تجسّد ابن الله - الجزء الثاني

الأب مايكل بومازانسكي

نقله إلى العربية: ماهر سلوم

 

كيفيّة اتّحاد الطبيعتَين في شخص الرب يسوع

في ثلاثة مجامع مسكونية – المجمع الثالث (في أفسس، ضد نسطوريوس) والرابع (في خلقيدونية، ضد إفتيخيوس) والسادس (المجمع الثالث في القسطنطينية، ضد أتباع المشيئة الواحدة) – أعلنت الكنيسة عقيدة وحدة أقنوم الرب يسوع المسيح في طبيعتَين، إلهيّة وإنسانيّة؛ ومشيئتَين، المشيئة الإلهيّة والمشيئة الإنسانيّة، هذه الأخيرة خاضعة تمامًا للأولى.

وافق المجمع المسكوني الثالث، الذي انعقد في أفسس، على الإيمان كما قدّمه القديس كيرلّس الإسكندري بما يتعلّق «بأن الألوهيّة والإنسانية تشكّلان أقنومًا واحدًا للرب يسوع بواسطة الاتّحاد غير المُدرَك وغير المَوصوف لِهاتَين الطبيعتين».

أمّا المجمع المسكوني الرّابع، الذي انعقد في خلقيدونية سنة 451 ووضع حدًّا لهرطقة واحِدي الطبيعة (monophysites)، فقد صاغ بدقّةٍ كيفيّة اتّحاد الطبيعتَين في شخص الرب يسوع المسيح الواحد، مُعتَرِفًا بأن جوهر هذا الاتّحاد هو سِرّيّ ويتعذّر وَصفُه. وأتى تحديد مجمع خلقيدونية كما يلي:

«إذ نتبع الآباء القدّيسين، نعلّم برأي واحدٍ أن الابنَ (ابن الله)، ربَّنا يسوع المسيح، يجب الاعتراف به أنه هو نفسه واحد، أي تام في اللاهوت وتام في الناسوت، إله حق وإنسان حق، ذو نفس عاقلة وجسد، مساوٍ للآب في اللاهوت ومساوٍ لنا في الناسوت، وهو مثلنا في كل شيء ما خَلا الخطيئة، مولود من أبيه قبل كل الدهور بحسب اللاهوت، ولكنّه في الأيام الأخيرة - لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا - وُلِدَ من العذراء مريم والدة الإله بحسب الناسوت. فهذا الأقنوم الواحد نفسه يسوع المسيح الابن الوحيد (الله) يجب الاعتراف به أنه بطبيعتين، بِلا اختلاط ولا تَحَوُّل ولا انقسام ولا انفصال... غير مُنقَسِم أو مُنفَصِل إلى شخصَين أو أقنومَين ولكنّه هو واحد نفسه الابن الوحيد الله الكلمة ربنا يسوع المسيح كما أعلن الأنبياء قديماً في ما يختصّ به وكما علّمَنا يسوع المسيح نفسه وكما سلَّمَنا دستور إيمان الآباء».1

تظهر كيفيّة هذا الاتّحاد، في تحديد مجمع خلقيدونية، بالكلمات "بِلا اختلاط ولا تَحَوُّل". لا تختلط الطبيعتان الإلهيّة والإنسانيّة في المسيح، ولا تتحوّل الواحدة إلى الأخرى.

"بِلا اختلاط ولا تَحَوُّل". الطبيعتان متّحدتان دومًا، ولا تؤلّفان، كما علّم نسطوريوس، شخصَين مُتَّحِدَين خُلُقِيًّا فحسب. إنهما غير مُنفصلَتين منذ لحظة الحَبَل بالمسيح (أي أن الإنسان لم يولد أوّلاً ثم اتّحد الله فيه؛ بل الله الكلمة نزل في حَشا مريم العذراء وكوَّنَ لذاته جِسمًا بشريًّا حيًّا). هاتان الطبيعتان كانتا غير مُنفصلَتين أيضًا في وقت آلام المخلّص على الصليب، وفي لحظة الصليب، وفي القيامة وبعد الصعود، وإلى دهر الدّاهرين. سوف يأتي الرب يسوع المسيح في مجيئه الثاني بجسده المؤلَّه أيضًا.

