ألكسي أوسيبوف (أستاذٌ في أكاديميّة موسكو اللّاهوتيّة).
نقلها إلى العربيَّة: رامي منقريوس (مقتطَف).
أُلقِيَت هذه المحاضرة، في كاتدرائيّة القدّيس يوحنّا المعمدان للرّوس الأرثوذكسيّين، الكنيسة الروسيّة الأرثوذكسيّة خارج روسيا، واشنطن، الولايات المتّحدة الأمريكيّة، في ١٣ أيلول ٢٠٠٠، خلال اجتماعٍ لمدرسة دخول السّيّد إلى الهيكل اللّاهوتيّة، في موسكو.
لكن يَبقى السّؤال الأهمّ: أين المسيحيّةُ الحقيقيّة؟
تُوجَد العديد من المقاربات الممكنة لهذا السّؤال. في معهد اللّاهوت، كانوا دائمًا يُعلّموننا أن نقارِن بين نظم العقائد الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة، وعقيدتِنا الأرثوذكسيّة. هذه طريقةٌ جديرةٌ بالاهتمام والاحترام، ولكنّها لا تبدو لي شاملةً، أو جيّدةً، أو كافيةً؛ لأنّ الشّخص غير الحائز على تعليمٍ جيّد، أو معرفةٍ كافيةٍ، سيجد صعوبةً في فهم الحجَج العقائديّة، وتحديدِ مَن على حقٍّ ومَن على ضلال. زيادةً على ذلك، في بعض الأحيان، تُستَخدَم أساليبُ نفسيّةٌ قويّةٌ في حجَجٍ كهذه، فيُشَتَّت المرءُ بسهولةٍ عن جوهر الموضوع. على سبيل المثال، عندما نتناول مسألة الأوّليّة البابويّة، في النّقاشات مع الكاثوليك، يقولون: «آه، البابا! عَمّ تتحدّثون؟ ليست الأوّليّة، والعصمة سوى تُرَّهات. بَطريرككُم يمتلك الامتيازاتِ نفسَها. لا يمكن التّفريق عَمليًّا، بين العصمة البابويّة (سلطة البابا المطلقة)، والتّصريحات الّتي يُدلي بها رئيس أيّ كنيسةٍ أرثوذكسيّةٍ محليّة». في الواقع، يوجد فَرقٌ هنا، بين العقيدة والقوانين الكنسيّة. لذا، فإنّ نهج المقارنات العقائديّة بعيدٌ جدًّا من البساطة، خاصّةً عندما تتعامل مع أولئك الّذين ليست لديهم معرفةٌ، ويسعَون أيضًا لاقتِناصِك بأيّ ثمن.
لكن هناك مَسارٌ آخرُ، يُظهِر بوضوح ما الكاثوليكيّة، وإلى أين تقود الإنسان. هذا المسار، هو بحثٌ، ودراسةٌ، ومقارنةٌ، موجودٌ بالفعل في عالم الحياة الرّوحيّة، ويتَجلّى بوضوحٍ في سِيَر القدّيسين. هناك يظهر الـغرور بقوّةٍ، ووضوحٍ، في الرّوحانيّة الكاثوليكيّة. إنّه الغرور، الّذي يجلب أخطَرَ العواقب للنّاسك، الّذي بدورِه يختار سلوكَ هذا السّبيل.
كما تَعلَمون، أحيانًا أُلقي محاضراتٍ عامّةً، تحضرها مجموعةٌ متنوّعةٌ من النّاس. كثيراً ما أسمع السّؤال التّالي: «حسنًا، ما الذي يُمَيّز الكنيسة الكاثوليكيّة عن الأرثوذكسيّة؟ بماذا أخطأ الكاثوليك؟ ألا يشكّلون ببساطةٍ، طريقًا مختلفًا نحو المسيح؟» في مناسباتٍ عديدة، رأيتُ أنّ كلّ ما عليَّ أن أقوم به، هو تقديم أمثلةٍ لبعض الصّوفيّين الكاثوليك، فَيُجيبني المُستَفسِر: «شكرًا لكَ، كلّ شيءٍ واضح الآن. لا حاجةَ إلى أيّ كلامٍ آخر».
