العدد 4- 22 كانون الثاني 2023
(الأحد 15 من لوقا زكّا)- الكلمة الافتتاحيّة
الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان
لقد واجهت الكنيسة في تاريخها الطويل مسألة الإيمان المُعاش "بالروح والحقّ"، والإيمان المكتفي بحدود العقل. العقل عطيّة من الله، ليساعدنا في معرفة كل ما يختص بهذا العالم المخلوق، بهذه الخليقة، التي كل ما فيها يشهد على حكمة الله ووجود الله وعنايته وعظمته. فالعقل، بهذه المعرفة المجرّدة، يمكنه أن يعرف أشياء عن وجود الله، أمّا معرفة الله الحيّة والمباشرة فهي أمر آخر كليًّا، أمرٌ يُسلّم فيه العقل ذاته للإيمان. بالإيمان فقط يستطيع الإنسان أن يمتدّ إلى ما يفوق قدرات حواسّه المحدودة، أي يقدر بالإيمان أن يمتدّ، بطريقة غير محدودة، نحو لامحدوديّة الله وسموّه الفائق على كل إدراك مخلوق.
إن معاينة الله والاتّحاد به هي غاية كل حياتنا على الأرض. لكن العقل بطبيعته المخلوقة هو محدود، فلا يستطيع أن يعاين الله غير المحدود. في المسيحيّة، منذ التجسّد وإلى اليوم، الله هو الّذي يكشف ذاته للإنسان، بطريقة حيّة مباشرة لا بنواميس ووصايا وقناعات عقليّة. لهذا، فإن خبرة الإيمان الحقيقيّة تتحقّق في القلب الداخليّ لا بالعقل. فالقلب الذي يؤمن يعيش بشكل حيّ حضور الله في داخله، في لقاء حيّ، ولا يحتاج بعدها إلى أيّة براهين لإثبات حقيقة وجوده.
إن خبرة الإيمان ومعاينة الله، كما عرّف عنها المسيح، تتحقّق ببلوغ نقاوة القلب. ونموّ الإنسان في نقاوة القلب يحتاج إلى حياة تقوى حقيقيّة. فالتقوى هي السلّم الذي عليه يرتقي الإيمان نحو خبرة معرفة الله، في ذلك القلب الّذي تنقّى بفعل الجهاد الروحيّ والصوم والصلاة وكثرة التواضع. يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس، "كل وصيّة إلهيّة وكل شرعة مقدّسة تنتهي حسب الآباء بنقاوة القلب". هذه النقاوة يقتنيها القلب "بحفظ الوصايا والإنقطاع للصلاة النقيّة واللاماديّة". هذه هي الوسائل لإقتناء النعمة ولكمال الإيمان.
إنّ غرق الإنسان المعاصر أكثر فأكثر في العقلانيّة، أي الاكتفاء بما يقبله العقل ورفض كل خبرة تتجاوز قدرته على استيعابها، جعله عاجزًا عن بلوغ أيّة معرفة حيّة لله؛ لا لأن العقل سيء، إنما لأنه أظلم بكثرة معرفة الشرّ المتنامي في العالم، ومن هجمات أفكار الشرير. لم يعد العقل قادرًا أن يفهم عقائد الإيمان، حول الله والخلق من العدم، الفداء والموت والحياة، وهدف التجارب وآلام هذا الدهر؛ لهذا يحتاج بدون توقّف إلى الإيمان والتسليم الكامل لمشيئة الله. من اكتفى فقط بالبحث العقليّ ليعرف الله، يسمّيه القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ إنسان "أرضيّ"، يصل بسهولة إلى الإلحاد وإنكار الإيمان.
ولأن الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله فهو يستطيع أن يعاين الله. أي لأنه على صورة الله، يملك في داخله القدرة، وهو مخلوق، أن يعاين الإله غير المخلوق. لكن بعد السقوط وتشوّه الصورة فقد الإنسان هذه الإمكانيّة، لهذا تجسّد "الكلمة" الإلهيّة حتى تتنقى ثانية صورة الله في الإنسان. إن الصورة النقيّة تعني استعادة إمكانية تحقيق مثال الله ونقاوة القلب.
لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى نقاوة القلب خارج عن الكنيسة. الكنيسة هي التي تقودنا إلى نقاوة القلب هذه، لأن هذه النقاوة هي في النهاية عمل الروح القدس فينا. فالإنسان هو كائن مسبّح لله؛ لهذا تُشدّد الأرثوذكسيّة على الليتورجيا الإلهيّة. وكل ما وضعته الكنيسة لإتمام هذه الأسرار وكل الخدم الأخرى، هو ليساعدنا على تحقيق هذه النقاوة. كلها هدفها أن ترفع ذهن الإنسان ونفسه إلى السماويّات. الليتورجيا الإلهيّة هي المصنع الّذي يُحوّل كل معرفتنا العقليّة المجرّدة إلى خبرة حياة إلهيّة. إنه لمستحيل بلوغ نقاوة القلب من دون نقاوة الإيمان، لهذا حاربت الكنيسة بشدّة الهرطقات، لأنّها جميعها أتت نتيجة الاستناد على منطق العقل فقط، وعلى ازدراء حياة النسك واللاهوى ونقاوة القلب. لذا فالإيمان المستقيم هو الذي يأتينا بالنعمة التي من دونها لا أحد يُعاين الله.
إن الذهن النقيّ أو القلب النقيّ هو الذي يسود على الأفكار ولا تسود عليه الأفكار وتستعبده للأهواء والخطيئة. لذلك فالقلب الذي تنقّى يستطيع أن يتجاوز ليس فقط طبيعته المخلوقة، إنما يعبر أيضًا فوق هذا الزمن المخلوق، ليقرأ، بذهن مستنير، العلامات والأزمنة المزمعة أن تأتي على هذا العالم .
في النهاية، يرى الله قلب الإنسان الذي تنقى وهو يكشف نفسه له في الوقت المناسب. وهنا جهاد المسيحيّ الحقيقيّ ليس كي يعاين الله في هذه الحياة، إنما ليتوب، معتبرًا نفسه غير مستحق حتّى لهذه الحياة الحاضرة. إنّه يحسب خطاياه لا انجازاته. والله الذي يرى كثرة تواضع النفس يكشف نفسه لها، إذا كان هذا الكشف يزيد النفس توبة ولا يوقعها في تعظيم ذاتها.
ختامًا يمكننا أن نقول أن المسيحيّة هي طريقة حياة بحسب الحقيقة، وليست نظامًا فلسفيًّا أو معرفة عقليّة مجرّدة. هكذا نفهم لماذا كتابُ أعمال الرسل يسمّي المسيحيّةَ بـ "الطريق".