أخيرًا، أصدر المجمع المسكوني السادس، المنعقِد سنة 681 (مجمع القسطنطينية الثالث)، اعترافًا بمشيئتَين في المسيح وفِعلَين: «هاتان المشيئتان طبيعيّتان لا تُعارِض إحداهُما الأخرى… فمشيئته البشريّة تخضع، بدون مقاومة أو تَلَكُّؤ، للمشيئة الإلهيّة الكلية القدرة».2

إن الطبيعة الإنسانية – أو "جسد الرب"، بحسب مصطلحات الآباء القديسين – المتّحدة مع الألوهة، قد تغذّت بالقوى الإلهيّة من دون أن تخسر شيئًا من صِفاتها، وأصبحت مشارِكة بالمنزِلة الإلهيّة، لا الطبيعة الإلهيّة. لم يَفْنَ الجسدُ إذ تألّه، «بل بقي كما هو في طبيعته الخاصة»3 بحسب تعبير المجمع المسكوني السادس.4

بمُوازاة هذا، لم تتغيّر المشيئة الإنسانية في المسيح إلى المشيئة الإلهيّة ولم تَفْنَ، لكنّها بقيت كاملة وفاعلة. لقد أخضَعَها الرب بالكامل إلى مشيئته الإلهيّة، التي هي واحدة فيه مع مشيئة الآب: لِأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، لَيْسَ لِأَعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي (يوحنا 38:6).

في "المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي" (Exact Exposition of the Orthodox Faith)، يتحدّث القديس يوحنا الدمشقي هكذا عن وحدة الطبيعتَين في شخص الرب يسوع المسيح:

«كما نعترف بأن التجسّد حصل من دون تحوّل أو تغيير، هكذا ننادي بأن تأليه الجسد حصل بنفس الطريقة. فالكلمة لم يَتَعَدَّ حدود ألوهيّته ولا الميزات الإلهيّة التي تملكها إذ اتّخذ جسدًا، ولمّا صار الجسد إلهيًّا، فهو بالتأكيد لم يغيّر طبيعته ولا خصائصه الطبيعية. فحتى بعد الاتّحاد، بقيت الطبيعتان بلا اختلاط وبقيت خصائصهما سليمة. علاوةً على هذا، بسبب هذا الاتّحاد العديم الاختلاط مع الكلمة، أي الوحدة الأقنوميّة، تغذّى جسد الرب بالأفعال الإلهيّة ولكنه لم يختبر أي انتقاص من صِفاته الطبيعية. فالجسد لا يقوم بالأعمال الإلهيّة بواسطة فعله الخاص، بل بالكلمة المُتَّحِد به، وبواسطته يُظهِر الكلمة أفعاله. هكذا يحترق الحديد، لا لأنه يملك بطبيعته القدرة على الاحتراق، بل لأنه اكتسبها من اتّحاده بالنار»5. لقد حدّد القديس يوحنا الدمشقي وحدة الطبيعتَين في المسيح أنهما في "احتواءٍ متبادل" (perichoresis)6.

في ما يتعلّق بطريقة اتّحاد الطبيعتَين في المسيح، يجب إدراك أن المجامع وآباء الكنيسة كان لديهم هدف واحد: الدّفاع عن الإيمان ضد أخطاء الهراطقة. لم يسعَوا لإظهار جوهر هذا الاتّحاد بالكُلّيّة، أي التّجلّي السِّرّي للطبيعة الإنسانيّة في المسيح، فنحن نعترف أن المسيح، بِجسده البشريّ، يجلس عن يمين الله الآب، وأنه سيأتي بهذا الجسد بمجدٍ ليدين العالم، ولا فناء لِمُلكِه، وأن المؤمنين يتناولون جسده ودمه المُحيي في كل الأوقات وفي سائر العالم.