في الحقيقة، أيّ كنيسة، أأرثوذكسيّةً كانت أم غير أرثوذكسيّة، تُعرَف من خلال قدّيسيها. حدّثْني عن قدّيسي كنيستك، أقُلْ لك ما كنيستك. كلّ كنيسة تُعلِن قدّيسين، مِمّن هم يُجَسِّدون المثاليّة المسيحيّة فقط، كما تفهمها هي. لهذا السّبب، ليس الاعتراف بقداسة القدّيس، تأكيدًا على أنّ الكنيسة تعترف به أنّه مسيحيٌّ جَديرٌ بالتّكريم، ومثالٌ مُناسبٌ يُحتَذى به فحسب؛ بل أيضاً، يمثّل شهادةَ الكنيسة عن نفسِها. من خلال القدّيسين، يمكننا تحديد واقع، أو مظهر قداسة الكنيسة نفسِها. سأقدّم لكم بعض التّوضيحات، عن رؤية الكنيسة الكاثوليكيّة للقداسة.
مقارنةٌ بين فرنسيس الأسيزيّ، والقدّيس البارّ سيصوي:
من بين الّذين تعدّهم الكنيسة الكاثوليكيّة قدّيسين، نجد قدّيسًا عظيمًا هو فرنسيس الأسيزيّ (من القرن الثّالث عشر). فيما يلي، صورةٌ عن وعيِه الرّوحيّ، وعن صورتِه الذاتيّة.
حَدَثَ ذات مرّةٍ، أنّ فرنسيسَ كان مستغرقًا بصلاةٍ مُطَوَّلةٍ من أجل عَطِيَّتَين. كانت الصّلاة كالتّالي: «العطيّة الأولى، هي ... لكي ... أختبر كلّ الألم الّذي كابدتَه أنتَ، يا يسوع الحلو، واختَبرتَه أنتَ في عَذاباتك. العطيّة الثّانية، هي أن... أحسّ... بهذه المحبّة غير المحدودة الّتي التهبت أنتَ بها، يا بن الله». كما نرى، لم يكن فرنسيس مهتّمًا بذنوبه؛ بل كانت لديه ذريعةٌ للمساواة بالمسيح.
خلال هذه الصّلاة، أحسّ فرنسيس أنّه تحوّل كلّيًّا إلى يسوع، الّذي تَعَرَّف عليه فورًا عندما شاهد واحدً من السّيرافيم، ذا ستّة الأجنحة، رَماه بسهامٍ ملتهبةٍ في اليدَين، والقدمَين، والجانب الأيمن، وهي الأماكن الّتي جُرِحَ فيها يسوعُ المسيح. بعد هذه الرّؤية، انفتحت الجراحات النّازفة (stigmata - علامات «آلام يسوع»)1.
ظاهرة "جروحات المسيح" (كما يسمّيها الكاثوليك بالعامّيّة) - أي الجراحات المشابهة لجراح المسيح على الصّليب (stigmata) - مألوفةٌ جدًّا في مجال الطّبّ النّفسيّ: فالتّأمّل المستمرّ في آلام المسيح على الصّليب، يثير حالة المرء العقليّة كثيرًا، كما أنّ ممارسة هذا التّأمّل، لفتراتٍ طويلةٍ، قد تؤدّي إلى هذه الظّاهرة. لا يوجد فيها شيءٌ من النّعمة، فبمشاركة آلام المسيح، لا توجد تلك المحبّة الحقيقيّة، الّتي أعلن الرّبّ عن جوهرها بوضوح: «الّذي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا، فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي» (يوحنّا ٢١:١٤). لذلك، فإنّ الاستعاضة عن الجهاد للتّغلّب على الإنسان القديم، أي طبيعةِ الشّخص السّابقة، بالتّأمّل بتجربة «الاشتراك في الآلام» - هي إحدى أخطر الأخطاء في الحياة الرّوحيّة، الّتي قادت، وما تزال تقود، العديد من المجاهدين الرّوحييّن نحو الغُرور، والكبرياء، وخِداع الذّات الرّوحيّ الواضح، الّذي عادةً ما يرتبط ارتباطًا مباشرًا بمرضٍ عقليٍّ (انظر على سبيل المثال، «عظات فرنسيس» المُوَجَّهة إلى الطّيور، والذِّئاب، والحمام، والثّعابين، والزّهور، وتوقيره للنّار، والحجارة، والدّيدان).
