خدمة الذّكرانيّات وفوائدها
الأب الرّاهب بينيدكتوس
الإسقيط الجديد – جبل آثوس
نقلته إلى العربيّة: ستيفاني سركيس
الكاهن: تبارك الله إلهنا كلّ حينٍ الآن وكلّ أوانٍ وإلى دهر الدّاهرين.
الشعب: آمين. قدوسٌ الله، قدّوسٌ القويّ، قدّوسٌ الّذي لا يموت، ارحمنا. (3 مرات)
المجد للآب والابن والرّوح القدس، الآن وكلّ أوانٍ وإلى دهر الدّاهرين، آمين.
أيُّها الثّالوث القدّوس ارحمنا، يا ربّ اغفر خطايانا، يا سيّد تجاوز عن سيّئاتنا، يا قدّوس اطّلع واشفِ أمراضنا من أجل اسمك.
يا ربّ ارحم، يا ربّ ارحم، يا ربّ ارحم.
المجد للآب والابن والرّوح القدس، الآن وكلّ أوانٍ وإلى دهر الدّاهرين، آمين.
أبانا الّذي في السّموات، ليتقدّس اسمُكَ، ليأتي ملكوتُكَ، لتكن مشيئتُكَ، كما في السّماء كذلك على الأرض خبزنا الجوهريّ أعطنا اليوم واترك لنا ما علينا كما نترك نحن لمن لنا عليه ولا تدخلنا في التّجربة لكن نجِّنا من الشّرّير، آمين.
الكاهن: لأنّ لك المُلك والقوّة والمجد أيّها الآب والابن والرّوح القدس الآن وكلّ أوانٍ وإلى دهر الدّاهرين.
الشعب: آمين.
أيُّهــا المخلِّص أرحْ نفس عبدكَ (أمَتِكَ) مع أرواح الصدّيقين الرّاقدين واحفظها للحياةِ السّعيدة الّتي من قبلك يا محبَّ البشر.
أرح يا رب نفس عبدك (أمَتِكَ) في راحتك، حيثُ جميع قدّيسيك يستريحون لأنكَّ أنتَ وحدكَ الّذي لا يموت.
المجد للآب والابن والرّوح القدس
أنتَ إلهنا الّذي انحدرتَ إلى الجحيم، وحلَـلـْتَ أوجاع المعتقلين. أنتَ يا مخلّص، أرح نفس عبدك (أمَتِكَ) .... السّابق رقاده(ا).
الآن وكلّ أوانٍ وإلى دهر الدّاهرين، آمين.
أيّتها العذراءُ الطّاهرةُ النّقيةُّ وحدكِ، يا من ولدتِ الإلهَ بغير زرعٍ، توسّلي إليه أن يَرحَم ويُسامَح نفس عبدك (أمَتِكَ) .... السّابق رقاده(ا).
الكاهن: ارحمنا يا الله، كعظيم رحمتك نطلب إليك فاستجب وارحم ، يا ربّ ارحم يا ربّ ارحم يا ربّ ارحم
وأيضاً نطلب من أجل راحة نفس عبدك (أمَتِكَ) ... السّابق رقاده(ا) ومن أجل غفران جميع خطاياه(ا) الطّوعيّة والكُرهيّة، وليُرَتِّب الرّبّ الإله نفسه(ا) حيث الصدّيقون يستريحون، ول(ت)ينال الرّحمة الإلهيّة والملكوت السّماوي من المسيح ملِّكنا وإلهنا الّذي لا يموت نسأل. إلى الربِّ نطلب
الشعب: يا ربّ ارحم
الكاهن: يا إله الأرواح والأجساد كلِّها، يا من وطئتَ الموت ونقضتَ قوّة الشّيطان، ومنحتَ الحياةَ لعالمك. أنت يا ربّ، أرحْ نفس عبدك (أمَتِكَ) ... السّابق رقاده(ا) في مكانٍ نيِّرٍ،آمين في مكان خضرةٍ، آمين في مكان انتعاش، آمين حيث لا وجعٌ ولا حزنٌ ولاتنهدٌ. وبما أنكََّ إلهٌ صالحٌ ومحبٌ للبشر، اغفر له(1) كلَّ خطيئةٍ اقترف(ت)ها بالقول أو بالفعل أو الفكر. لأنّه ليس إنسانٌ يحيا ولا يخطأ، بل أنت وحدك منزّهٌ عن الخطيئة وعدلُك عدلٌ إلى الأبد وكلامك حقٌّ. لأنكَّ أنت القيامةُ والحياة، والرّاحةُ والنِّياح لنفس عبدك (أمَتِكَ) ... السّابق رقاده(ا) أيُّها المسيح إلهنا، وإليك نرسل المجد مع أبيك الّذي لا بدء له، وروحك الكلّيّ قدسهُ، الصّالح والمحيي، الآن وكلّ أوانٍ وإلى دهر الدّاهرين.
الشعب: آمين
الكاهن: المجد لك أيُّها المسيحُ الإله، يا رجاءَنا، المجد لك. أيُّها المسيح إلهنا الحقيقي، يا من له السُّلطة على الأموات والأحياء بما أنَّه إلهٌ وقد قام من بين الأموات، بشفاعات أمِّك الكلّيّة الطّهارةِ، والقدّيسين المُشرَّفين الرُّسل الكلِّيّ مديحهم، وأبائنا الأبرار المتوشِّحين بالله، والقدِّيسين المجيدين الأجداد إبراهيم وإسحق ويعقوب، والقدِّيس المجيد لعازر صديق المسيح الرّباعيِّ الأيّام، وجميع قدّيسيك، رتّب نفس عبدك (أمَتِكَ) ... المنتقل(ة) عنّا في مظالّ الصدّيقين، آمين وأرحه(ا) في أحضان إبراهيم، آمين وأحصه(ا) مع الأبرار والقدّيسين، آمين، وارحمنا نحن أيضاً، بما أنّك إلهٌ رحيمٌ ومُحبٌّ للبشر.
فليكن ذكره(ا) مؤبّداً،
فليكن ذكره(ا) مؤبّداً،
فليكن ذكره(ا) مؤبّداً
بصلوات آبائنا القدّيسين أيّها الرّبّ يسوع المسيح إلهنا ، ارحمنا وخلّصنا، آمين.
الصّلاةُ من أجلِ الرّاقدين تقليدٌ قديمٌ في كنيسَتِنا، وهي تُقام باستمرار.
كما يوضح الإنجيل في إصحاح تجلّي الرّبّ الإلهيّ المرهوب، حيث ظهر موسى وإيليا، وأيضًا في مثل الغنيّ ولعازر، يحتفظ الرّاقدون بوعيهم الكامل.
تستمرّ الحياة بعد الموت. من خلال محبّتنا المشتركة في المسيح، يحافظ أعضاء الكنيسة الرّاقدون على شركةٍ روحيّةٍ معنا نحن الأحياء الباقين على الأرض. وهذه المحبّة تربط كلَّ المؤمنين في جسدٍ واحدٍ كامل. وهذا ممكن لأنّه توجد كنيسةٌ واحدةٌ ورأسها هو المسيح.
نشكّل جميعًا جسدَ الكنيسة، وكلٌّ منّا بمفرده هو عضوٌ في هذا الجسد.
الأمر الوحيد الّذي يغيّره الموت في علاقتنا مع الرّاقدين هو الطّريقة الّتي نتواصل بها معهم. “فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ.” (رومية 7:14-8)
تنقسم الكنيسة إلى الكنيسة الظّافرة والكنيسة المجاهدة. ينتمي إلى الكنيسة الظّافرة كلّ أولئك الّذين أنهوا هذه الحياة ظافِرين بجهادهم، ومنتظرين إكليل الأبرار الّذي سينالونه "في ذلك اليوم". بينما ينتمي إلى الكنيسة المجاهدة كلّ الأعضاء الّذين لا يزالون يجاهدون ضدّ الخطيئة من أجل بلوغ الكمال. أعضاء الكنيستَين الظّافرة والمجاهدة هم في علاقةٍ متواصلةٍ وأبديّة. لا يتّخذ أولئك الّذين في الملكوت موقف اللامُبالاة من الأحياء. لا يدمّر الموت الجسديّ، الّذي هو انفصال النّفس عن الجسد، علاقةَ المؤمن بالكنيسة. كما أنّ الموت لا يفصلنا عن الأعضاء الآخرين في المسيح. فالمحبّةُ كالنّفس هي أبديّة.