 

طبيعة يسوع المسيح الإنسانيّة المُنَزَّهة عن الخطيئة

أدان المجمع المسكوني الخامس تعاليم ثيودورس أسقف موبسويستيه7 الخاطئة، القائلة بأن الرب يسوع المسيح لم يكن من دون تجارب داخليّة وصراعٍ مع الأهواء. إن كان الكتاب المقدّس يقول إن ابن الله أتى فِي شِبْهِ جَسَدِ ٱلْخَطِيَّةِ (رومية 3:8)، فهذا يعبّر عن الفكرة بأن هذا الجسد كان جسدًا بشريًّا بالحقيقة، لكنه لم يكن جسدًا قابلاً للخطيئة؛ لقد كان طاهِرًا بالكامل من كل خطيئة وفساد، من الخطيئة الجدّيّة ومن الخطيئة الطَّوعيّة8. في حياته الأرضيّة، كان الرب بريئًا من أي شهوة خطيئة، ومن كل تجربة داخليّة؛ فالطبيعة الإنسانية فيه هي غير منفصلة عن الألوهة بل متّحدة أقنوميًّا.

 

وحدة أقنوم المسيح

مع اتّحاد الإله-الإنسان في المسيح بطبيعتَين، بقي في المسيح شخص واحد، شخصيّة واحدة، أقنوم واحد. من المهمّ معرفة هذا، لأن وحدة اليَقين ووحدة الإدراك هي خاضعة لوحدة الشخصيّة. نقرأ في الاعتراف الإيماني لمجمع خلقيدونية: «غير منقسم أو منفصل إلى شخصَين أو أقنومَين لكنه هو واحد نفسه الابن الوحيد، الله الكلمة المولود الوحيد...» الأقنوم الإلهي هو غير منفصل، وهو أقنوم واحد مع الكلمة. يُعَبَّر عن هذه الحقيقة في الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا: فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللهَ… وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا (يوحنا 14،1:1). بناءً على هذا، يُشار في بعض الفصول من الكتاب المقدّس إلى الخصائص الإنسانية أنها تنتمي إلى المسيح كإله، ويُشار إلى الخصائص الإلهيّة أنها تنتمي إلى المسيح كإنسان. هكذا، على سبيل المثال، يَرِدُ في 1 كورنثوس 8:2: لِأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ ٱلْمَجْدِ. هنا، يُقال عن رب المجد – الله – أنه صُلِبَ (إذ إن "رب المجد" هو الله كما نقرأ في المزمور 10:23: مَنْ هُوَ هَذَا مَلِكُ ٱلْمَجْدِ؟ رَبُّ ٱلْجُنُودِ هُوَ مَلِكُ ٱلْمَجْدِ). يشرح القديس يوحنا الدمشقي حقيقة وحدة أقنوم المسيح كأقنوم إلهي في كتاب Exact Exposition of the Orthodox Faith (3.7-8).

 

عبادة المسيح الواحدة

إنّه لَواجِبٌ علينا أن نقدّم عبادة واحدة غير منفصلة للرب يسوع الإله-الإنسان، بحسب ألوهيّته وبحسب إنسانيّته، بالضبط لأن الطبيعتَين مُتّحدتان بلا انفصالٍ فيه. نقرأ في قرارات آباء المجمع المسكوني الخامس (القانون التاسع ضد الهراطقة): «كل مَن يأخذ هذه العبارة “المسيح يجب أن يُعبَد بطبيعتَيه” بمعنى إدخال عبادتَين، الواحدة خاصة بالله الكلمة والأخرى خاصة بالإنسان… ولا يكرّم بعبادة واحدة الله الكلمة الذي صار إنسانًا مع جسده كما علّمت الكنيسة المقدَّسة منذ البدء، فليكن مُبسَلاً»9.

 

بدعة "قلب يسوع” اللاتينيّة

بما يتعلّق بهذا القرار المجمعيّ، يمكن أن نرى كيف أن بدعة "قلب يسوع المقدّس”، الذي أدخلتها الكنيسة الكاثوليكيّة، تُخالِف روح وممارسة الكنيسة. رغم أن قرار المجمع المسكوني الخامس المَذكور أعلاه يتطرّق فقط إلى العبادة المنفصلة لألوهيّة وإنسانيّة المخلّص، فهو يُخبِرُنا بطريقة غير مباشرة أن إكرام وعبادة المسيح، بشكل عام، يجب أن تُقَدَّم له كشخص بِكُلّيّته، لا لأجزاء من كَيانِه؛ يجب أن تكون واحدة. رغم أننا يجب أن نفهم "القلب” كمحبة المخلّص ذاتها، فلا يوجد في العهدَين القديم والجديد أي عادة للعبادة المنفصلة لمحبّة الله أو حكمته وقوّته الإلهيّة الخالقة أو قداسته. وهذا ينطبق أكثر على أجزاء طبيعته الجسديّة. هناك شيء غير طبيعي في فصل القلب عن طبيعة الرب الجسديّة بقصد الصلاة والنّدم والسّجود له. حتى علاقات الحياة العاديّة، بغضّ النظر عن مدى تعلّق إنسان بآخر – مَثًلاً، تعلّق الأم بأولادها – فهو لا يوجّه تَعَلُّقَه أبدًا لقلب محبوبه، با يوجّهه له كشخص بِكُلّيّته.