إنّ الهدف الّذي وضعه فرنسيس لنفسه، مُعَبِّرٌ تمامًا: «لقد عملتُ وأريد أن أعمَل؛ لأنّ هذا يجلب الإكرام»2. يتمنّى فرنسيس أن يتألّم من أجل الآخرين، وأن يُكَفِّر عن خطايا الآخرين (ص٢٠). ألم يكن هذا هو السّبب لقوله، بشكلٍ قاطعٍ، في نهاية حياته: «لستُ على درايةٍ بأيّ مَعاصٍ لم أُكَفّر عنها، بالتّوبة والاعتراف»3. كلّ هذا، يشهد على إخفاقه في رؤية خطاياه، وسقوطِه، وعَماه الرّوحيّ المُطلَق.
من أجل المقارنة بين القداسة الأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة، فلنُلقِ نظرةً على اللّحظات الأخيرة من حياة القدّيس البارّ، سيصوي الكبير (من القرن الخامس). «في الدّقائق الّتي سبقت وفاته، بدا أنّ سيصوي كان يتحدّث مع أشخاصٍ، غير منظورين للإخوة المحيطين به. سأله الأخوة: «يا أبتِ، أخبِرنا مع مَن تتحدّث...»، فكان رَدُّه: «إنّهم الملائكة الّذين أتَوا ليأخذوني، وأنا أتوسّل إليهم أن يتركوني هنا لفترةٍ قصيرةٍ، لكي أتوب». فاعترض الإخوة الّذين عرفوا أنّ سيصوي قد اِكتَمَل في الفضائل، قائلين: «لكنّكَ لستَ بحاجةٍ إلى التّوبة، أيّها الأب»، فأجابهم: «في الحقيقة، أنا لا أعرف ما إن كنتُ قد بدأتُ توبتي حتّى»4. هذا الفهم العميق، وذلك الاعتراف بالنّقص الشّخصيّ، هو السِّمة المميّزة الرّئيسيّة، عند كلّ القدّيسين الحقيقيّين.
*******
وهذا مقتطفٌ من «الطّوباويّة أنجيلا من فولينيو» (١٣٠٩م): في رؤى القدّيسة أنجيلا، الّتي نُشِرَت في موسكو، عام ١٩١٨، تَكتُب فيها أنّ الرّوح القدس كَلَّمَها قائلاً: «يا ابنتي، الحلوة والمُبتهِجة ... أحِبُّك كثيرًا» (ص٩٥). «كُنتُ مع الرُّسل، ورأَوني بأعين بشريّة، لكنّهم لم يَشعُروا بي كما تَشعُرين أنتِ» (ص٩٦). كَشَفَت أنجيلا ما يَلي عن نفسها: «في الظّلام، أرى الثّالوث القُدّوس، ويبدو لي أنّني هناك، وسْط الثّالوث القدّوس نفسه، الّذي أراه في الظّلام» (ص١١٧). كما أنّها تزوّدنا بأمثلةٍ، عن نَظرَتِها لعلاقتها بيسوع المسيح: «لقد تمكّنتُ من وضع نفسي بالكامل داخل يسوع المسيح» (ص١٧٦)، و«بسبب حلاوته، وحُزني على رحيله، صَرختُ وأردتُ أن أموت» (ص١٠١). في حالتها المتوتّرة، كانت تضرب نفسها بشدّةٍ، لدرجةٍ أنّ الرّاهبات كنَّ يُجبَرنَ على حملها خارجَ الكنيسة (ص٨٣).
قَدَّم أليكسي فيودور لوسيف، أحد أبرز الكُتّاب الدينيّين الرّوس في القرن العشرين، النّقد التّالي القاسي، لكن الدّقيق، عن رؤى أنجيلا. كتب في جزءٍ منه: «تعيش أنجيلا في حالةٍ من التّجربة، والتّضليل، لدرجةٍ أنّ الرّوح القدس يظهر لها ويهمس بعبارات العشق: «يا ابنتي، الحلوة والمُبتهِجة، يا هَيكَلي، يا بهجتي، أَحِبّيني لأنّي أُحِبّكِ كثيرًا، أكثر بكثيرٍ مِمّا تُحبّيني». تَخور قوى القدّيسة بحلاوةٍ، وتَرتَبِك بسبب إنهاك الحبّ الحلو. يظهر عشيقها أكثر فأكثر، ليؤجِّج جسدَها، وقلبَها، ودمَها أكثر. ويظهرُ لها صليب المسيح، كالمخدع الزّوجيّ.
