كنيسة المسيح الواحدة

الأستاذ جان كلود لارشيه

تعريب: شادي مخّول

انطلاقًا من إيمان الكنيسة الأرثوذكسيّة بأنّ الكنيسة لا يُمكن إلَّا أن تكون واحدةً وجامعة، ومن قناعتها بأنَّها هي نفسها هذه الكنيسة الواحدة والجامعة (إذ لم تُحدِث أي تغيير في إيمان الكنيسة التي أسّسها المسيح والرّسل ولا في طريقة عيشها، وحافظت عليهما كما تسلَّمَتهُما منهم، لذا فهي الكنيسة الرسوليَّة المقدَّسة)، فهي تعتبر أنَّها كنيسة المسيح الواحدة ولا يُمكنها أن تعترف بخاصيّة الكنيسة للطوائف المسيحيّة الأخرى.

لطالما كان هذا موقف الكنيسة الأرثوذكسية الذي لم يزل مدعومًا بكتابات اللّاهوتيّين الأرثوذكسيّين. يصرّح الأب جورج فلوروفسكي بأنَّ الكنيسة الأرثوذكسيّة «تعرف أنّها حافظة الإيمان والتقليد الرسوليَّين سالِمَين وكامليَن، وأنّها الكنيسة الحقيقيّة لعِلْمِها باستحواذها على كنز النعمة الإلهيَّة عبر استمراريّة الكهنوت والتسلسل الرسولي»[1]. ويقول الأب يوحنا مايندورف «إنَّ الكنيسة الأرثوذكسيَّة تعلَم بأنَّها الكنيسة الوحيدة الحقيقيّة»[2]، كما يقول في مكان آخَر «إنَّ الكنيسة الأرثوذكسيَّة تنتصب إزاء البروتستانت والكاثوليك على أنّها الكنيسة الحقيقيّة التي انفصل عنها مسيحيّو الغرب»[3].

يقول الأب بلاسيد ديزاي Placide Deseille: «بقيت الإكليسيولوجيا الأرثوذكسيَّة في معظم الأحيان، رغمَ الانحرافات الناتجة عن عوامل تاريخيّة وعن خطايا البشر، على ما كانت عليه في الكنيسة الأولى، ومن خلالها تُدرك الكنيسة الأرثوذكسيَّة اليوم بأنّها تُحافظ على استمراريّة تامَّة دون أي انقطاع. لا يُمكن للكنيسة الأرثوذكسيَّة أن تعتبر الطوائف المسيحيّة الأخرى سوى أعضاء منفصلين عن الوحدة الكنسيّة المُصانة بملئها فيها وحدها. تحتوي الكنيسةُ في تقليدها المعيارَ الذي اتّفق عليه كلّ المسيحيّين قبل مرحلة الانشقاقات وهو يُعتبرُ جزءًا من التعليم الرسوليّ، ويرتكز على الإيمان الواحد وحياة الكنيسة»[4].

يدعم بعض الأساقفة الأرثوذكسيّين البارزين هذا الموقف، ومن بينهم أعضاءٌ منخرطين في التيار المسكونيّ. يقول مكسيموس ميتروبوليت ستافروبوليس التابع للبطريركيّة المسكونيّة: «إنّ الأرثوذكسيّة ليست واحدة من بين عدّة كنائس، بل هي بذاتها الكنيسة. لقد حافظت الأرثوذكسيّة على التعليم الذي سلّمه المسيح بكلّ دقّة وأصالة ونقاوة. إلى جانب التسلسل والتناغم التاريخيّ الخالِيَين من العيوب، هناك حقيقةٌ أنطولوجيّة (وجوديّة) وروحيّة. الإيمان نفسه، والروح نفسه، والحياة نفسها. هذا ما يشكّل طابع الأرثوذكسيّة الفريد، ويبرّر إعلانها بأنّها الكنيسة وستبقى كذلك»[5].

صرّح البطريرك المسكونيّ برثلماوس بهذا الكلام أمام رهبان جبل آثوس: «إنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة هي الكنيسة الوحيدة الواحدة والجامعة والرسوليَّة»[6].

ردّ الميتروبوليت كيريل (بطريرك روسيا لاحقًا) على وثيقة Subsistit in الصادرة عن الفاتيكان، التي تؤكّد أنّ كنيسة روما الكاثوليكيّة هي الكنيسة الواحدة، إذ قال: «إنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة هي، بحسب التحديدات الرسوليّة، وريثة الحقّ بملئه الذي للكنيسة الواحدة والأولى. لهذا، نحن نَنسُبُ إلى الكنيسة الأرثوذكسيَّة، بكامل الحقّ، كل ما كُتِبَ في الوثيقة الكاثوليكيَّة»[7].

يظهر هذا الموقف أيضًا في عدد من الشهادات الأرثوذكسيّة التي قُدِّمَت ضمن إطار المؤسّسات المسكونيّة. تنصّ الشهادة الأرثوذكسيَّة المُقدَّمة في اجتماع مجلس الكنائس العالميّ المنعقد في تورونتو سنة 1950: «إنّ العضويّة في المجلس لا تعني أنّ كلّ كنيسة عليها أن تعتبر الآخرين كنائس بالمعنى الحقيقي والكامل للكلمة.»