يزوّدنا كلٌّ من الكتاب المقدّس والتّاريخ والتّقليد الكنسيّ على الأخصّ بِكَمٍّ هائلٍ من الشّواهد الّتي تُظهِر، من خلال المحبّة والصلّاة لأجل بعضنا البعض، وجودَ شركةٍ ومؤازرةٍ روحيّةٍ متبادلةٍ بين أعضاء الكنيسة السّماويّة والكنيسة الأرضيّة. هذه العلاقة موجودة ٌلأنّنا نشكّل جميعًا "شركةً واحدةً من القدّيسين."
يتبادل الرّاقدون والأحياء معًا شركةً روحيّةً تتخطّى حدود الطّبيعة، وحياةً مفعمةً بالصّلاة والمحبّة الأخويّة. تخوّلهم هذه العلاقة أن يساندوا بعضهم بعضًا، وقد دبّر اللهُ، من خلال محبَّته، الأمورَ على هذا النّحو، رغبةً منه بأن نَخلُص جميعنا من خلال مؤازرتنا بعضنا بعضًا.
ترتكز خدمة الذّكرانيّات على هذه العلاقة، فالكنيسة تقيم هذه الخدمة والصّلوات من أجل الرّاقدين منذ بدايتها. ولو لم تكن خدمة الذّكرانيّات ذات قيمةٍ لَما كانت الكنيسة تقيمها ولَما كانت تصلّي من أجل الرّاقدين.
يَرِدُ أوّل ذكرٍ لخدمة الذّكرانيّات في سفر نحميا، حيث يصلّي بنو إسرائيل لله كي يغفر خطايا أجدادهم الرّاقدين. “وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلرَّابِعِ وَٱلْعِشْرِينَ مِنْ هَذَا ٱلشَّهْرِ ٱجْتَمَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِٱلصَّوْمِ، وَعَلَيْهِمْ مُسُوحٌ وَتُرَابٌ. وَٱنْفَصَلَ نَسْلُ إِسْرَائِيلَ مِنْ جَمِيعِ بَنِي ٱلْغُرَبَاءِ، وَوَقَفُوا وَٱعْتَرَفُوا بِخَطَايَاهُمْ وَذُنُوبِ آبَائِهِمْ. وَأَقَامُوا فِي مَكَانِهِمْ وَقَرَأُوا فِي سِفْرِ شَرِيعَةِ ٱلرَّبِّ إِلَهِهِمْ رُبْعَ ٱلنَّهَارِ، وَفِي ٱلرُّبْعِ ٱلْآخَرِ كَانُوا يَحْمَدُونَ وَيَسْجُدُونَ لِلرَّبِّ إِلَهِهِمْ.” (نحميا 1:9-4).
يُشير سفر المكابيّين الثّاني (36:12-45) إلى الحدث التّالي: ظهر يهوذا المكابيّ ظافرًا في معركته مع جرجياس، لكنّ العديد من رجاله قُتِلوا. في اليوم التّالي بعد المعركة، أتى رجال يهوذا بسرعةٍ ليأخذوا رفات الّذين قُتِلوا ليدفنوهم في المكان حيث دُفِنَ أقرباؤهم، في قبور أجدادهم. لكنّهم وجدوا أصنامًا صغيرةً لآلهة يَمْنِيا مُخبّأةً في ثياب القتلى، وهذه الأصنام مُحَظَّرةٌ في الشّريعة اليهوديّة. فكان واضحًا أنَّ هؤلاء الرّجال قُتِلوا بسبب الأصنام. فشدّد يهوذا الشُّجاع على شعبه ألّا يخطئوا فيما بعد. علاوةً على ذلك، قام بجمع تبرّعاتٍ من كلّ شخصٍ وأرسل مبلغ ألفَي دراخما من الفضّة إلى أورشليم كي تُستَخدَم في ذبيحةٍ للتَّكفير عن خطايا إسرائيل. لقد قام بهذا لأنّه كان يؤمن بقيامة الأموات؛ فلو لم يكن مؤمنًا بأنّ حتى هؤلاء الرّجال الخطأة الّذين ماتوا سيقومون، لكانت الصلّاة من أجلهم باطلةً وعديمة الجدوى. لذلك أقاموا ذبيحةً للتَّكفير عن الموتى، كي تُغفَر الخطايا الّتى اقترفها الرّاقدون.
في الرّسالة الثّانية إلى تيموثاوس، يُشير بولس الرّسول إلى أُنِيسِيفُورُسَ الرّاقد لكي: “يَجِدَ رَحْمَةً مِنَ ٱلرَّبِّ فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ.” (2 تيموثاوس 18:1)
نرى إذاً إصحاحاتٍ في الكتاب المقدّس تُشير بوضوحٍ للصلاة من أجل الرّاقدين. لهذا السّبب، خدمة الذّكرانيّات موجودةٌ في حياة الكنيسة منذ القرون الأولى.
علاوةً على ذلك، السّبب يعود لأنّنا جميعًا، أحياء وأموات، نشكّل "جسد المسيح، وأعضاءه أفرادًا” (1 كورنثوس 27:12) كما يكتب بولس الرّسول.
هذه هي شواهد الكتاب المقدّس.
يُزَوِّدُنا التَّقليدُ الكنسيّ المُقَدَّس بِكَمٍّ هائلٍ من التّعاليم.
يُعَلِّمُ القانون الرّسوليّ، الّذي هو من أَقدمِ الكتبِ الكنسيّة، أنَّه يَجِبُ إقامة خِدمة الذّكرانيّات للراقدين في اليوم الثّالث والتّاسع والأربعين بعد رقادهم وسنويًا بعدئذٍ.
يُشير ترتليانوس (200 م) ، أحد أوائل المؤلّفين الكنسيّين، باستمرار إلى القداديس الإلهيّة الّتي تُقام من أجل الرّاقدين، ولا سيّما في مؤلَّفِه:”في الإكليل.
يخبرنا القدّيس الشّهيد كبريانوس (250 م) في إحدى رسائله أنّ المسيحيين يعتبرون إقامة الذّبيحة والصّلاة من أجل الرّاقدين واجبٌ أساسيّ.
كتب المؤرِّخ أفسافيوس، الّذي يصف جنازة القدِّيس قسطنطين الكبير العظيمة في كنيسة الرُّسل القدّيسين، أنّ نفسه المباركة "قد انضمّت إلى قطيع شعب الله وكان مُستحقًّا... بالقدّاس الإلهيّ".
أقام القدّيس أمبروسيوس، أسقف ميديولانا (330-337)م، القدّاس الإلهيّ يوميًا لفالنتيان، وثيودوسيوس وساتير.
بعد وصفه جنازة والدته، أفاد القدّيس أوغسطينوس (354-430)م، أنّه بينما كان جسدها لا يزال في القبر، "قُدِّمت الذّبيحة من أجل خلاصنا كالعادة". سيّما أنّ والدته تعتبر، كما نوّه هو لاحقًا، أنّ لا شيء أكثر أهمّيّةً من ذكرِ اسمِها خلال القدّاس الإلهيّ. كما أنّه كتب أيضًا كتابًا كاملاً حول موضوع الرّاقدين، De Curra Pro Mortuis.
يذكر القدّيس كيرلس الأورشليميّ في تعاليمهِ الكنسيّة، أنَّه بعد مُباركة القرابين المقدّسة "نقيم تذكار الرّاقدين، البطاركة أوّلاً ثمّ الرّسل والأنبياء والشّهداء، حتّى يتقبَّل الله صلواتنا من خلال صلواتهم وشفاعاتهم".
كتب القدِّيس يوحنّا الدّمشقيّ مقالاً كاملاً بعنوان "من أجل المؤمنين الرّاقدين".
في السّياق عينه، يكتبُ القدِّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ: "لم يكن من باب الصّدفة أنّ الرّسل شدَّدوا على ذكر الرّاقدين في الوقت الّذي نقيم فيه الأسرار المرهوبة. لأنّهم كانوا يَعلَمُون أنَّ لذلك قيمةً وفائدةً كبيرتين ".
أثناء اقتياده للاستشهاد عام 1520، أوصى القدّيس الشّهيد الجديد يعقوب تلاميذه بإقامة خِدمة الذّكرانيّات لِرَاحةِ نَفسِهِ، وفقًا لِمُمَارساتِ الكنيسة.
دَعُونا أيضًا أن لا ننسى قدّيسَ عصرِنا، القدِّيس نكتاريوس، الّذي كتب مقالةً كاملةً "حول خدمة الذّكرانيّات المقدّسة" الّتي يُظهِر فيها فوائد خدمة الذّكرانيّات، معدِّدًا مقاطع عديدة من آباء الكنيسة، وأحداثاً مفصّلةٍ من سير قدّيسيّ كنيستنا.