كيف يمكن لأيّ شيءٍ، أن يكون أكثر نقيضًا للنُّسك البيزنطيّ-الموسكوفي الجادّ، والرّصين، من القول التّجديفيّ التّالي: «إنّ روحي قد اختُطفت إلى النّور غير المخلوق وصَعدت»، أو هذه التأمّلات العاطفيّة، عن صليب المسيح، وجروحات المسيح، والأعضاء المُنفَصلة من جسده، والاِستِحضار القَسريّ للجروحات الدمويّة على جسد المرء، إلخ … في ذروة النّشوة، يَلِفُّ المسيح ذراعَه، الّتي سُمِّرت على الصّليب، حول أنجيلا المُنهَكة تمامًا من الإعياء، واللّوعة، والسّعادة، فتقول: «أحيانًا، يبدو لنفسي أنّها دخلت إلى جانب المسيح مِن شِدّة هذه المُعانقة. والفرح، والاستنارة اللّذان تلقّيتهما هناك، لا يمكن وصفهما؛ لأنّهما كانا عظيمَين جدًّا، لدرجة أنّني، في بعض الأحيان، لم أتمكّن من الوقوف على قَدَميَّ والاستلقاء، لم أعد قادرةً على الكلام... وأنا مُستَلقية، غير قادرة على استخدام لساني، وأطرافي5.
********
تُقَدّم كاترينا السّيانيّة6 (١٣٨٠م) - الّتي رفعها البابا بولس السّادس إلى أعلى رتبة قداسة، أي «معلّمة الكنيسة» - مثالاً واضحًا على القداسة الكاثوليكيّة. سأقتبس بعض المقتطفات، من الكتاب الكاثوليكيّ (سِيَر القدّيسين) الّذي كَتَبَهُ أنطونيو سيكاري، الّتي أعتقد أنّها لا تحتاج إلى شَرح. كانت كاترينا، تبلغ عشرين عامًا. لقد شَعَرَت أنّ حياتها، ستصل إلى نقطة تَحَوُّلٍ حاسمةٍ، فواصلت الصّلاة إلى الرّبّ يسوع المسيح نفسه من أجل ذلك، مُكَرِّرةً العبارةَ الرّائعة، والرّقيقة جدًّا، الّتي أصبحت الفكرة المُهَيمِنة عليها: «أتْحِد نفسَك معي في زواج الإيمان!»7
حصلت الرّؤية التّالية، ذات مرّةٍ مع كاترينا: «احتضنها عريسُها الإلهيّ وجَذَبَها إليه، لكنّه بعد ذلك نزع قلبها من صدرها؛ لكي يمنحَها قلبًا جديدًا أشبه إلى قلبه» (ص ١٢).
قيل ذات مرّةٍ إنّها ماتَت. قالت هي لاحقًا: «إنّ قلبَها قد تمزّق بقوّة محبّة الله، وإنّها اختبرت الموت»، لكن عند «رؤية الأبواب السّماويّة» قال الربّ لها: «ارجعي يا طفلتي، يجب أن تعودي ... سأُحضِرُكِ أمام أُمراء ورؤساء الكنيسة». ثم بدأت الفتاة المتواضعة، تُرسل رسائلَها إلى كلّ أنحاء العالم، ثلاث أو أربع رسائل مُطَّولةٍ غالبًا، عن مواضيع مختلفةٍ، كانت ترسلها في وقتٍ واحد. كانت تُمليها على كَتَبةٍ، من دون أن تفقد حبل الأفكار، وبسرعةٍ مذهلةٍ، ما ترك الكَتَبةَ غير قادرين على مواكبتها. كانت تختم كلّ هذه الرّسائل بأسلوبٍ عاطفيٍّ: «يا يسوع الأكثر حلاوة، يسوع حُبّي». وغالبًا ما كانت تبدأ الرّسائل بالكلمات: «أنا، كاترينا، الأمة والعَبدة من بين عبيد يسوع، أكتُبُ إليكم بِدَمِه الثّمين...» (ص١٢).
