وحافظا على الرّجاء الّذي لا يُخْزَى، وكانا مواظبَيْن على الصّلوات، واثِقَيْن بأنّ الله سيستجيب لِتضرّعهما. ولم يكن الأمرُ، كما لو أنّهما اصطبرا على عدم إنجابِهما لِفترةٍ قصيرةٍ. يخبرُنا التّقليدُ، إنّ حنّةَ حَبِلَتْ بِوالدة الإله بعد خمسين عامًا من العُقر.
أيّها الإخوة والآباء الأحبّاء، يجب أن يكون سُلوكُ الجدَّيْن مثالًا لنا جميعًا. ليس للإخوة والأخوات العلمانيّين فقط، الّذين لا يستطيعون إنجاب الأطفال، والّذين لا ينبغي أن يفقدوا الرّجاء بِالله، لأنّ «غَيْر ٱلْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ ٱلنَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ ٱللهِ» (انظر لوقا 18 : 27)؛ إنّما لنا نحن الرّهبان أيضًا، والمؤمنين جميعِهم الّذين يجاهدون الجهادَ الحَسَن.
إنّنا غالبًا ما نَيْأَسُ أو نحزن في جهادنا، ونقولُ إنّه لم يُستَجَبْ لنا، ولا نشعر بِالنّعمة، وإنّنا بائسون. لذلك، تضعف عَزيمَتُنا بسبب حُزنِنا، ونَتَوانى في حَربِنا وفي جهادِنا النّسكيّ. لكن ينبغي ألّا نكون على هذا النّحو، يا إخوتي. هل كَفَّ جَدّا الإله عن التّضرّع إلى الله، وهل توقّفا عن الإيمان بأنّهما سَيَنالان، وهل أقلعا عن القَرْع، وعن السّؤال، وعن الرّجاء، عندما لم يَستجِب اللهُ على الفور لِصلواتهما؟ ويا للصّبر، وطول الأناة الصَّلْبَين اللّذين أظهراهما لِسِنينَ عديدة!
وبُغْيَةَ اختبار فوائدِ الصّبر العظيم الرّوحيّةِ، عانى القدّيس إسحق السّريانيّ من احتجاب النّعمة الإلهيّة، والحرمان منها، ومن مآسي الحرب اللّا منظورة، لِثلاثين سنةً. اقتنى النّعمةَ الإلهيّةَ، بشكلٍ دائمٍ، بعد تلك الفترة الطّويلة من الجهاد المجبول بالدّم والصّبر. نُشير بهذا خِصّيصًا إلينا، نحن الرّهبان، الّذين دُعينا لِتَلَقّي ملء النّعمة. ما نحتاجُه، هو الصّبر في الأحزان، والإيمان بِوعود الله، والطّاعة الكاملة لِمشيئته، والرّجاء في الوصيّة «أن نُصَلَّي كُلَّ حِينٍ وَلَا نملَّ» (انظر لوقا 18 : 1). يعلمُ اللهُ، الوقتَ المُوافِق لنا لكي يمنحَنا موهبتَه المَجيدة، الّتي لا يَفي بها وصفٌ، ولا يحدُّها عقلٌ، ولا تُقَدَّرُ بِثمنٍ، ألا وهي نعمته الإلهيّة الّتي تسكُن فينا. يشدّد الأنبا إشعياء، على أنّ «المواهب الرّوحيّة تأتي من تِلقاء نفسها»، فنحن لا نقرّر متى وكيف نتلقّاها.
في الواقع، في أغلب الأحيان، قبل أن يمنحنا الله بعضَ البركة، موهبةً ما، يمتحنُنا بِتجربةٍ، بِنتيجتها يتحدّدُ ما إذا كنّا مستحقّين لتلقّي هذه الموهبة الإلهيّة أو لا. نستشفُّ هذا الأمر أيضًا، عند الجدَّيْن القدّيسَيْن اللّذين، لمّا حان الوقتُ لِيمنحهما اللهُ طفلًا، سَمَحَ بِأن يُجرَّبا أكثر. ولمّا كان عِيدُ تجديد الهيكل، جاءا إلى الهيكل لِيقدّما فيه قرابينهما، فرفضها رئيسُ الكهنة إيساخر، قائلًا إنّهما غير مستحقَّيْن لأن تُقبَل منهما قرابين؛ لأنّهما غير مثمرَيْن، ولم يعطيا أيّ أطفالٍ لإسرائيل. بعد ذلك، حَزِنَ الجدّان كثيرًا، إلّا أنّهما لم يفقدا الرّجاء. فقد لجأا إلى الصّلاة من الأعماق، وذَهَبَ يواكيم إلى الجبال وحنّة إلى البستان، وسُمِعَت صلاتُهما مباشرةً في النّهاية، فأخبرَ ملاكُ الرّبّ كُلًّا منهما على حدةٍ، إنّ حنّة ستحبلُ، وإنّ بنتًا ستولد وستُهلِّلُ لها قبائل الأرض كلّها.
وهكذا نحن أيضًا، أيّها الإخوة والآباء الأحبّاء، لِنُظهِرَنَّ صبرًا بِلَا تَذَمُّرٍ، في الأحزان، والتّجارب، الّتي يسمحُ بها اللهُ، من أجل منفعتِنا وتقدّمِنا الرّوحيَّيْن. نصلّي من أجل أن تشفِيَ سيّدتُنا والدة الإله وجدّتُه، اللّتان تتمتّعان بِموهبة شفاء العُقم الجسديّ، قلوبَنا العَقيمة (غير المثمرة) من الأعمال الرّوحيّة؛ لِكَيْما يرسلَ اللهُ إلى نفوسِنا، نعمتَه الإلهيّةَ والفائقةَ العذوبة، الّتي تُزيِّن الناسَ، وتُجدّدُهم، وتَجعلُهم عادِمي الموت، وعادِمي الفساد.
https://pemptousia.com/2021/09/homily-by-elder-efraim-on-the-birth-of-our-most-holy-lady/
1. ألقى الشّيخ إفرام هذه العظة، على مائدة الطّعام في دير الڤاتوبيذي، في عيد ميلاد والدة الإله، عام 2002.
2. مِن المُهِمّ القول، في النّظرة الأرثوذكسيّة لِمَرْيَم، أنّ العُلَّيْقَةَ لم تكن «تَحتَرِقُ»؛ كانت تشتعلُ بِالنَّارِ، وَلكنّها لم تكن تَحتَرِقُ (خروج 3 : 2) [المُترجِم للإنجليزيّة].