 

 

Pomazansky, Protopresbyter Michael. Orthodox Dogmatic Theology. Translated by Hieromonk Seraphim Rose. Saint Herman of Alaska brotherhood, 2009. Print. Pages 183-189.

1. مجموعة الشرع الكنسي، صفحة 396-397

2. مجموعة الشرع الكنسي، صفحة 514

3. المرجع ذاته

4. يقول القديس يوحنا الدمشقي: «هناك مِعنَيان لكلمة “فناء” (phthora). إنها تعني المعاناة البشريّة كالجوع والعطش والتعب والثّقب بالمسامير والموت – أي انفصال النفس عن الجسد – وما شابه. بهذا المعنى، يمكننا القول أن جسد الرب كان فانِيًا لأنه كابد كل هذه الأمور طوعًا. لكن الفناء يعني أيضًا إنحلال الجسد الكامل وتحوّله إلى العناصر التي تكوّن منها. هذا ما يسمّيه كثيرون الفساد (diaphthora). لم يختبر الرب هذا الفساد، كما قال داود النبي: ’لِأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي ٱلْهَاوِيَةِ. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَادًا ’ (مزمور 10:15).»

5. Exact Exposition 3AT, FC, p. 316-17

6. Exact Exposition 3.7; FC, p. 284

7. المعروف بثيودورس المصيصي أو ثيودورس الأنطاكي (المترجم)

8. عندما تجسّد ابن الله، افترض طوعًا أن يكون مُعَرَّضًا للموت الذي هو نتيجة خطيئة آدم، فيما بقي هو بلا خطيئة. كما يؤكّد القديس مكسيموس المعترف (Ad Thalssium 42, The Cosmic Mystery of Jesus Christ, page 119)، أن هذه "الخطيئة” التي انتقلت من آدم (أي الآلام والموت) هي بذاتها بريئة ولا عيب فيها. هكذا، يمكن للقديس بولس أن يقول عن المسيح:«لِأَنَّهُ (أي الله) جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لِأَجْلِنَا» (2 كورنثوس 21:5).

لم يكن المسيح مُعَرَّضًا لفساد الطبيعة البشريّة والمُيول نحو الخطيئة التي ورثها كل الناس الآخرين من آدم. بهذا المعنى، بقي المسيح بريئًا من الخطيئة الجَدِّيّة. فيما كان المسيح مُعَرَّضًا للآلام، كان بريئًا تمامًا من أهواء الخطيئة ومن مرض الخطيئة.

يكتب القديس غريغوريوس بالاماس بخصوص براءة المسيح من الخطيئة: «لقد حَبِلت (البتول القدّيسة) ووَلدَت، وقد حصل هذا وكأن الظّافِر على الشيطان، بما أنه إله وإنسان معًا، قد جذب لذاته أصل الجنس البشريّ، ما عدا خطيئة الجنس البشري (أنظر عبرانيين 15:4). فهو الوحيد غير المجبول بالآثام ولم يُحبَل به بالخطيئة (أنظر مزمور 5:50)، أي بالتمتّع الجسدي والأهواء والأفكار النّجسة المتعلّقة بطبيعتنا المُدَنّسة بالمعصية. والقصد من هذا أن الطبيعة التي اتّخذها يجب أن تكون طاهرة تمامًا وغير مُدَنّّسة، كي لا يحتاج هو نفسه للتطهير، بل يقبل بحكمته كل شيء من أجلنا» (Homilies Vol 1, page 182).

9 مجموعة الشرع الكنسي، صفحة 469.