في رسائل كاترينا، ينذهل المرء قبل كلّ شيءٍ بكلمة «أريد» الوارِدة مِرارًا وتكرارًا (ص١٢). يقول البعض، حتّى إنّه في أثناء نشوَتِها، كانت تخاطب المسيح بإلحاحٍ بكلمة «أريد» (ص١٣).
تقول في مُراسلاتها مع البابا غريغوريوس الحادي عشر، الّذي كانت تحاول إقناعه بالعودة من أفينيون Avignon))8 إلى روما: «أتحدّث إليك بالنّيابة عن المسيح ... أتحدّث إليك، أيّها الأب، بيسوع المسيح ... استجِبْ إلى نداء الرّوح القدس المُوَجَّه إليك» (ص١٣).
ولملك فرنسا قالت: «افعَل إرادة الله وإرادتي» (ص١٤).
********
لا تَقِلّ رؤى تيريزا الأفيليّة9 (من القرن السّادس عشر) دَلالةً عمّا سبق، وهي الّتي رفعها البابا بولس السّادس أيضًا، إلى درجة «معلّمة الكنيسة». قبل وفاتها، صرخَت: «يا إلهي، يا زوجي، سأراك أخيرًا». هذه الصَّيحات الأشدّ غَرابةً، لم تكن وليدة الصّدفة. كانت النّتيجة الطّبيعيّة، لصراعات تيريزا «الرّوحيّة»، الّتي تَجَلّىَ جَوهَرها كالتّالي.
بعد رؤاها الكثيرة، قال «المسيح» لتيريزا: «من اليوم فصاعدًا، ستكونين زوجةً لي. من الآن فصاعدًا، لستُ خالقَكِ فحسب، بل زوجُك»10.
كَتَب ميرجكوفسكي، أنّ تيريزا صَلَّت: «يا ربّ، إمّا أن أتألّم معك، أو أموت من أجلك»، ثمّ سَقَطَت مُرهَقةً بسبب هذه النِّعَم. بطبيعة الحال، ليس من الغريب أن تَعتَرِف تيريزا بالتّالي: «حبيبي يُنادي روحي بِنَبرةٍ حادّةٍ، لدرجة أنّه لا يَسَعُني إلّا أن أسمعها. لذلك، هذا النّداء يؤثّر في روحي، لدرجة أنّ الرّغبة تُنهِكُها». ليست صدفةً، أن يَكتُب عالِم النَّفس الأمريكيّ الشّهير، ويليام جيمس، التّالي عند تقييم خُبُراتِها الصّوفيّة: «أمسى مَفهومُها للدّين، إذا جاز القول، سلسلةَ غَزَلِ عاشقَين لا نهاية لها، بين العابِد والمَعبود»11.
*********
هناك مثالٌ آخر على القداسة الكاثوليكيّة، وهي تيريزا دو ليزيو (تيريزا الصّغيرة، أو تيريزا الطّفل يسوع) الّتي عاشت حتّى سنّ ٢٣ عامًا، وأعلنتها «عصمة» البابا يوحنّا بولس الثّاني «معلّمةً جديدةً» في الكنيسة الجامعة، عام ١٩٩٧، في الذّكرى المئويّة لرُقادها. المقتطفات الرّوحيّة التّالية، من السّيرة الذّاتيّة لتيريزا «قصّة نفسٍ»12، تَشهَد ببلاغةٍ على حالتها الرّوحيّة: «في أثناء النّقاش الّذي سبق اتّشاحي للثّوب الرّهبانيّ، رأيت الأشياء الّتي كانت ستحدث في الكرمل. أتيتُ لأخلّص النّفوس وقبل كلّ شيء، لأصلّيَ من أجل الكهنة...» (لا لتخلّصَ نفسها، بل الآخرين).