تحوي الليتورجيا المقدّسة صلواتٍ من أجل الرّاقدين.
تُتلى الصّلاة التّاليّة من أجلِ الرّاقدين في قدّاس القدّيس مرقس: "أَرِحْ يا سيّدنا وربّنا وإلهنا نفوسَهم (الّتي يصلّي الكاهن من أجلها ويقيم القدّاس الإلهيّ) وجميعَ النُّفوس،، حيثُ قدّيسيكَ يَستريحون ...
أَرِحْ يا ربّنا وملكنا، هذه النُّفوس واجعلها مُستحقّةً لمَلَكُوتِكَ السَّماويّ".
يتضمّن قدَّاس القدِّيس يعقوب أخ الرّبّ الصَّلاة التّاليّة، الّتي تأتي بعد ذكر الرّسل القدّيسين والأنبياء وغيرهم: "اذكر، يا ربّ وإله الأرواح والأجساد، الحسنيّ العبادة الأرثوذكسيّين الّذين نقيم تذكارهم الآن وكذلك أولئك الّذين لا نذكرهم، وامنحهم الرّاحة هناك... لتكن تقدمتنا مقبولةً لديك ومباركةً من الرّوح القدس، لمغفرة خطايانا وجهالات الشّعب وراحة نفوس الرّاقدين.
يحتوي قدَّاس القدِّيس إكليمنضس، تلميذ الرّسول بطرس، التّالي: "أيضًا، نصلّي لك يا ربّ من أجل كنيستك المقدّسة الّتي تمتدّ من أقاصي الأرض... ونيابةً عن جميع الّذين في كنف سلطانه". (هنا يحثُّ الشمّاسُ الشّعبَ على الصلّاة مع الكاهن "من أجل المؤمنين الّذين انتقلوا إلى راحتهم الأبديّة").
كما يردُ أيضًا ذكر الرّاقدين في قدّاس كلٍّ من القدّيسين باسيليوس الكبير ويوحنّا الذّهبيّ الفمّ: "... اذكر جميع الّذين رقدوا على القيامة والحياة الأبديّة وامنحهم الرّاحة حيث يضيء نور وجهك عليهم..." وهنا يذكر الكاهن أسماء الرّاقدين الّذين يودّ إحياء ذكراهم.
تشكّل صلاةُ الرّاقدين جزءًا من تقليد الكنيسة الرّسوليّ. وهذا يظهر جَلِيًّا خاصّةً في ذيبتيخا الكنيسة.
ما هي الذيبتيخا؟ لقد كانت عبارةً عن لوحَين خشبيَّين ملتصقَين ببعض مثل لوحَي موسى الحجريَّين اللّتين كُتِبت عليهما الوصايا العشرة. كانت أسماء الأرثوذكس تُكتَب على هذه الألواح الخشبيّة. اعتاد الشمّاس، وفقًا لقوانين المجمع المسكونيّ الخامس، أن يذكر الأسماء المكتوبة على الذيبتيخا بعد مباركة القرابين المقدَّسة وبعد تلاوة ترتيلة "بواجب الإستئهال" أو بعد ترتيلة "إنّ البرايا بأسرها تفرح بك يا ممتلئة نعمة". وهذا التّقليد لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا في جبل آثوس.
كان هناك ثلاث أنواعٍ من الذيبتيخا: ذيبتيخا القدّيسين، ذيبتيخا الأحياء وذيبتيخا الرّاقدين. وُجِدَتْ ذيبتيخا القدّيسين منذ زمن القدّيس ذيونيسيوس الأريوباغي. كما أنّ ذيبتيخا الرّاقدين قديمةٌ جدًّا وتُنسَب إلى ليتورجيا القدّيس مرقس الإنجيليّ. تحتوي ذيبتيخا الأحياء على أسماء رؤساء الكهنة، الأباطرة، الأعيان والمسؤولين، خاصّة أولئك الّذين ساعدوا في خدمة تلك الكنيسة والشّعب عامّةً. كانت الذيبتيخا تُحفَظ بعنايةٍ فائقةٍ داخل هيكل الكنيسة. ويعود ذلك إلى أنّ الذيبتيخا تُثبِّت ضرورة تكريم قدّيسي الكنيسة كقدّيسين، وأن يُبارَك ويُذكَر المسيحيّون كأرثوذكسيّين، وأن يُدان الهراطقة كمرتدّين، وأن يُذكَر المؤمنون الرّاقدون المعروفة أسماؤهم لدى الرّبّ.
يدافع التّقليد الرّسوليّ بشدّةٍ عن الصّلوات والتّضرّعات الّتي تُقَدَّم من أجل الرّاقدين وبالتّالي عن خدمة الذّكرانيّات. صلواتنا الموجَّهة إلى الرّاقدين عند تقدمة القرابين المقدّسة خلال القدّاس الإلهي قائمة على التّقليد عينه، ومن خلالها نصلّي من أجل الرّاقدين ونضع أجزاء من خبز التّقدمة المقدّس الّتي تمثّل نفوس الرّاقدين إلى جانب أجزاء الأحياء.
بعد ذلك [بعد المناولة] توضع أجزاء الأحياء والرّاقدين في الكأس المقدّسة ليبارَكوا من جسد ودم ربّنا يسوع المسيح الكلّيّ القداسة، كما يقول الكاهن : “اغسل يا ربّ، بدمِكَ الكريمِ خطايا عبيدِكَ المذكورينَ ههُنا. بشفاعاتِ والدةِ الإلهِ وجميعِ القدّيسين، آمين.”
كَتَبَ ميتروفانيس كريتوبولوس، بطريرك الإسكندريَّة، ما يلي، وهو مرتبطٌ مباشرةً بموضوعنا: "لقد ارتأت كَنِيسَةُ المَسِيح أوّلًا تَقْدِيمَ الصَّلوات والتّضرّعات من أَجْلِ الرّاقِدِين لِكيما يتحرّروا كلّيًّا من معاناتهم عبر الصّلاة المُقَدَّمة إلى الله أو ليتمكّنوا على الأقل من أن يحظوا ببعض الرّاحة أو التّعزية في المكان الّذي سُجنت فيه أرواحهم.”
ويَقُولُ: "نُصَلِّي ذاكِرين أَسْماء الرّاقدين. نَقُومُ بِذلك في اليَّومِ الأوَّل والثّالث والتّاسع والأربعين بعد وفاة الشّخص ثمّ بعد ثلاثة أشهرٍ وبعد ستّة أشهر، وأخيرًا بعد مُرورِ سنة. عَلاوَةً على ذَلِكَ، لا يُوجَدُ سَبَبٌ لِعَدَمِ إقامة هَذِهِ الصَّلَوات بِقَدرِ ما يَرغَبُ بِهِ أقرباء الرَّاقد. ومع ذلك، تُقيمُ الكنيسةُ الصّلوات كلّ يَوم سَبت على مَدارِ السَّنةِ لِجَميعِ الرَّاقدين الأبرار؛ وهذا يَحدُثُ في جميع الكنائس، كما يَتِمُّ ذِكر الأسماء في كلّ مرّةٍ يُقامُ فيها القدَّاس الإلهيّ".
تنصّ هذه الشّهادة على ما يلي: "ليس هناك فرصةٌ للندم أو للقيام بأعمالٍ صالحةٍ بعد الموت. ومن هنا يَتّضِح أنَّه لا تَسْتَطِيع النَّفسُ بعد الموت أن تُحَرِرَ ذاتها أو تَتُوبَ وتَقُومُ بِأَعْمالٍ صالِحَةٍ تُعْتِقُها مِن قُيودِ الجَحِيمِ. الأشياء الوحيدة الّتي يمكن أن تساعد هذه النُّفوس هي القداديس الإلهيّة، والصّلوات وأعمال الإحسان الّتي يقوم بها الأحياء من أجل الرّاقدين؛ علاوةً على ذلك، يمكنها أيضًا أن تكون مفيدةً للغاية، وتستطيع أن تحرّر هذه النّفوس من قيود الجحيم ".
