القدّيس موسى الأسود كنموذجٍ لحياتنا

المتقدِّم في الكهنة: جورج بابافرنافاس.

نقله إلى العربيَّة: نديم سلُّوم.

 

القدّيس موسى الأسود، هو صنيعةُ التّوبة الحقيقيَّة. ضلَّ في سنٍّ مبكِّرٍ، وأصبح فيما بعد زعيمَ عصابةٍ، من قُطَّاع الطّرق، لسنواتٍ عديدة. عندما عاد إلى رُشده، تاب عن جرائمه. وفي النّهاية وجد طريقه إلى القداسة.

كان عبدًا، اشتراه مالكُ أرضٍ ثريٌّ. كانت شخصيَّتُه، قاسيةً ومخيفةً، وكان يفتعل المشاكلَ كلّ يومٍ، حتَّى استاء منه سيِّدُه، ورَماه في الشّارع. وجد موسى مأوىً له مع قطَّاع الطّرق، وبسبب قوَّته الجسديَّة الهائلة، سُرعان ما عَلا شأنُه، فأصبح قائدَهم. ذات مرَّةٍ، في أثناء مطاردته، من قبل مؤسّسات السّلطة لجرائمه العديدة، ذهب ليختبئ في أعماق الصّحراء، حيث كان يعيش أشهَرُ النسَّاك. ارتباطُه بالقدّيسين، جعله يهدأ ببطء. ظلَّلتْه نعمةُ الله؛ لأنَّ التّوبةَ تجلب النّعمة، فَلَيَّنت قلبَه، وتاب بصدقٍ، وطلب الخلاص. كان تغييرُه جذريًّا، ووصل في وقتٍ قصيرٍ إلى مستوى آباء الصّحراء العظماء. بعد المعموديَّة، أصبح مستحقًّا لنَيل نعمة الكهنوت. في سنِّ الخامسة والسّبعين، غادر هذه الحياة المؤقَّتة، بطريقةٍ عنيفةٍ كشهيد. اقتحم قطَّاعُ الطّرق الوثنيُّون الكهفَ، حيث كان يعيش في نسكٍ، وقتلوه بالسّيف. بهذه الطّريقة، مرَّةً أخرى، تحقَّق كلام المسيح لبطرس الرّسول: " كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ" (مت 26: 52).

الفضيلتان العظيمتان اللّتان تزيِّنانه، هما التّوبة الحقيقيَّة، والتّواضع العميق. "بكى بمرارةٍ" على خطاياه حتَّى أنفاسه الأخيرة، ولم يَعُدَّ نفسَه أقلّ شأنًا من النّاس وحسب؛ بل أيضًا أقلُّ من الخليقة البَهيميّة. "إنَّ إدراكَنا لخطايانا، هو عطيَّةٌ عظيمةٌ من السّماء، أعظمُ من رؤية الملائكة... التّوبةُ، عطيَّةٌ للبشريَّة لا تُقَدَّر بثمن... نتألَّه من خلال التّوبة. هذه حقيقةٌ عظيمةٌ لا يمكن تصوُّرها" (الأرشمندريت صفرونيوس، معاينة الله كما هو). استخدم موسى هذه العطيَّة، الّتي لا تقدَّر بثمنٍ، بأفضل طريقةٍ ممكنةٍ، ووصل إلى التّألُّه، أي معاينةِ الله.

تكشف حوادثُ عدّة من حياته، عن التّغيير الجذريّ في أسلوب حياته. هذا ما تعنيه التّوبة: تغييرٌ في الذهنيَّة، وفي أسلوب الحياة. من الجدير أن نذكرَ إحدى تلك الحوادث: ذات مرَّةٍ، دخل أربعةُ لصوصٍ، من رفاقه القدامى، إلى قلاَّيته ليسرقوه، لكن لم يتوقّعوا من سيجدون داخلها. عندما رأَوه، تفاجئوا. قبض عليهم بسهولةٍ، وقيَّدهم، وقادهم إلى مجمع الشّيوخ، سائلاً إيَّاهم ما يجب فعله مع قطَّاع الطّرق هؤلاء، قائلاً: "بالنّسبة لي، لا يجدُر معاقبة النّاس فيما بعد". (كتاب الشّيوخ).