وفي حديثها عن عدم استحقاقها، كَتَبَت: «أحتَفِظُ بالأمل الجريء المستمرّ بأنّني سأصبح قدّيسةً عظيمةً... ظننت أنّني وُلِدت من أجل المجد، وسعيت إلى طُرُقٍ لتحقيق ذلك، وها الرّبّ الإله... كَشَف لي أنّ الموت لن يَنظُر إلى مجدي، وفحواه أنّني سأصبح قِدّيسةً عظيمةً». (قارنوا هذا مع مكاريوس الكبير، الّذي اشتهر بشخصيّته الفَذّة في أيّامه، إذ كانت يُطلِق عليه زملاؤه في الجهاد، اسمَ «الله على الأرض». كان يُصَلّي فقط: «يا ربّ طَهِّرني أنا الخاطئ، لأنّي لم أعمل أيّ صلاحٍ أمامك»). فيما بعد، بدأت تيريزا تكتب بوضوحٍ أكثر: «في قلب أمّي الكنيسة، سأكون المَحَبة... ثمّ سأكون للجميع... ومن خلال هذا سيتَحَوّل حُلُمي إلى حقيقة».
كانت تعاليم تيريزا، عن المحبّة الرّوحيّة، لافتةً للنّظر. قالت: «كانت هذه قُبلة الحُبّ. شَعَرتُ بالحُبّ، وقُلت أُحِبُّك وأوكل نفسي إليك إلى الأبد». لم تكن هناك التماساتٌ، أو جهاداتٌ، أو تضحية. منذ ذلك الحين، نظر يسوع وتيريزا الصّغيرة المسكينة بعين الرِّضا إلى بعضهما، وفَهِما كلّ شيء...
لم يَحدُث في ذلك اليوم تَبادُلٌ للنّظرات؛ بل اتّحاد. لم يعودا شخصان اثنان، واختفت تيريزا كقطرة ماءٍ تاهَت في أعماق البحار. ليست هناك حاجةٌ إلى المزيد من التّعليقات على الرّواية الخياليّة للبتول المسكينة، معلّمةِ الكنيسة الكاثوليكيّة.
********
تقوم التّجربة الصّوفيّة لإغناطيوس دي لويولا (من القرن السّادس عشر) - وهو مؤسّس الرّهبنة اليسوعيّة، وأحد أعمدة التّصوّف الكاثوليكيّ - على التّطوير المنهجيّ للخيال.
يُعَدّ كتابُه (تمارين روحيّة)، مرجعًا ذا سلطةٍ في الكنيسة الكاثوليكيّة، وفيه يدعو المسيحيّ إلى التّخيّل، والتّأمّل من دون انقطاعٍ، في الثّالوث القدّوس، والمسيح، ووالدة الإله، والملائكة، إلخ... من حيث المبدأ، كلّ هذا يتناقض بوضوحٍ مع الجهاد الرّوحيّ للقدّيسين، في الكنيسة الجامعة؛ لأنّه يقود المؤمن إلى اضطرابٍ روحيٍّ، وعاطفيٍّ.
الفيلوكاليا - وهي مختاراتٌ ذات سلطةٍ من كتابات نُسّاك الكنيسة الأولى - تمنع بصرامةٍ المشاركةَ في مثل هذه «التّمارين الرّوحيّة». فيما يلي، بعض المقتطفات من تلك المختارات:
يُحَذِّر القدّيس نيلوس السّينائيّ (من القرن الخامس): «لا تطلبوا رؤى الملائكة، أو القوّات الملائكيّة، أو المسيح، لئلّا تفقدوا صوابَكم، وتتّخذوا الذّئب راعيًا، وتعبدوا الشّياطين أعداءَكم...»13.
في حديثه عن أولئك الّذين «يتخيّلون ملذّات السّماء، وصفوف الملائكة، ومساكن القدّيسين» في أثناء الصّلاة، يقول القدّيس سمعان اللّاهوتيّ الجديد (من القرن الحادي عشر): «إنّ هذه علامة على خداعٍ روحيٍّ للذّات...» «الّذين يَخوضون مثل هذا الطّريق، ويرَون النّور بأعينهم الجسديّة، ويَشِمّون روائح زكيّةً، ويسمعون أصواتًا، وما إلى ذلك… فقد تمّ إغواؤهم»14.
