الإفخارستيَّة المقدَّسة والزواج المختلط

الإفخارستيَّة المقدَّسة والزواج المختلط

إعداد نديم سلّوم

 

يَنُصّ القانون 46 من قوانين الرسل أنَّ "أي أسقف أو قس يقبل معموديَّة أو ذبيحة المبتدعين فليسقط، إذ ‘أي ائتلاف للمسيح مع بليعال وأي حظ للمؤمن مع الكافر؟’ (1كور16: 15)". بمعنى آخر فيما يختص بذبيحة المبتدعين يُمنع أي اشتراك متبادل للقدسات أي لا يتناول المؤمنون الأرثوذكسيُّون من إكليروس وشعب قرابين الغربيين ولا يتناول غير الأرثوذكسيُّين القُدُسات في الكنيسة الأرثوذكسيَّة.

حافظ كتاب الدليل الرعائي الأنطاكيّ الذي أعدَّه ونشره المجمع الأنطاكيّ المقدَّس في قسمه الثاني تحت عنوان "المشاركة في الكأس الواحد تنبع من الإيمان الواحد" في الصفحة 142 على المناخ العام لهذا القانون في عدم مناولة غير الأرثوذكسيين، مع بعض التجاوزات فيَرِد: "إنَّ القرابين الإلهيَّة المقدَّسة في الكنائس الأرثوذكسيَّة إنَّما هي للأرثوذكسيين. لذلك من الطبيعيّ أن يتحوَّل الأرثوذكس إلى كنائسهم من أجل المناولة ومن أجل كلِّ الأسرار الإلهيَّة". ويتابع "إلى أن تتم وحدة الكنائس المنشودة، تُمنع المناولة المقدَّسة عن الرهبان والراهبات والكهنة في غير كنائسهم". إنَّ حصر عدم المناولة فقط برجال الدين يأتي من ناحية المعرفة والجهل. أي أنَّ رجال الدين يعرفون أنَّ ليس هناك من شركة وبالتالي لا يجب أن يتناولوا عند الآخرين، وأمَّا الشعب فـ"جاهل" وبالتالي يَغُضّ الطرف ويُسمَح له بالمناولة عند كِلا الطرفين، ربَّما بحجَّة "التدبير". بالتأكيد لا أعطي هنا تبريرًا لهذا التصرُّف لأنَّ التدبير همُّه فقط خلاص الإنسان وليس كما يجري الآن في كنائسنا. أيُّ استعمالٍ للتّدبير خارج منطلق خلاص الإنسان، أي من دون تمييزٍ، أو من أجل مسايرة روح هذا العالم ومُيوعَتِه - يُعَدّ باطلاً.

إذًا بحسب القانون 46 من قوانين الرسل يُمنع إعطاء جسد المسيح ودمه لمن هو غير أرثوذكسيّ. ولكن على أرض الواقع وخاصة في المجتمعات مختلطة الأديان والطوائف مثل كراسي أنطاكيا وأورشليم والإسكندريَّة، أغلبيَّة الكهنة الأرثوذكسيين يناولون من هو غير أرثوذكسيّ. منهم من لا يكترث وليس لديه مشكلة باعتبار أنَّ كل شخص مُعَمَّد وإن كان ليس في كنيسته هو مسيحيّ وبالتالي يجب أن نضع الفروقات العقائديَّة جانبًا ونناول كل مسيحي؛ وقد يصل الأمر بهؤلاء، وقد حصل فعلاً، أن يسمحوا لكهنة غير أرثوذكسيين بالمشاركة في الذبيحة الإلهيَّة ويتناولوا. ومنهم من يكترث ولكن يخافون من تداعيات الأمر أو بشكلٍ أدَّقٍ يحاولون تجنُّب الأمر منعًا لأي تداعيات سلبيَّة مثلاً نَعتهم بالتطرُّف والجهل والتخلُّف والانغلاق... بالنسبة للفريق الأول فيجب أن يُحاسَب أولاًّ الأسقف الذي رسمهم كما يقول القديس يوحنا الذهبيّ الفم: "لا تقُل لي الكاهن أو هذا الشماس أخطأ. اللوم يعود إلى رئيس الكهنة الذي رسمه" (العظة3: 4 في أعمال الرسل). إذًا لا أعتقد الكلام ينفع مع هذه الفئة التي تعتبر أنَّ التقليد المقدَّس (الحياة الأرثوذكسيَّة) لا أهميَّة له. بالنسبة للفريق الثاني، نجد الكثير يغارون على الإيمان المستقيم ويحاولون الحفاظ على القوانين وروحانيَّتها في عدم مناولة غير الأرثوذكسيين، ولكن يجدون مصاعب كثيرة، منها إذا المرأة أرثوذكسيَّة وتزوَّجت من رجل غير أرثوذكسيّ، أو إذا كانت المرأة غير أرثوذكسيَّة وتزوَّجت من رجل أرثوذكسيّ وأصبحت محسوبة عليه، أو قد يجد الكاهن في كنيسته نساء ملتزمات ونشيطات في رعيَّته ولكن لَسْنَ بأرثوذكسيَّات أي أنَّهم تزوَّجن منذ سنين طوال من رجال أرثوذكس ولكن إلتزمْنَ على نحوٍ غيورٍ برعيَّتهم وقطعوا أي صلة بـ"كنائسهم" السابقة. في الأديرة لا نجد هذه المشكلة بل الأمور شبه مضبوطة. تبقى المشكلة في كنائس الرعايا.