في شرحه المقطع في لوقا 5:12 الّذي يقول "خَافُوا مِنَ ٱلَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ، لَهُ سُلْطَانٌ أَنْ يُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ "، يكتب ما يلي: "لا يقول الإنجيل‘"الّذي له سُلطانٌ أن يُلْقِي الكلّ في الجحيم.‘ بعبارةٍ أخرى، لا يقول أنّ الله بعد الموت، سيلقي بنفوسنا في الجحيم ولكنَّه لديه القدرة على فعل ذلك. ومن المؤكَّدأنّ الخطأة الرّاقدين لا يُلقَون في الجحيم، على الرّغم من أنّ حدوث ذلك يكمن في قدرة الله، لأنّ المغفرة تكمن أيضًا في قدرته.علاوةً على ذلك، أذكر هذا فيما يتعلّق بالتّقدمات وأعمال الإحسان الّتي تُقام من أجل الرّاقدين، لأنّ هذه الأعمال ذات منفعةٍ عظيمةٍ لهم، حتّى بالنّسبة لأولئك الّذين رقدوا بخطايا جسيمة. لا يُلقي الله هذه النّفوس في الجحيم بعد الموت؛ بالرّغم من قدرته على فعل ذلك. من أجل ذلك، دعونا لا نتوقّف عن التّضرُّع إليه، هو الّذي لديه القدرة بأن يُلقي بنفوسنا في الجحيم ولكنّه لا يستخدم هذه القدرة، لأنّه قادرٌ أيضًا أن يغفر الخطايا."
تناول مجمع أورشليم المَحَلّيّ عام 1672 موضوع خدمة الذّكرانيّات، وهذا يدلّ على مدى أهمّيّة الموضوع. وبما أنّ هذا المجمع المحلّيّ بدا مضطرًّا أن يتّخذ موقفًا بشأن هذا الموضوع يدلُّ على أنّه لم يكن مجرد قضيّةٍ ثانويّةٍ من ضمن العديد من الأسئلة الأخرى المتعلّقة بالإيمان.
يقول البطريرك دوسيثاوس في الفقرة الثّامنة عشرة من شهادته: "نؤمن أنّ نفوس الرّاقدين تكون إمّا في حالة راحةٍ أو معاناة، وذلك يعتمد على الأعمال الّتي قام بها كلّ واحدٍ منهم..."
"يمكن تحرير الرّاقدين من خلال أعمالٍ فائقة الصّلاح ، من خلال صلوات الكهنة، ومن خلال أعمال الإحسان الّتي يقوم بها أقاربهم من أجلهم. علاوةً على ذلك، فإنّ ذبيحة الإفخارستيا المقدّسة غير الدّمويّة لها قوّةٌ عظيمة، سواء قام بها الأقارب من أجل راقدٍ معيّن أو كانت إحدى القداديس اليوميّة الّتي تقوم بها الكنيسة الجامعة والرسولية من أجل جميع الرّاقدين." بالطّبع، غنيٌّ عن القول أنّنا لا نعلم متى ينالون الخلاص. "نحن نعلم ونؤمن أنّ مثل هذه النّفوس يمكن أن تتحرّر من معاناتها قبل القيامة العامّة والدّينونة الأخيرة، ولكنّنا لا نعرف متى يحدث هذا."
تُظِهر سِيَرُ حياةِ القدِّيسين فَوائِد خِدمَة الذّكرانيّات.
وَرَدَ ذِكر الحَدَث التّالي في سِيرَةِ القدِّيس مكاريوس المصريّ: ذات يَومٍ، بَيْنَما كانَ القدِّيس يَسيرُ في الصّحراء، صادف جُمجُمَةً بَشَرِيَّة. فنَقَرَ عَلَيْهَا بِعَصَاتِهِ وَسَأَلَها، "مَن أَنْتِ؟" رَدَّت الجُمْجُمَةُ أنّها لِرَئيسِ كَهَنَةِ الأوثان وعَبَدَةِ الأوثان الّذينَ اعتادوا العَيش في هَذِهِ المنطقة. فقالَتْ: "أَنْتَ مَكَارِيُوس المُعْتَرِف".
"اعْلَمْ أنَّهُ عِنْدَمَا تَتحنّن على أُولَئِكَ الّذين في الجحيم وتُصَلّي مِن أَجْلِهِم، فإنّ قيودهم تَتَرَاخَى قَلِيلاً ويَجِدُونَ بَعضَ الرّاحة."
يَرِدُ في سيرة القدّيسة تقلا أنَّهُ بَعْدَ أن اِعْتَقَلَهَا الحَاكِمُ ألكسندروس، وَضَعَها في عِهدِةِ سَيِّدَةٍ نَبيلِةٍ ثَرِيَّةٍ تُدعَى تريفينا، الّتي كانَ عَلَيْهَا أن تَحرِسَهَا حتَّى يَحِين وَقت إِلقَائهَا للوحوشِ المفترسة.
وكانت ابنة تريفينا قد رقدت منذ بضعة أيّامٍ فتراءت لوالدتها في الحلم وقالت: "أمّي، أحِبّي هذه الغريبة تقلا وأبقيها كابنة لكِ مكاني لأنّها خادمةٌ لله ويُمكِنُها أن تُصَلّي مِن أَجْلِي كي يُحصِيَني الرّبُّ بين الأبرار.” عندما اسْتيقَظَتْ تريفينا توجّهت على الفور إلى القدِّيسة وقَالَتْ: "يا ابنتي ، أَتَوَسَلُ إليكِ. أَقِيمِي مَعي هذا المَعْرُوف وَصَلِّي لِمَسِيحِكِ، كي يَمنَحَ نَفسَ ابنتي الرَّاحة في الحياة الأبديَّة، لأنَّها طَلَبَتْ مِنِّي هَذَا في الحُلم. عِندَها رَفَعَت القدِّيسةُ تقلا يَدَيها إلى السَّماء وَصَلَّت: "يا سَيّدي، يَسُوع المَسيح، ابن الإله الحيّ الحقيقيّ، اسْتَمِع لي، أنا عبدتكَ، وأَرِحْ فالكونيلّا في الحياة الأبديّة، بحسب مشيئتك المقدّسة".
(انظر السنكسار في 24 أيلول.)
كانَ لِأحَدِ الآباءِ القدِّيسين تِلميذًا مُهمِلاً في وَاجِباتِهِ الرّوحيّة وَرَقَدَ وَهوَ في حالَةٍ أسوأ من إهمالٍ . رَآهُ شَيْخُهُ، في رؤيةٍ، غارِقًا في الوَحْلِ حتّى خَصرِهِ. بَعدَ الكثيرِ مِنَ الدُّموعِ والصّلوات، عَادَ الشّيخُ فَرَآهُ في رؤيةٍ لَكن هَذِهِ المرَّة مُحَرَرًا بِالكامِلِ مِنَ الوَحلِ.
يُقال عَن القدِّيس غريغوريوس الوَسيط، أنَّهُ أَنقَذَ الإمبراطور تراجان بِصلاتِهِ، لَكِنَّهُ سَمِعَ صَوتَ الله قائِلاً لَهُ: "لَقَدْ سَمِعْتُ صلاتَك وسامَحْتُ تراجان. أمّا أنتَ، فَمِنَ الآنَ وصاعِدًا، لا تُصَلِّ مِن أَجْلِ عَديمي التّقوى."
مِن خِلالِ صَلواتِ الكهنة، حَرَّرَت الإمبراطورة ثيودورا زَوجها الإمبراطور ثيوفيلوس من عُبُودِيَةِ الجَحيم.
نَجِدُ العديد من الأحداثِ المُماثلة في سِيَرِ النُّساك والآباء القدِّيسين، الّذين ساعَدُوا الكثيرين بصلواتهم وتضرّعاتهم. كما هُناكَ العديد من الأشياءِ الإضافِيّةِ الّتي يُمكنُ قَولها وكتابتها مِن قِبَلِ الأباءِ الأجلّاء المُعاصِرين الّذين يُسَاعِدُونَ نُفُوس المسيحيّين الرّاقدين بإقامتهم للقدّاس الإلهيّ.
تَنُصُّ قوانينُ الرّسل أنّه يَجب أن تُقام خِدمةُ الذّكرانيّات في اليوم الثّالث والتّاسع والأربعين بعدَ وفاةِ شَخصٍ ما، ثمّ بعدَ مرورِ سنةٍ كاملة.
يُخبِرُنا القدّيس إيسيذوروس الّذي من بلسيون في مصر أنّه يَجب أن تُقام خِدمة الذّكرانيّات في اليومِ الثّالثِ إحياءً لذِكرَى قيامة الرّبّ، الّتي حصلتْ في اليومِ الثّالث: وفي اليوم التّاسع إكرامًا لـ القوّات الملائكيّة، وفي اليوم الأربعين تِبعًا لتقليدٍ قديم، فعندما ماتَ موسى حَزِنَ عَليهِ اليهودُ لمدّة أربعين يومًا.