يُذَكِّرنا القدّيس غريغوريوس السّينائيّ (من القرن الرّابع عشر) بالتّالي: «لا تقبل أبدًا، أيّ شيءٍ تراه بالحواسّ أو بالرّوح، بالدّاخل أو بالخارج، سواء أصورةَ المسيح كانت، أم ملاكًا، أم قدّيسًا ما... أولئك الّذين يقبلون صُوَرًا كهذه ... ينخدعون بسهولة ... لا يَسخُط الله على المرء الّذي، بسبب يقظته وحذره من أن ينخدع، لا يقبل بشخصٍ آتٍ من الله فعلاً، بل يمدحه الله كإنسانٍ حكيم...»15
يَكتُب القدّيس إغناطيوس بريانشانينوف عن استقامة ما فعله مالِكُ أرضٍ ما، عندما رأى ابنته تحمل كتاب توما الكمبيسيّ الكاثوليكيّ، من القرن الخامس عشر16 (كتاب الاقتداء بالمسيح)، فانتزعه من يدَيها، وقال لها: «أوقِفي علاقتَك العاطفيّة مع الله».
على ضوء الأمثلة المذكورة أعلاه، لا يُمكِن للمرء أن يشكّ في صحّة هذه الكلمات. من المؤسف جدًّا، أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة توقّفت على ما يبدو، عن التّمييز بين ما هو روحانيّ وعاطفيّ، بين القداسة والتخيّل، وبين المسيحيّة والوثنيّة.
https://stjohndc.org/en/orthodoxy-foundation/why-orthodoxy-true-faith-osipov-ai
1 ميتروفان لوديجنسكي، ص١٠٩، النّور غير المنظور، بتروغراد، ١٩١٥
2 القدّيس فرنسيس الأسيزيّ، الأعمال، موسكو، النّاشرون الفرنسيسكان، ١٩٩٥ - ص١٤٥
3 ميتروفان لوديجنسكي، ص١٢٩
4 ميتروفان لوديجنسكي، ص١٣٣
5 أليكسي فيودور لوسيف، مقالات عن الرمزيّة والأساطير القديمة، موسكو ١٩٣٠، المجلد ١، ص٨٦٧-٨٦٨
6 وُلدت كاترينا بيننكاسا في سيينا في إيطاليا، ودخلت إلى الرّهبنة الثّالثة الدومينيكيّة بعدما شاهدت رؤيا "للقدّيس" دومينيك. (المترجِم)
7 أنطونيو سيكاري، سير القدّيسين، المجلد ٢، ميلانو، ١٩٩١، ص١١
8 مدينة في إقليم فوكلوز (Vaucluse) في جنوب شرق فرنسا (المعرّب).
9 راهبة كرمليّة إسبانيّة. أسّست عام 1562 م ديرًا للكرمليّات في أفيلا بإسبانيا وألحقت به عدّة أديرة (المعرّب).
10 ديمتري سيرجيفيتش ميرجكوفسكي، الصوفيون الأسبان، بروكسل، ١٩٨٨، ص٨٨
11 ويليام جيمس، تَنَوُع التَجربة الدينيّة، مُتَرجَم من اللغة الإنجليزيّة، موسكو، ١٩١٠. - ص٣٣٧
12 الرمز ، ١٩٩٦، العدد ٣٦ ، باريس، ص ١٥١
13 القدّيس نيلوس السّينائيّ، الفصل ١٥٣ عن الصّلاة، الفيلوكاليا، الفصل ١١٥، المجلّد ٢ من ٥، الطّبعة الثّانية، موسكو ١٨٨٤ ص٢٣٧
14 القدّيس سمعان اللّاهوتيّ الجديد "في الطّرق الثّلاثة للصّلاة"، الفيلوكاليا، المجلّد ٥، ص٤٦٣-٤٦٤، موسكو ١٩٠٠
15 القدّيس غريغوريوس السّينائيّ، "تعليمات لمن يلزمون الصّمت"، المرجع السّابق (مختصر)، ص٢٢٤
16 توما الكمبيسيّ (Thomas A Kempis) هو راهبٌ ألمانيٌّ، له كتاباتٌ عديدةٌ، خاصّةً كتاب "الاقتداء بالمسيح" الّذي اشتهر بنسبته إليه.