هذه المصاعب مرتبطة بالزواج، أو بالأحرى بالزواج المختلط. كثيرون يطرحون مشكلة عدم مناولة غير الأرثوذكس ولكن يجب أن يتطرَّقوا إلى المشكلة الأساسيَّة. إذا اقتربت عائلة غير أرثوذكسيَّة للمناولة، يمكن للكاهن أن يمنعها ببساطة لأنَّها لا تنتمي للكنيسة الأرثوذكسيَّة عبر سِرَّيّ المعموديَّة والميرون.

بالنسبة للزواج المختلط، أي زواج بين أرثوذكسيّ وغير أرثوذكسيّ، تمنع القوانين الكنسيَّة هكذا نوع من الزيجات. نذكر منها القانون 10 من قوانين مجمع اللاذقيَّة: "يجب على أعضاء الكنيسة ألاَّ يزوِّجوا أولادهم، بدون تمييز، من المبتدعين"، والقانون 31 من المجمع السابق ذكره: "لا يجوز عقد زيجات مع المبتدعين ولا مُصاهَرَتِهم بإعطائهم أبناءنا وبناتنا. ويجوز أن نأخذ منهم إذا وعدوا بأن يصيروا مسيحيين"، والقانون 72 من مجمع تروللو: "لا يجوز لرجل أرثوذكسيّ أن يتزوَّج امرأة مبتدعة، ولا لإمرأة أرثوذكسيَّة أن تتزوَّج رجلاً مبتدعًا. فإذا اتَّفق حدوث شيء من هذا نطلب من المتزوِّجين اعتبار زيجتهم باطلة ويجب فسخها إذ لا يحسن مخالطة من لا تجوز مخالطته، أو أن يعيش الخروف مع الذئب أو أن يكون نصيب شعب المسيح مع الخطأة. وكل من خالف أوامرنا هذه فليقطع..."، والقانون 14 من المجمع المسكونيّ الرابع: "بما أنَّه سمح في بعض الأبرشيَّات للقرَّاء والمرتِّلين أن يتزوجوا فقد أمر المجمع المقدَّس بأنَّه لا يجوز شرعًا لأيّ منهم أن يتَّخذ زوجة غير أرثوذكسيَّة. أمَّا الذين لديهم أولاد من زيجات من هذا النوع وكانوا قد عمَّدوا أولادهم عند المبتدعين فيجب أن يحضروا أولادهم إلى الشركة في الكنيسة الجامعة. أمَّا إذا لم يكونوا قد عمَّدوا أولادهم فلا يجوز لهم بعد ذلك أن يعمِّدوهم عند المبتدعين ولا أن يأذنوا بزواج أحدهم من شخص مبتدع أو يهودي أو وثني ما لم يعد ذلك الشخص بأنَّه يرتدّ إلى الإيمان الأرثوذكسيّ، وكل من خالف قانون المجمع المقدَّس هذا يكون عرضة للقصاص القانونيّ".

ولكن كتاب الدليل الرعائي الأنطاكيّ في قسمه الثاني تحت عنوان "الزيجات المختلطة" نقض القوانين المجمعيَّة بأن شرَّع الزواج المختلط بالاتِّفاق مع الكنائس الكاثوليكيَّة في الشرق، فيقول: "حرِّية الزوجة بأن تبقى في كنيستها إذا شاءت" (ص 190)، "... عِلْمًا أنَّ الزوجة المسيحيَّة غير الأرثوذكسيَّة لا تُلزَم بإبدال مذهبها بعد زواجها" (ص 191). هذا التشريع يشوِّه مفهوم السر في الكنيسة الأرثوذكسيَّة بما أنَّ الأسرار هي حصرًا للأرثوذكسيين. ولكن يشكِّل هذا التشريع هنا معضلة للذين يريدون تطبيق القوانين الكنسيَّة وخاصَّة في الحالات الإستثنائيَّة لمناولة غير الأرثوذكس.

