القدّيس قوزما الإيتولي، كَمُنيرٍ للأرثوذكسيّة

القدّيس قوزما الإيتولي، كَمُنيرٍ للأرثوذكسيّة

الميتروبوليت إيروثاوس فلاخوس

نقلتها إلى العربية: رولا الحاج
 

القدّيس قوزما الإيتولي هو شخصيّة عظيمة ذات قيمة وأهميّة غير محدودة في زمن. كُتِبَ عنه الكثير، لكنّ ذِكراه لا تنضب.

يُحتفل بذكراه في الرابع والعشرين من شهر آب. استَشهد مثل هذا اليوم في إيبيروس الشماليّة. ولأنّ شخصيّته غير محدودة بزمنٍ، فيمكننا أن نتحدّث عن هذه الشخصيّة المقدّسة في أيّ زمنٍ. إضافة إلى ذلك، لا تزال ذِكراه قويّة، هنا في رومِلي حيث وُلد وترعرع وتعلّم في مدارسها وسافر فيما بعد.

أودّ الآن أن أقدّم بعض الأفكار حول عمل القدّيس قوزما التربويّ.

لقد درست العديد من السير الذاتيّة المتعلّقة بالقدّيس قوزما، وتقريبًا كلّ المراجع التي تشير إليه. وقد لاحظت أنّ الكثيرين منها ذكرت أنّ القدّيس قوزما يمثّل عصر التنوير. لذلك يسمّونه المُنير.

يسمّى القدّيس قوزما منيرًا لأنّ عمله كان مهمًّا، ولأنّه في الوقت الذي كان يسود في بلادنا الجهلُ إلى حدّ كبير، كان يشغل نفسه بالوعظ والتعليم وإنشاء المدارس. ومن المعروف أنّ عصر التنوير الغربيّ تناول التعليم، الذي نما في ذلك الوقت (في القرن الثامن عشر) في الغرب، فازدهر التعليم، وبرزت سُبُلٌ جديدة في التعليم والتَّدريس. لهذا السبب بالتحديد، يُعدّ القدّيس قوزما منيرًا، وبالتأكيد رائدًا لمدرسة كورايِس والعديد من التنويريّين اليونانيّين الآخرين.

طبعًا، تعامل القدّيس قوزما مع إنشاء المدارس راغِبًا في أن يتعلّم الأطفال اليونانيّون الكتابة. ثمّة رسالة مهمّة أرسلها عام 1779 ي يكتُب فيها عن هذا الموضوع، إلى شقيقه كريسانثوس الذي كان عميدًا في ناكسوس. من بين أمور أخرى كتبها يقول: «يبدو أنّ ما حدث لي أمرٌ لا يُصدَّق بالنسبة لكثيرين وحتّى إنّهم لا يستطيعون فهمه. أُخبرُك بهذا فقط لكي تُمجِّدَ الربَّ، وتفرح. هناك توبة كبيرة تحصل عند الشعب. لقد سافرتُ إلى ثلاثين مقاطعة تقريبًا، وأنشأتُ عشر مدارس يونانيّة، ومئتي مدرسة لقواعد اللغة في حين أنّ الربّ يعمل فيهم وثبّت الكلمة بالعلامات التي اصطحبَتْها». يلخّص هذا القول عمل القدّيس قوزما الإيتولي، بالإضافة إلى حقيقة أنّه تمّ بمؤازرة الله والعديد من المعجزات.

لكن بالرغم من هذا التشابه الخارجيّ للتعليم بين القدّيس قوزما وحركة التنوير التي كانت تحدث آنذاك في أوروبا، إلّا أنّ هناك فرقًا شاسعًا بين محتوى التعليم الذي كان يدرِّسُه عصر التنوير الغربيّ والقدّيس قوزما الإيتولي.