ليسَتِ التّوبةُ، حالةً ثابتةً؛ ليست التّوبةُ، شيئًا يحصل في لحظة؛ بل طريقُ حياةٍ ديناميكيٌّ. إنَّها جهادٌ دمويٌّ، من أجل تحوُّل الأهواء، وحُلول الرّوح القدس في كياننا كلِّه. أعظم مرضٍ للإنسان، بعد سقوطه في الخطيئة، هو الكبرياء الّتي هي أصل الشّرور كلّها، وسبب النّزاعات والحروب. "الكبرياء، هي تلك الهاوية المظلمة الّتي يغرق فيها الإنسانُ بسبب السّقوط... الكبرياء، هي بدايةُ الشرّ، وأصلُ كلِّ مأساةٍ، وزارعةُ الكراهيَّة، ومدمِّرةُ السّلام... الكبرياء، هي الظّلامُ الخارجيّ الّذي يسكن فيه الإنسان المنفصلُ عن محبَّة الله" (الأرشمندريت صفرونيوس، معاينة الله كما هو). تجذب خبرةُ التّوبة الصّادقة، نعمةَ الله غيرَ المخلوقة الّتي تغيِّر الكائن البشريّ. هكذا يطرد الإنسانُ الكبرياءَ، ويكتسب، ويبلغ ذروةَ التّواضع، عبر لَوْمِ الذّات. يجب أن يعالجَ المرءُ آثامَه وخطاياه؛ أن يشتكيَ، ويلومَ نفسَه، ويتحدَّثَ أوَّلاً عن ذاته، ولا يشعرَ بالامتعاض عندما ينتقده الآخرون، ويهينونه.

اعتاد موسى المغبوطُ، أن يقول: "عندما تشغل ذهنَك بخطاياك، لن يكونَ هناك وقتٌ لمراقبةِ أخطاءِ الآخرين". في موضوع تواضعه، نذكر الحادثة التّالية: "يومَ سِيامته الكهنوتيَّة، من قبل بطريرك الإسكندريَّة، وفي الوقت الّذي كان يرتدي فيه الحُلَل المقدَّسة، قيل له، بطريقةٍ ودِّيةٍ، إنَّه أصبح أبيضَ مثل الحمامة. استفسر موسى بتواضعٍ، سائلًا البطريرك إن كان يحكم عليه من الخارج أو من الدّاخل، لأنَّ ثيابَه كانت بيضاء. أراد البطريركُ أن يمتحنَه، ليرى مدى تواضعه، فطلب من الإكليروس أن يطردوه من الهيكل، فطردوه بعد القدّاس الإلهيّ، ناعتين إيّاه أنّه أسود اللّون. غادر موسى على الفور، دون أيّ اعتراض.  تبعه أحدُهم سرًّا، ليرى إذا كان قد انزعج، فسمعه يتحدَّث لنفسه: "خير ما فعلوه بك، يا أسود اللّون. بما أنَّك لست إنسانًا، فما الّذي تفعله مع النّاس؟" (كتاب الشّيوخ).

تُحوِّل الكنيسةُ الأرثوذكسيَّة أبناء آوى، والذّئاب، إلى خرافٍ وحملانٍ بريئةٍ، وتهذِّبها بأسلوب الحياة الّتي توفّره. تُحوّل المتكبِّرَ إلى متواضعٍ، والزّناةَ إلى حكماء، والقتلةَ، والإرهابيين، وقطَّاعَ الطّرق إلى مغبوطين.

 

https://www.johnsanidopoulos.com/2013/08/the-repentance-and-humility-of-st-moses.html