وقد تَكَلّمَ القدّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ عن الذّكرانيّات السّنويّة في عِظَتِهِ أثناء جنّاز أخيه قيصريوس: "لقد قَدَّمْنَا هَذِهِ القرابين الآن وسَنُقَدِّمُ الباقي بالتّكريم وإقامة الذّكرانيّات كلّ عام".
يَرى القدّيس سمعان التسالونيكيّ سَبَبًا رَمزيًّا مختلفًا لإقامة خِدمة الذّكرانيّات في اليّوم الثّالث والتّاسع. "تُقام خدمة الذّكرانيّات من أجل الرّاقدين في اليوم الثّالث لأنّ البشر يَستَمِدّونَ وجودَهُم من الثّالوث القدّوس ولأنّهم يُريدون أن يَتَحوّلوا ويَستعيدوا البهاءَ القديم الّذي كانَ لَديهم قبلَ السُّقوط ولربّما حتّى يُصبحوا أكثر بهاءً.
تُقام خدمة الذّكرانيّات في اليوم التّاسع من أجلِ نُفوسِ الرّاقدين عَسَى أن يُصبحوا أعضاء في ملكوتِ السّموات وأن يَكونَ لديهم طبيعة الملائكة نفسها...تَعود خِدمة الذّكرانيّات في اليوم الأربعين لِصُعودِ الرّبّ، الّذي حَدَثَ بعدَ نفس عدد الأيّام من قيامته: فتُقام من أجلِ الإنسان الرّاقد حتّى يَصعَدَ هو أيضًا بعدَ قيامتِهِ...ليُقابل الدَّيّان (الله)"
تُقام خِدمة الذّكرانيّات سنويًّا للاعتراف بالثّالوث القدّوس مرّةً أخرى ولِتَمجيد إلهَ الكلّ. يَتِمُّ ذَلِكَ من أجلِ الرّاقدين، بما أنَّنَا جميعًا نَسْتَمِدُّ بُنيَتَنَا الجسديّة من الثّالوث القدّوس وكلَّ رغبةٍ في أن نَتَّجِهَ نَحوَهُ عندما تَتَحرّر النّفوس من أجسادِنا ... تُشكّل الذّكرى السّنويّة أيضًا إقرارنا الخاصّ بأنّ نفوسنا أزليّة وتَرْغَبُ بأن تُستَعاد عندما يَشاءُ الخالق إقامة أجسادنا..."
تُؤكّد شهادةُ ميتروفانيس كريتوبولوس ما ذُكِرَ أَعْلاه: "نُصلّي من أجلِ الرّاقدين عبرَ ذِكر أسمائهم في اليوم الأوّل والثّالث والتّاسع والأربعين بعد وفاتِهم ثمّ بعدَ ثلاثةِ أشهر، ستّة أشهر، وأخيرًا بعدَ مرورِ عام. علاوةً على ذلك، لا يُوجَدُ سَبَبٌ يَمنعُ أقارب الرّاقدين من إقامة هذِهِ الخِدم بِقَدرِ ما يَرغبون. ومع ذلك، تصلّي الكنيسةُ كلّ يوم سبتٍ على مدار السّنة، وفي كلّ الكنائس لجميعِ الأتقياء الرّاقدين، كما تُذكر أيضًا نُفوسُهم في كلّ مرةٍ يُقامُ فيها القدّاس الإلهيّ."
بالإضافةِ إلى ما وَرَدَ سابقًا، تَحتَفِلُ الكنيسةُ بِسَبتَينِ على مَدَارِ السَّنة حيثُ تُقامُ خدمة الذّكرانيّات لِجميعِ المسيحيّين منذُ بدءِ العالم وحتّى نهاية الأزمنة. تُسمّى هذه الأيّام “سَبت الأموات”.
حَدَّدَ آباءُ الكنيسة أنّ أوّل سَبت من هَذِهِ السُّبوت يَجب أن يَقَع قَبلَ ثمانيةِ أيّام من بدءِ الصّوم الكبير، أي في يومِ السّبتِ الّذي يَسبِقُ أحد الدّينونة (أحد مرفع اللّحم). تُقيمُ الكنيسةُ في هذا اليوم، خِدمة الذّكرانيّات من أجلِ جَميع أبنائِها الرّاقدين في أماكن بعيدةٍ أو في البحر أو في مناطق مُقفِرة، والّذين لم تُقَم من أجلِهم هذه الخدِم بانتظام وبالتالي حُرِموا من المنافع المتأتّيّة منها. محبةًّ منهم لِلبَشَرِيّة، حَدَدَّ الآباءُ القدّيسون هَذِهِ الخِدم مِن أجلِ جَميعِ الرّاقدين، حتّى يَتمّ ذِكر كلّ أولئك الّذين لم تُقَم مِن أَجلِهم خِدمة الذّكرانيّات الخاصّة بِهم.
لماذا اختار الآباءُ هذا السّبت بالتَحديد؟ لأنّ مقطع إنجيل اليوم التّالي يَصِفُ مجيء المسيح الثّاني؛ لذلك من المناسب أن نَتَذَكّرَ هَذِهِ النّفوس من أجلِ أن نَطلُبَ من دَيّانِنا المَرْهُوب أن يكون مُتَعطِّفًا كالمُعتاد وأن يَعتَبِرهُم مُستَحقّين للفرحِ الّذي وَعَدَهُم بِهِ.
تَحْتَفِلُ الكنيسة بسبتِ الأموات الثّاني بعدَ تِسعةِ أيّامٍ من صُعودِ ربّنا يسوع المسيح، أي يوم السّبت الّذي يَسبِقُ عيد العنصرة.
تَذكُر الكنيسةُ في هَذِهِ الخِدَم جَميعِ الأتقياءِ الرّاقدين من زَمَنِ آدم حتّى الآن.
تُصلّي الكنيسةُ مِن أجلِهِم وتَطلُبُ من المسيح الّذي صَعِدَ إلى السّماء وجَلَسَ عن يَمينِ الآبّ أن يَجْعَلَهُم مُستَحِقِّين لِجوابٍ حسنٍ في يوم الدّينونة، عندما يَقِفون أمامه، هوَ الّذي سَيدين كلّ الأرض. كما تَطلب الكنيسةُ من المسيح أن يَسمَحَ لَهم بالوقوفِ بفرحٍ عن يَمِينِه، بين الأبرار مع جوق قدّيسيه البهيّ . فهي تُصلّي كي يكونوا مُسْتَحِقِّين أن يَرِثُوا ملكوتَهُ. لا تُصليّ الكنيسةُ فقط للمسيحيّين، إذ لم يكن هناك مسيحيّون من زمن آدم حتّى زمن المسيح، بل إنّها تُصلّي من أجل الجميع.
هنا حَيثُ يَستطيعُ للمرء أن يَرَى مَحبّة الكنيسة للجنسِ البشريّ بأكمله.
المُستلزمات المطلوبة لِخِدمةِ الذّكرانيّات هي: قربان الذّبيحة (البروسفورون) والخمر والبَخور والزَّيت والشُّمُوع - جميع المُستَلزَمات الّتي يُقَدِّمُها المؤمِن دائمًا لإقامة القدّاس الإلهيّ.
كلُّ هَذِهِ الأشياء مَطلُوبةٌ لأنّ مَفْهوم خِدمة الذّكرانيّات يَرْتَبِطُ ارتباطًا وَثيقًا بالقدّاس الإلهيّ. لا تَخصُّ هَذِهِ الخِدَمُ النّاسَ فَقَط بل تَخُصُّ المسيح في المَقَامِ الأوّل. فمِنَ المسيح نَطْلُبُ المُساعدة الّتي لا يُمِكنُ الحصول عليها إلاّ مِن خِلال القدّاس الإلهيّ. يَجب أن تُقدَّم الصّلوات الأخرى بِشَكلٍ طَبيعيّ، لَكِنَّها لَيْسَت خِدمة الذّكرانيّات، لأنَّها إمّا تَحتَوي على تريصاجيون بَسيط أو صلاة "قدّوسٌ الله، قدّوسٌ القَويّ، قدّوسٌ الّذي لا يَموت إارحَمْنا" المُقَدَّمَة لِراحة نَفسِ أحبّائنا الرّاقدين.
لأَجلِ هذا السّبب نُقدِّمُ قربان الذّبيحة والخمر في الكنيسة، إلى جانِبِ قائمةٍٍ بأسماء الرّاقدين الّتي تُقَدَّمُ من أجلِهم هَذِهِ القرابين.