والشهادة التالية من اجتماع إيفانستون: «نحن ملتزمون بالإعلان عن قناعتنا بأنَّ الكنيسة الأرثوذكسيَّة وحدها حافظت على «الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ» (يهو 1: 3) كاملًا وسليمًا، أمّا الجماعات المنفصلة فتفتقد بعض العناصر الأساسيّة التي تشكّل حقيقة ملء الكنيسة»[8].

أدرجت بعض الكنائس المحليّة هذا الموقف ضمن النصوص الرسميّة عندما دعت الحاجة.

صرَّح المجمع المقدّس للكنيسة الأرثوذكسيَّة في أمريكا (OCA) في بيانه المجمعيّ ما يلي:

«إنَّه من واجبنا، كأساقفة الكنيسة وحَفَظة الإيمان الرسوليّ، بأن نُقرَّ معترفين بأنّ الكنيسة الأرثوذكسيَّة هي كنيسة المسيح الواحدة. نعترف بهذا لأنَّنا على يقين بأنّها، منذ أيام سيّدنا يسوع المسيح وتلاميذه، لم تقبل بأي عقيدة فاسدة ولا بأي طريقة حياة ملتوية، على الرَّغم من الأخطاء التي ارتكبها بعض أعضاء الكنيسة على صعيدٍ فرديّ أو جماعيّ»[9].

أصدر مجلس الأساقفة في كنيسة روسيا المنعقد في موسكو في شهر آب من سنة 2000 «بيان عن المبادئ الأساسيَّة التي تنظّم علاقات الكنيسة الأرثوذكسيَّة الروسيَّة مع غير الأرثوذكسيّين» وفيه يؤكّدون أنّ «الكنيسة الأرثوذكسيَّة هي كنيسة المسيح الحقيقيَّة التي أسَّسها مخلّصنا بنفسه، وأنشأها الرّوحُ القدس ومَلَأها، هي الكنيسة التي قال عنها المخلّص «أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا» (مت 16: 18). هي الكنيسة الواحدة والمقدَّسة والجامعة والرَّسوليَّة، حافظةُ وموزِّعة الأسرار المقدَّسة في العالم بأسره، «عَمُودُ الْحَقِّ وَقَاعِدَتُهُ» (1 تيم 3: 15). هي تحمل كامل مسؤوليَّة نشر حقيقة إنجيل المسيح، كما تحمل قُدرة الشهادة للـ «الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ» (يهو 1: 3)» [10].

وأبعد من ذلك: «الكنيسة الأرثوذكسيَّة هي الكنيسة الحقيقيّة التي حافظَت، دون أي تغيير، على التقليد الشَّريف وملء نعمة الله المخلِّصَة. وحفظَت بنقاوةٍ كامل إرثِ الرُّسل والآباء القدّيسين. هي تعرف التحديدات العقائديَّة والبنية اللّيتورجيَّة وتطبيقها والبشارة الرسوليَّة وتقليد الكنيسة الأولى. الأرثوذكسيَّة ليست رمزًا وطنيًّا وحضاريًّا لكنيسة الشَّرق. الأرثوذكسيَّة هي خاصيَّة للكنيسة، هي صونُ العقائد الحقَّة والبُنيَة اللّيتورجيَّة والهرميَّة وأُسُس الحياة الروحيَّة دون انقطاعٍ أو تغييرٍ في الكنيسة منذ العهد الرَّسوليّ»[11].

لا تعترف الكنيسة الأرثوذكسيَّة بادّعاء كنيسة روما الكاثوليكيّة بأنَّها الكنيسة الوحيدة الواحدة والجامعة. ذلك لأنَّها تمتلك إيمانًا راسخًا بأنَّ وحدة الإيمان الأرثوذكسيّ وطريقة العيش المرتبطة به هو أساس وحدة الكنيسة وجامعيّتها. كما تعتبرُ أنَّ الانحرافات التي صنعتها الكنيسة الكاثوليكيَّة، لا سيَّما ابتداءً من القرن التاسع، المتعلّقة بعدّة تعاليم عقائديّة وإكليسيولوجيَّة، قد فصلت الكنيسة الكاثوليكيَّة عن الكنيسة. أدّى هذا إلى حرمانها من ملء النعمة ومن سُبُل مَنحِها.