قد يحاول البعض تبرير عدم فعاليَّة القوانين القديمة في عصرنا بما أنَّ الهراطقة القدماء ليسوا كالهراطقة الحاليين. بمعنى آخر لا يمكن مقارنة الآريوسيين والنساطرة بالكاثوليك والبروتستانت... وبالتالي لا يمكن تطبيق هذه القوانين على غير الأرثوذكسيين في أيامنا. ولكن ما يهمُّ هو روحانيَّة القانون. يجب أن نطرح السؤال التالي: ما الذي كانت هذه القوانين تحاول الحفاظ عليه؟ كانت تحاول الحفاظ على فكرة أنَّ الهرطقة أو البدعة خطيرة وستقتل الحياة الروحيَّة إذا سُمح لها بالدخول إلى الكنيسة، أو كما يقول مفسِّر القوانين البطريرك الأنطاكي ثاوذوروس بلسامون "إنَّ المبتدعين يتَّخذون مصاهرتهم المؤمنين سبيلاً لإفساد أفكارهم ودفعهم إلى اعتناق تعاليمهم الفاسدة" (تعليق على القانون 31 من قوانين مجمع اللاذقيَّة).

ما يجب أن يحصل هو تعليم غير الأرثوذكسيّ الذي يريد أن يتزوَّج في الكنيسة الأرثوذكسيَّة؛ تعليمه(ها) العقائد الأرثوذكسيَّة (انبثاق الروح القدس من الآب فقط – ألوهيَّة القوى والنعمة الإلهيَّة – عدم أوَّلية بابا روما – أهميَّة الأسرار والليتورجيا الأرثوذكسيَّة – الطبيعتيْن في المسيح...) ومن ثمَّ "إذا كانت معموديَّة المبتدعين لا تختلف في نوعها وطقسها عن المعموديَّة الأرثوذكسيَّة فيكتفي بمنح المُعمَّد مسحة الميرون، على أنَّ الأصح أن يُعَمَّدوا حسب الطقس الأرثوذكسيّ" (عن كتاب البيذاليون، ص 611). يستعمل القديس نيقوديموس الآثوسي في هذه الحالة التدبير الذي هو تنازل مع الحفاظ على الروحانيَّة الأرثوذكسيَّة.

إذًا يجب البحث في الأصل لمسألة الحالات الاستثنائيَّة في مناولة غير الأرثوذكس وهو الزواج المختلط. إيجاد حلول عمليَّة وواقعيَّة وأرثوذكسيَّة للزيجات المختلطة ستسهِّل عمل الكاهن الذي يريد تطبيق القانون الكنسيّ وروحانيَّته. لا يمكن التعاطي مع جسد المسيح ودمه بهذا الاستهتار. لا يمكن إعطاؤه لغير المستحقين كما يقول بولس الرسول "إِذًا أَيُّ مَنْ أَكَلَ هذَا الْخُبْزَ، أَوْ شَرِبَ كَأْسَ الرَّبِّ، بِدُونِ اسْتِحْقَاق، يَكُونُ مُجْرِمًا فِي جَسَدِ الرَّبِّ وَدَمِهِ." (1كور11: 27). إنَّ عدم إعطاء المناولة المقدَّسة لغير الأرثوذكسيين هو عمل محبَّة من الكهنة وليس بغضًا وتعصُّبًا. يعلمون أنَّ عملاً كهذا سيسبِّب دينونة لهؤلاء غير الأرثوذكسيين حتَّى لو كانوا جهلاء في الأمور الإيمانيَّة. من هنا على العظات أن تكون عقائديَّة شارحةً لأبناء الرعيَّة أهميَّة الإفخارستيَّة المقدَّسة. قد يتضايق الكثيرون من هذه العظات والمواقف إذ "إِنَّ هذَا الْكَلاَمَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ" (يو6: 60)، وقد يرجع كثيرون إلى الوراء ولكن على الكاهن ألاَّ ينسى قول المعلِّم "لا تخف أيها القطيع الصغير لأنَّ أباكم قد سُرَّ أن يُعطيكم الملكوت." (لوقا12: 32).