يُشَدِّدُ القدّيس سمعان التسالونيكيّ على أهمّيّةِ خِدَمِة الذّكرانيّات، مُشَدِّدًا على الفائدة العظيمة الّتي تَتَلَقّاها نُفوس الرّاقدين من الاحتفال بالقدّاس الإلهيّ .
مُشيرًا إلى اليوم الثّالث بعدَ وفاةِ شَخصٍ ما، يكتب القدّيس سمعان التسالونيكي: "في اليوم الثّالث، يقع ما يُسَمَّى بال"تريتا" أيّ الثّالث، حَيثُ تُقَدَّمُ بُقول القمح ومُختلف ثِمارِ الأرض لله. على ماذا تَدُلُّ هَذِهِ التّقدِمات؟ تَدلُّ على أنّ البشر هُم أيضًا بُذور، مثل ثِمار الأرض. فعندما تُبذَرُ في الأرض، تَنهض بِقُوّةِ الله فوق الأرض مثل الحُبوب، وَبَعدَ أن تَتَمَكّنَ من النّمُوّ، وحين تصبح ناضِجةً وحَيّةً، فهي تَرغَبُ بأن تُقدَّم لِلمَسيح. فَكَمَا أنَّ البذرة الّتي تُزرَعُ في الأرض وَتَنبُتُ وتؤتي بِثِمارِها الوَافِرَة فيما بعد، كَذلِكَ الإنسان المُتَوَفّي الّذي يَتِمُّ دَفنُهُ الآنَ في الأرض يُريدُ أن يَقوم مُجددًا. هذا ما يَقولُه القدّيس بولس الرّسول أيضًا، مُستَخدِمًا البُذُور كَمِثالٍ لِشَرحِ القيامة."
هنا يُشيرُ القدّيس سِمعان التسالونيكيّ تحديدًا إلى الكُولِيفا (القمح المسلوق) الّذي يُقَدَّم في خِدمة الذّكرانيّات وإلى المُكوّنات المُستَخدَمة في تَحضيرها، بالإضافةِ إلى مَعناها الرّمزيّ.
نَجِدُ هَذا التّقليد المُتَمَثِّل في تَقدِيمِ الكُولِيفا في خِدمةِ الذّكرانيّات مُنذُ القِدَم، مُنذُ القرنِ الرّابع.
قبل عادة تَقديم الكُولِيفا، كانَ يَتِمُّ تَقديم القُربان والخمر في خِدمةِ الذّكرانيّات، إلى جانِبِ الزّيتون أو الجبن أو الأرزّ، وعندما يتناول النّاس ما يُقدَّم ، كانوا يُصلّونَ قائِلين "فَليَكون ذِكرُهُ مُبَارَكًا (makaria)". لِهَذا السَّبب، أَصبَحَت مثل هَذِهِ الأطعِمَة تُعرَفُ أيضًا باسم"ماكاريا". إنّ القربان والقهوة اللّذين يُقَدِّمُهما أقارِبُ الرّاقدين اليوم على الضّيوف هي مُمَارَساتٌ لِتِلكَ العاداتِ السّابِقَة.
يُقَدِّمُ بعضُ النّاسِ التَّبرُّعات من أجلِ ذِكرَى الشّخص المُتَوَفّي كَبَديلٍ أو عِوَضًا عن خِدْمَةِ الذّكرانيّات. ولكن تَختَلِفُ خِدْمَةُ الذّكرانيّات تمامًا عنِ الأعمالِ الخيريّةِ. لا الأعمال الخيريّة ولا أيّ شيءٍ أخر يَستَطِيعُ أن يَحُلَّ مكان القدّاس الإلهيّ، "حيثُ يُقَدَّمُ حَمَلُ اللهِ رافع خطيئةِ العالم". لأجلِ ذلك نُقَدِّمُ القربانَ والخمرَ في الكنيسةِ اللّذَين يَتَحَولانِ إلى جَسَدِ ودَمِ المسيح. تُقطَعُ من الذّبيحةِ أجزاءُ الّذين تُوفُّوا، وتُوضَعُ على صحن القُربانِ المُقَدّس إلى جانِبِ أجزاءِ قدّيسي وأبرارِ الكنيسة. هنا تُوجَدُ الكنيسة بأكملها، الكنيسة المُجاهِدَة والكنيسة الظّافِرة معًا. يَقولُ القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ:" إنّه لَشَرَفٌ كبيرٌ أنّ تُذْكَرُ أسماءُ أقربائنا في ذلك المكان حيثُ يُوجَدُ المسيح والكنيسة بأَكْملِها. إاعلَموا أنّه في تِلْكَ اللّحظة يُعْلَنُ السّرُّ المَرْهُوب:أي أنّ الله قَدَّمَ ذاتَه من أجلِ خلاصِ العالم..."
المساعدةُ الّتي تُقَدَّمُ من خِلَالُ إقامَة تَذْكار اسم أحد الأشخاص في القدّاس الإلهيّ هي إذًا أَهَمّ وأَعَظم مساعدة يُمكن أن تُقَدَّم في هَذِهِ الحياة لِأولَئِكَ المُنتَقلِين عنّا.
يُمكِنُ لِصَلوات شخصٍ واحدٍ بارٍّ أن تُحَقّقَ أكثرَ ما يُمِكن أن تُحَقّقُهُ كلّ الأعمال الخيريّة الّتي تُقَدَّم إلى الفُقَراء. فكم بالأحرى، يمكن للقدّاس الإلهيّ أن يحقّق!
وِفْقًا لِخِبْرَةِ الإكليروس، يشهد آباءُ الكنيسةِ والكنيسة نفسُها أنّ خِدمة الذّكرانيّات مُفيدَةٌ للغايّة.
دَعُونا أوّلاً نَستعرض ما يَقُوله الآباء العظماء فيما يَتَعَلّقُ بالفوائدِ النّاجِمَةِ عن إقامَة خِدمة الذّكرانيّات.
يَقُولُ القدّيس يوحنّا الدّمَشْقِيّ إنّ الله يُرِيدُنا جَميعًا أنَ نكونَ مُحسِنِيِن تجاه بَعْضِنا البعض، سواء كنّا أحياء أو أموات.
عندما يَتَحَدّثُ الآباءُ عن خِدمة الذّكرانيّات والفوائِدِ الّتي تُقَدِّمها، فهم يتحدّثون عن كلامِ الرّبّ وعن مِشِيئتِهِ الّتي تُعَبِّرُ عن مَحَبَّتِهِ للبَشَريّة. لا يُمكنُنَا مَعْرِفَة محبّة الله أو قياس حُدُودِها، فنحن نَعْتَمِد عليها وعلى الفائدة الّتي تُوفّرُها خِدمة الذّكرانيّات.
يُولي القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ أهمّيّةً عُظمى لإقامة الذّبيحة (القدّاس الإلهيّ) الّتي تُقام من أجل الرّاقد. "القرابين الّتي تُقَدَّمُ والأعمال الخيريّة الّتي تُتَمَّمُ من أجل الرّاقدين ليست بدون مكافآت، إنّها مُرَتّبَةٌ من قِبَلِ الرّوح القدس، الّذي يَشاء أن نُساعدَ بعضنا بعضًا. أُولَئِكَ الّذين ماتوا يُساعِدُونَكَ، وأنْتَ تُساعِدَهُم... لايُمكِنُنَا أن نَشُكَّ في أنّ الرّاقدين لا يَنْتَفِعُون بشَكْلٍ ما…
يَقُول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ: إنَّهُ لَشَرَفٌ عَظيمٌ لِلْنّفْس أن يتمّ ذِكْرُكَ خِلال القدّاس الإلهيّ
"فكمَا يَتِمُّ الاحتفال بانتصاراتِ المَلك ، يُمَجَّدُ أولئك الّذين ساعدوا في تحقيق الانتصارات، ويُحَرَّرُ كلّ من هو سجينٌ احتفاءً في هذه المُناسَبَةِ. ولكن عندما يَنْتَهِي الاحتفالُ ، لا يُمكن لأيّ سجينٍ أن يَحصلَ على أيّ عَفْوٍ لأنَّ الوقت المُناسِب للاحتفال بالنّصر هو أثناء الذّبيحة."
"لقد نَصَّ الرُّسل القدّيسون على أنَّ الصّلاة من أجل الموتى يجب أن تُقدَّم خلال الذّبيحة السّريّة في القدّاس الإلهيّ. كانوا يَعْرِفون جيّدًا التّعزية الّتي تَكسبها النّفوس عندما تَرفَعُ جماعة الكنيسة أيديها أثناء الصّلاة مع الكاهن، مُقَدّمَةً ذبيحة القدّاس الإلهيّ السّريّة، أيُمكِنُ أن نحصل نحن أيضًا على الرّحمة الإلهيّة من خلال صلاتِنا؟ لكن هذا يَعُودُ إلى أولئك الّذين ماتوا على الإيمان."