بالإضافة إلى ذلك، لا تعترف الكنيسة الأرثوذكسيَّة بالمفهوم الذي نجده بين الهيئات الناتجة عن الإصلاح، من بينها: 1) الانشقاقات بين المسيحيّين التي حصلت على مرّ التاريخ هي انشقاقات حقيقيّة للكنيسة المنظورة؛ 2) لذلك، لا يُمكن لأي كنيسة أن تتماهى بكنيسة الله؛ 3) وحدة الكنيسة المذكورة في دستور الإيمان موجودة بحالٍ غير منظور؛ 4) وهدف الحركة المسكونيّة هو إظهارها تدريجيًّا بشكلٍ منظور؛ 5) هذه الوحدة الظاهرة تتضمَّن حدًّا أدنى من الإيمان المشترَك، وشركة أسراريَّة، واعترافًا بالكهنوت، مع المحافظة على الاختلافات العقائديّة والمؤسّسيَّة التي تحفظ هويّة كل كنيسة [12]. يكتب الأب بلاسيد ديزاي بهذا الشأن: «إنَّه لجليٌّ أنَّ مفهومًا كهذا يمكن أن يتَّضح فقط، في نظر الأرثوذكسيّين، كهرطقةٍ شاملة، ولا يمكن أن يكون هناك أي إمكانيَّة، بالنسبة لهم، بتقديم أيَّة تنازلات»[13].

كما أن الكنيسة الأرثوذكسيَّة لا تَقبَل بنظريَّة الأغصان (Branches theory) ذات المصدر الأنكليكانيّ، التي تقول إنَّ المفاهيم المسيحيَّة المختلفة هي أغصانٌ متساوية لشجرةٍ واحدة، ولها وحدة عميقة في الجذع ذاته، كونها جامعية ورسولية على قاعدة المساواة، وتتشارك، على نحوٍ كامل، الإرث المشترك الذي للكنيسة غير المنقسمة[14].

لا ترى الكنيسةُ الأرثوذكسيَّة الكنيسةَ غير المنقسمة على أنَّها كنيسة الألفيَّة الأولى، بل تعتبر نفسها، اليوم كما في الماضي، أنها هي الكنيسة غير المنقسمة. إنَّ الانشقاق الذي حصل سنة 1054 لم يقسم الكنيسة، بل قسَّم المسيحيّين. يكتب الأب يوحنا مايندورف ما يلي: «الوحدة المسيحيَّة هي وحدةٌ مع المسيح في الرُّوح القدس، ليست وحدةً بشريَّة تضيع في التاريخ: هذه الوحدة هي في الكنيسة الواحدة التي لن تنقسم بسبب المشاجرات البشريَّة. لا يستطيعون أن يقسّموا الله وحقيقته ليُعيدوا اتحادهم لاحقًا، بل يمكنهم تركهم ثمَّ العودة إليهم. تستدعي الكنيسة الأرثوذكسيَّة المسيحيّين الآخرين لعودةٍ كهذه؛ أي عودة إلى إيمان الرُّسل والآباء الذي حفظته بكماله»[15].

خِتامًا، يمكننا أن نستشهد بمقطعٍ من وثيقة صادرة حديثًا عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بعنوان «المبادئ الأساسية التي تُدير علاقات الكنيسة الأرثوذكسية الروسية مع غير الأرثوذكسيّين»:

«تؤكّد الكنيسة الأرثوذكسيَّة أنَّ الوحدة الحقيقيَّة لا تحصل إلَّا في حضن الكنيسة الواحدة والمقدَّسة والجامعة والرَّسوليَّة (أي الكنيسة الأرثوذكسيَّة). كلّ الأشكال الأخرى للوحدة غير مقبولة»[16].

 

المصدر:

Larchet, Jean-Claude. L’Église corps du Christ II “Les relations entre les Églises”. Les Éditions de Cerf. Paris, 2012. P. 145-150. 

 

 

 

[1] “Une vue sur l’Assemblée d’Amsterdam”, Irénikon, 22, 1949, p. 10.

[2] L’Église orthodoxe hier et aujourd’hui, Paris, 1960, p. 179.

[3] Ibid., Paris, 1960, p. 180.

[4] Point de vue orthodoxies sur l’unité des chrétiens, Font-de-Laval, 1984.

[5] Episkepsis, 227, 15 mars 1980.

[6] Déclaration dans l’église du Protaton (Karyès, Mont-Athos) le 21 août 2008.

[7] Déclaration à l’Agence de presse Interfax le 10 juillet 2007.

[8] L’Église orthodoxe hier et aujourd’hui, Paris, 1960, p. 179.

[9] Encyclical Letter of the Holy Synod of Bishops of the Orthodox Church in America on Christian Unity and Ecumenism, 1973, I, C, «The Orthodox Church is the True Church».

[10] Principe fondamentaux régissant les relations de l’Église orthodoxe russe avec l’étérodoxie, 1. 1.

[11] Ibid., 1. 18-19.

[12]  Voir le document «Principes fondamentaux régissant les relations de l’Église orthodoxe russe avec l’hétérodoxie», 2.4.

[13] Points de vue orthodoxes sur l’unité des chrétiens, Font-de-Laval (sans date).

[14] Voir le document «Principes fondamentaux régissant les relations de l’Église orthodoxe russe avec l’hétérodoxie», 2.5.

[15] L’Église orthodoxe hier et aujourd’hui, Paris, 1960, p. 178.

[16] Voir le document «Principes fondamentaux régissant les relations de l’Église orthodoxe russe avec l’hétérodoxie», 2.3.