كَتَبَ القدّيسُ سمعان التسالونيكيّ ، وفقًا لِلتقليد الرّسوليّ: "لا شيء يُفيدُ الرَّاقِد، ولا يُمكن لأيّ شيءٍ أن يُسَبِّبَ مثل هذا الفرح والإستنارة في الوحدة مع الله، نَظيرَ الذّبيحة الإلهيّة. فهي دم الرّبِّ نفسه الّذي أهرِقَ من أَجْلِنا نحن الأذِلّاء، والجسد المقدّس عَينُه الّذي قُدِّمَ في هذِهِ الذّبيحة على المذبح المقدّس."
يَقولُ القدّيس غريغوريوس النّيصصي، إنّ ذكر شخصٍ ما في وقت الاحتفال بالقدّاس الإلهيّ هو أمرٌ "مفيدٌ ومرضيٌّ لدى لله."
يقول القدّيس كيرلّس الأورشليميّ ، "عظيمةٌ هي المنفعة"، تأتي تعزيةٌ كبيرةٌ من هذه الصّلاة.
وصَرَّحَ القدّيس أثناسيوس الكبير: "حتّى لو توفّي الإنسان التّقيّ في الهواء فلا تتردّد في تقديم الزّيت والشّموع لأجله، فهذه التّقدمة مقبولةٌ لدى الله والله يَرُدّ الجميل بالمنفعة".
تمامًا عندما يكون لأبٍ طفلٌ مريضٌ لا يستطيع أن يُقدِّمَ الزّيت والشّموع والبخّور في الكنيسة بمفردهِ، فيَقُومُ الأبُ بتقديمها نيابةً عنه، ويقبل الله هذه التّقدمة. والأمر نفسه بالنّسبةِ للراقدين، حيثُ لم يَعُدْ لديهم جسدٌ ماديٌّ لمساعدةِ أنفسهم، فإنّ أصدقاءهم وأقرباءهم يصلّون نيابةً عنهم.
يَجِبُ أن لا نُهمِل خِدمة الذّكرانيّات. بالأحرى يَجِب على الأخصّ أن نَذْكُرَ الأسماءَ في وقتِ الذّبيحة العظيمة والمرهوبة، لأنّها أُعطيَتْ لنا لهذا السَّبَب.
كيفَ تحصل الفائدة؟ إنّهُ لغزٌ حقيقيّ! لا يستطيعُ العقلُ البشريّ فَهْم هذا أو تفسيره. تَمّت دِراسَة هذا الموضوع في اجتماع البَطارِكَة المُنْعَقِد في مجمع أورشليم المَحَلّيّ، عام 1652، كما ذَكَرْنا سابقًا. أَشارَ هذا المجمع إلى أنّ خِدمة الذّكرانيّات لا تُعْتَبَر مسألةً صغيرة، بل تَحْتَلُّ مَكانةً مُهمّةً في كنيستِنا. أتَتْ مُقَرَّرات المجمع على النّحو التّالي: نُؤمِنُ بأنَّ خِدم الذّكرانيّات مُفيدة. أمّا كيفَ ومتَى تأتي المَنفعة منها، فهذا يَعُودُ إلى حُكم إلهنا العادِل. يُشيرُ أندروتسوس1 في مؤلّفِه "العَقائِد"، وعلى وَجه التّحديد: "كما أنّنا غير قادرين على شَرح كيفَ أنّ الله، ضابِط الخليقة بأسرها، يَستَجيبُ لصلاةِ شخصٍ ما ويَتَدَخّلُ بالأمورِ الطّبيعيّة والبشريّة، بنفس الطّريقة، فإنّه من المستحيل علينا أن نفهم بأيّ طريقةٍ تنفع صلواتُنا الموتى."
تكون غير نافعةٍ عندما يرفض الشّخص الرّاقد النّعمة الإلهيّة ويُصبح في حياته شيطانيًّا وغير تائبٍ.
لا يستفيد غير التّائب من الصّلوات. ومع ذلك، يعترف آباء الكنيسة المقدَّسة أنّ هذه النّفس تحظى بنوعٍ من الرّاحة.
لا تقام خدمة الذّكرانيّات للمُنتَحِرين (والّذين لم يُعتَبَروا مرضى نفسيًا)
الأمر نفسه ينطبق على الهراطقة المَفروزين من الكنيسة.
أولئك الّذين عاشوا بطريقةٍ مسيحيّةٍ ولم يتلقّوا المغفرة يستفيدون بشكلٍ كبيرٍ من خدمة الذّكرانيّات. إلى أيِّ مدىً؟ نحن لا نعلم. يشدّد القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم: "لا شكّ في أنّك ستحصل على بعض المنفعة". لا يمكننا تحديد مدى عظمة المنفعة . ما نعرفه يؤكّده آباء الكنيسة المقدّسة، الّذين يقولون، إنّ هناك فائدةً عظيمةً تَنجُم عن هذه الخدم لأولئك المُتَوَفّين الّذين رحلوا وهم غير تائبين.
يقول أحد الكُتّاب الكَنَسِيّين المعاصرين : "إنّني أدرك أنّ هناك أشخاصًا كانوا ’مائتين أخلاقيّاً’ ولم يقدّم لهم العلاج أيّ قوّةٍ مفيدة. أعرف أيضًا بعض الأشخاص سقطوا في خطايا مميتة، لكنّهم كانوا قادرين أن يتسلّحوا روحيًّا في ساعاتهم الأخيرة ، وأن يروا حالتهم الذّليلة، وأن يهمسوا مع أنفاسهم الأخيرة ومن كلّ أعماقهم ’أذكرني يا ربّ متى أتيتَ في ملكوتك’. فمن إذًا يمكن أن يؤكّد أنّ الصّلاة من أجل الموتى هي بلا فائدة؟
عندما تنطلق النّفس من هذه الحياة، سوف تحصل دينونةٌ ما. في الظّروف العاديّة، عندما تكون النّفوس في حالة انتظار المجيء الثّاني، فهي إذًا في حالة قبول."
ويضيف:" بما أنّ دينونة الله الأخيرة لم تأتِ بعد، وبما أنّ ملكوت المسيح يمتدّ من السّماء إلى الأرض وحتّى وصولاً إلى الجحيم، وبما أنّنا لم نسمع بعد "تَعَالَوْا" (انظر متى 34:25) ، فإنّ أفضل موقفٍ تتبنّاه الكنيسة هو الصّلاة والتّضرّع من أجل موتاها."
ما مصيرُ النّاس الّذين غادَرُوا هَذِهِ الحَياة غير تائبين أو بلا تهيئة؟
الجوابُ موجودٌ في كلمة الله الجَلِيّة. كما أنّ آباء الكنيسة يقدّمون الجواب عَينه. فهم يُشَدّدون على أنّ هَذِهِ الحياة هي عبارةٌ عن جهادٍ بينما الحياة الآتية تشكّل الحِساب الأخير.
يُشيرُ القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم بوضوحٍ: "لا نَبْكينَّ على الّذين ماتوا، بل على الّذين هم في حالة الخطيئة. تَستَحِقُ هذِهِ النّفوس الرّثاء، النّحيب والدّموع. فَلَو كانوا على قَيدِ الحياة، لكان لدينا رجاءٌ بأن يتَغَيّروا ويتحسّنوا. لا أحد يَستَطيعُ أن يَتوبَ بعد أن يُغادِرَ هذه الحياة. كما لا يستطيعُ الرّياضيُّ أن يُنافسَ بعدَ انتهاءِ المباراة، بعد خروج المنافسين من الملعب وتفرّق الجمهور... لدينا رجاءٌ طالما نحن هنا. عندما نُغادِر هذه الحياة، لا يَعود بِمَقدورِنا أن نَتوبَ، نخسر فرصة التّوبة إذ لا يمكن لخطايانا أن تُغتَفَر. لأجل هذا السّبب، يَجِبُ علينا أن نُهيّئ أنفسَنا بشكلٍ مستمرٍّ من أجلِ رحيلنا…
لكن، علاوةً على ذلك، في هَذِهِ الحالاتِ الصّعبة، لا يَدَعُنا آباءُ الكنيسة القدّيسون يائسين.
يَذْكُرُ القدّيسُ أثناسيوس الكبير بِخصوص هذا الموضوع بأنّ النّفوس الخاطِئة تَتَلَقّى منفعةً مِن هَذِهِ التّقدمات. فهي تتمّ بعنايةِ وأمرِ إلهِنا الّذي لَدَيه سلطانٌ على الأحياء والأموات. تُتْرَكُ هَذِهِ المسألة للعنايةِ الإلهيّة.
مع أنّ القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم كان قاسيًا في تعالِيمِهِ السّابق ذِكرُها، إلّا أنّه يَظْهَرُ شديد الرّأفة عندما يَتعلّقُ الأمرُ بهذا الموضوع. فَيُشَدِّدُ قائلاً: "فلنُساعدُ هَذِهِ النّفوس بِقَدْرِ ما نَستَطيع، ونُقَدِّمُ لَهُا مساعدةً صغيرةً." كيف وبأيّة طريقة؟ يُجيب : "يَجِبُ علينا نَحنُ أن نُصلّي وأن نَطلبَ من الآخرين الصّلاة من أجلِهم. وأن نُقَدِّمَ أعمال الإحسان مع التّضرعات من أجلِ الّذين رقدوا وهم لا يزالونَ في حالةِ الخطيئة. نُتَمِّمُ كلّ هذا كي يَحْظَى الأموات بالتّعزية. فإذا كان أولاد أيوب قد تَنَقَّوا بِفَضلِ ذبائحِ والدِهم، فلماذا نَشكِّك بأنّ الأموات لا يَسْتَفِيدُون من صلواتِنا وأعمالِنا الخيريّة.
علاوةً على ذلك، القدّيس كيرلّس الأورشليميّ هو أكثر حَزمًا وأكثر تعزيةً من القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم فيما يتعلّقُ بهذه المسألة.
فيسأل التّالي: "كيفَ يُمكِنُ للنّفسِ الّتي انتقلت بخطايا كثيرة أن تستفيد؟ فيُجيبُ مُستَنِدًا إلى المثل التّالي: "لنَتَخَيّلْ مَلِكًا قامَ بِنَفي كلّ المواطنين الّذين ثاروا ضدّه. فتَرَجَّى أَصْدِقاءُ المنفيّين المَلِكَ وتوسّلوا إليه، كما أنّهم أحضَروا لَهُ تاجًا وقَدّموهُ لَهُ كهديةٍ نيابةً عن المنفيّين." فَيَسْأَلُ القدّيس: "هل يُمكن لِلملك ألّا يَستجيب إلى توسّلاتهم وألّا يَمنح المنفيّين العفو من الجحيم؟"
ويُكمل: "بالطّريقةِ نفسها، عندما نُصلّي إلى الله من أجلِ المُنتَقِلين عنّا (بالرّغمِ من أنَّهم خطاة)، فنحن لا نُقَدِّمُ أكاليل، إنّما "نُقَدِّمُ المسيح المصلوب من أجل مغفرة الخطايا، طالبين وحائزين على المغفرة، لنا وللمنتقِلين عنّا، من إلهنا الصّالح."
مَن الّذي يَسْتَطيع أن يَعرِفَ من رَحَلَ عن هذه الحياة وهو في حالةِ توبة، ومن رحل بدون توبة؟ ومن يَستَطيع أن يَتأكّد بأنّه عارِفٌ بالقلوب ويطلق الأحكام المُسبَقة على النّاس إخوته ؟ إلى أيّ درجةٍ نَعرفُ الوقتَ الّذي يَستَغرقه السّقوطُ من الجسرِ إلى النّهر؟ هل هو كافٍ حتّى يتمكّن الإنسان من القول: "اذكرني يا ربّ متى أتيتَ في ملكوتك." أو "يا ربّ ارحم”؟ يُحَرِّمُ تدبير الله إدانة أيّ شخص. لذلك دعونا نعمل كلّ ما في وسعنا كي نساعد أخينا الإنسان قدر الإمكان ونترك الباقي لمحبّة الله وإحساناته اللامحدودة لأجل هذا، لا تحكم كنيستنا مُسبقًا على أيّ شخصٍ، لكنّها تقدّم محبّتها لجميع أعضائها.
يوجد فوائد إضافيةً لخِدمةِ الذّكرانيّات، وهي تتعلّق بالّذين لا يَزالونَ على قيدِ الحياة.
فَالمحبّةُ تَنْمو بينَ الأحياءِ والأمواتِ.
تَرتَبِطُ هَذِهِ المنفعة المُتأتّية من الذّكرانيّات مُباشَرَةً بالفضائِلِ المسيحيّة.
هناك تعزيز للإيمانِ بالحياةِ الآتيّة، الموجودة ما وراء القبر.
يتعزّز الرّجاء برَحمَةِ الله اللامُتَناهِية. تُبَشِّرُ هَذِهِ الخِدَمُ بحضورِ الله المستمرّ في العالم.
تعلّمنا أنّ الإنسان هو مُواطِنُ السَّماء، بحَيثُ يَنْتَقِلُ من "الكَنيسةِ المُجاهدة" الّتي على الأرض نحو "الكَنيسة الظّافرةِ" في السَّماء.
يَسمعُ المسيحُ صلواتِ الجميع، ويَستجيبُ لِتضرّعات القدِّيسين ووَالِدة الإله الفائِقةِ القداسةِ.
لا نفقد الرّجاء في خلاصِ نفوسِ المسيحيّين ، حتّى بعد الموت.
تُمنحُ مَغفِرةُ الخطايا للنفوسِ الّتي تُقام من أَجلِها خِدمة الذّكرانيّات، بما أنّ إلهنا الصّالح يَسْمَعُ صلواتِ الكنيسة.
لم يصدر قرار الله النّهائيّ بعد بِشَأنِ الأجر أو العِقابِ الأخير. يُحفظ قرار الله النّهائيّ هذا حَتّى مجيء المسيح الثّاني الرّهيب. وإلى ذَلِكَ الحين تَستَطيعُ الكنيسة أن تُقَدِّم الصّلوات والتّضرّعات من أجلِ أعَضائِها.
تَنْمُو المحبّةُ تجاه الجنس البشريّ.
تخفّ معاناة الأحياء المَفجوعين جَراء ألم فقدان صديقٍ أم قريبٍ عزيز. الموتُ مَريرٌ جدًا، لِدرجةِِ أنَّه يُخلّفُ حُزنًا لا يُحْتَمَلُ، فهو يَفْصِلُ الأحبّاء فجأةً. لذلك الصّلاة والذّكرانيّات هما الوسيلتان الوحيدتان لِتَواصِلِهم مع أحبّائهم، فلا توجد طريقةٌ أخرى للتواصل مع الشّخص الّذي أحببناه كثيرًا.
نأتي لِذكر الموت والتّأمّل به . فنَتذكّر بُطلانِ هذا العالم بالإضافةِ إلى كلّ الأشياء الّتي يَشملها.
تدعونا الذّكرانيّات للمُضيّ قُدُمًا نَحْوَ الفَضيلَةِ وملكوتِ الأبرار، وتشجّعنا للقيام بالأعمال الصّالحة والإحسان
وبهذه الطّريقة عينها، يُشيرُ القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ إلى التّالي: "يَشاء الله أن نتلقّى كلّنا المساعدة من خلال المساعدة المُقَدَّمَة للآخرين، الأحياء والأموات. بما أنّنا نقدّم لِإلهِنا الصّالِح المسيح المصلوب من أجلِ مَغْفِرة خطايا الرّاقدين ومغفرة خطايانا." ويُشَدِّدُ القدّيس كيرلّس الأورشليميّ على الأمرِ عينه.
لا يُستَحْسن أن نَنْتَظِرَ المُوت، كي يُقيم الآخرونَ خِدْمَة الذّكرانيّات لِرَاحِةِ نُفُوسِنا، بل علينا الاهتمام بنفسونا غير المائتة منذ هذه اللّحظة!. نَحْنُ نَمْلِكُ الآنَ في متناولِنا كلّ وسائل الخلاص الّتي تُقَدّمُها لنا كنيستنا.
لذلِكَ بما أنّ يوم مماتنا غير معلومٍ، دَعونا إذًا نَستَمِرُّ في الاستعداد له في حال "وجدنا أنفسنا اليوم على قيد الحياة، أمّا غدًا فنحن في القبر."
1 خريستوس أندروتسوس (1869-1935) كان أستاذ لاهوت في معهد خالكي وجامعة أثينا. كان أندروتسوس شخصيّة لاهوتيّة بارزة في اليونان في القرن العشرين (المترجمة).