يقول كينيث جيرجن1، الذي عمل من كثب على الحركات الجارية في العالم الغربيّ، مثل التنوير، والرومانسيّة والحداثة، وما بعد الحداثة، في موضوع التنوير إنّها كانت حركة قائمة على المنطق والمشاهدة، التي تأتي من الحواس. من المعروف أنّ التنوير قد اتّخذ عدّة أشكالٍ. كان هناك التنوير الإنجليزيّ الذي تميّز بتجريبيّته الفلسفيّة، وكانت مقاربته الأساسيّة: «لا يمكن فهم أي شيء ما لم نَلمُسه أوّلًا». كما أنّ هناك ما يسمّى التنوير الفرنسيّ الذي ارتبط بالماديّة (materialism) والإلحاد (atheism). وارتبط التنوير الألمانيّ بشكل أساس بالمثاليّة (idealism). كان يُعبّر عن عصر التنوير الإيطاليّ بشكل أساسي على أنّه مناهض لرجال الدين، كحركةٍ ضدّ رجال الدين (anti-clericalism). ثمّة أيضًا عصر التنوير اليونانيّ المعتدل، الذي كان مؤسّسه آدمانتيوس كورايس2، والذي تمّ التعبير عنه كحركة للعودة إلى جذور الهيلينيّة بموقف ساخر وردّ فعل ضدّ ما يسمّى بالبيزنطيّة (Byzantinism).

لا علاقة لتعليم القدّيس قوزما الإيتولي وعمله بكلّ حركات التنوير هذه التي نلاحظها في الغرب. كان يعمل القدّيس قوزما ضمن حدود التقليد الأرثوذكسيّ اليونانيّ، الذي كان مركزَه اللهُ وكنيستُه. تكلّم القدّيس قوزما على الثالوث القدوس وتجسّد المسيح وأهميّة والدة الإله العذراء والقدّيسين والصلاة وأيضًا ما يسمّى الصلاة النوسيّة وتنقيّة القلب من الأهواء. لم يكن العقل أو الحَواس محور تعليمه، ولا ما يسمّى الربوبية3 (deism) والمذهب الطبيعيّ4 (naturalism)، بل الله والطريقة التي يمكن للإنسان أن يبلغ إلى الشركة معه.

طبعًا، حثَّ القديس قوزما المسيحييّن على إنشاء مدارس، نظرًا لأُميّة اليونانيّين. لقد حاربَ الأُميّة، لدرجة أنّ الأولاد الذين كان لديهم ممتلكاتٍ ماديّة ولكنّهم لا يُحصِّلون تعليمًا كان يسمّيهم «خنازير صغيرة»، إلّا أنّ محتوى هذا التعليم كان مختلفًا ومعارضًا لعصر التنوير. سأذكر ثلاث علامات مميّزة تدلّ على أنّ القدّيس قوزما كان غريبًا عن عصر التنوير.

أوّلاً، سعى إلى إنشاء مدارس، لكنّه حدّد فَحواها وهدفها. فقال:

«عليكم جميعًا أن تتلاقوا وتؤسّسوا مدرسةً جيّدة. عَيِّنوا لجنةً لإدارتها، وأساتذة يعلّمون كلّ الأولاد، الأغنياء والفقراء. لأنّنا في المدرسة نتعلَّم مَن الله؛ مَن الثالوث القدوس؛ مَن الملائكة والشياطين؛ وما الجنّة والجحيم، والفضيلة والشرّ، ما النّفس والجسد، وما إلى ذلك. من دون مدرسةٍ نسير في الظلام. فالمدرسة تقودنا إلى الدير. لو لم يكن هناك مدرسة، كيف كنتُ سأتعلَّم أن أُعلِّمَكَ؟

لقد درست عن القدّيسين وعن الكُفّار والهراطقة والملحدين. لقد بحثت في أعماق الحكمة، لكنّ كلّ الأديان باطلة. لقد تعلّمت أنّ هذه هي الحقيقة، أنّ إيمان المسيحيّين الأرثوذكسيّين هو وحده الصالح والمقدّس، وأن تؤمن وتعتمد باسم الآب والابن والروح القدس».

ثانيًا، لم يكن لدى القدّيس قوزما إحساس بأنّه كان رائدًا في التنوير، لكنّه كان أحد تلامذة يسوع المسيح. فكلماته الحيّة التي وَلدت التوبة والعودة إلى الله، والمعجزات التي صنعها تُظهر هذه الحقيقة. بل يبدو في عظاته أنّه غالبًا ما كان يعدّ نفسه رسولًا، على الرغم من عدم استحقاقه. يقول هذا طبعًا بتواضع شديد، ويذكّرنا بشكل أساسيّ بمقطعٍ من عند بولس الرسول: «لأنّي أصغر الرّسل، أنا الذي لستُ أهلًا لأن أُدعى رسولًا» (1 كورنثوس 15: 9). بعد أن أشار إلى كيفيّة عمَل الرّسل القدّيسين، أضافَ قائلًا:

«واجِبٌ ومباركٌ، أيّها الإخوة، بالنسبة إليّ، أنا العبد غير المستحقّ والخاطئ، أن يكون لي قلب طاهر مثل قلب الرّسل الأطهار وأن أنال نعمة الروح القدس الكليّ القداسة والسيادة، أنا الذي حصلتُ مستحقًّا أن آتي إلى أرضكم. لكن لأنّني خاطئ وليس لديّ نعمة الروح القدس، أتوسّل إلى ربّنا يسوع المسيح أن يرسل نعمته من العُلى، وأن يبارك أرضكم، وممتلكاتكم، وعمل أيديكم. قبل كلّ شيء، لكي يترأف بنا، ويغفر لنا خطايانا، ويجعلنا مستحقّين، يا أبنائي، أن نعيش هنا حسنًا وبسلام، وأن يجعلنا في الفردوس لكيما نمجّد الثالوث القدوس».

ثالثًا، كان للقدّيس قوزما، من خلال ما ورد في عظاته، معرفة واضحة أنّه نبيٌّ مثل النبيّ إيليا. لقد تكلّم عن المسيح الدجّال، الذي يُطابِقُه باليهود الذين حاربوه وقتلوه في النهاية، قال:

«إنّ المسيح الدجال، يا إخوتي، هو شخص ذو عقل شرير، وشخصيّة شريرة، وفي قلبه شيطان. يدّعي أنّه هو الله وسوف يقتل النبيّ إيليّا. بعد أن تفحصّتُ الموضوع، يا إخوتي، تعلّمتُ وفهمتُ أنّ النبيّ إيليّا والمسيح الدجّال سوف يأتيان وأنّ هذا الأخير سيقتل النبيّ. كان إيليّا، يا إخوتي المسيحيّين، على قيد الحياة على مرّ هذه السّنين، والله أعلم أين يُخفيه حتّى يومنا هذا. إن كنتم ترغبون في معرفة مكانه، فهو قريب من هنا، والكلام الذي أُكلّمكم به يتعلّق به».

يُعبّر أكثر في عظة أخرى قائلاً:

«عندما يأتي النبيّ إيليّا ليعلّم، فإنّه لن يكشف عن نفسه للعالم، كما يقول الروح القدس، حتّى إنّه بمجيئه لن يقلب كلّ شيء رأسًا على عقب. هكذا يقول الروح القدس، لكي يُرهِب العالم ويزعزع العالم الأرض. لا أريد أن أُعلن الأمر لكم أيّها المسيحيّون. لكن ماذا سأعلن، يا أبنائي؟ غيرته وتعاليمه. جعلني الله الكثير الرحمة مُستحقًّا أن أكشف لكم هذه الأمور أيضًا بسبب رأفته. ولا تتوقّعوا أن يعلّمكم إيليّا آخر».

ولأنّه كان لديه هذا الإحساس، كان يشجّع المسيحيّين عندما كانوا يتقدّمون لتقبيل يده، أن يرتّلوا طروباريّة النبيّ إيليّا. يقول في إحدى عظاته:

«لديكم النيّة بتقبيل يدي. فليبارككم الله الكليّ الصلاح. وإن كنتم تنقضّون عليّ كلّكم فسوف أموت. أليس من الأفضل أن تقبّلوا أيقونة يسوع المسيح وتتوّسلوا إليه أن يحرسني من أفخاخ الشيطان وكذلك من اليهود الذين يدفعون آلافًا من أكياس النقود لكي يقتلوني؟ أنا أيضًا أصلّي من أجلكم. لذلك أكرّر مرّة أخرى، يا أبنائي، لئلا أُشعِرَكم بالمرارة، قِفوا عن يميني ويساري وسأعطيكم يديّ. ولا تمسكوها وتسحبوها، من شخص هنا وآخر هناك، لأنّ كَتِفي سينخلعُ وسوف أقتَل، فأنا أيضًا إنسان، لست ملاكًا. ولا تصرخوا فأُصاب بالصمم. سيروا إلى الأمام أيّها المسيحيّون. تقدّموا أيّها الكهنة القدّيسون والمرتّلون واهتفوا: «أيّها الملاك بالجِسم5

في الختام، لم يكن القّديس قوزما الإيتولي منيرًا غربيًّا، ولم يكن سَلَفًا لكورايس، بل كان منيرًا أرثوذكسيًّا. كان القصد من تعليمه وعمله هو أن يحثّ الناس إلى التوبة، وأن يعودوا إلى الله، ويطبّقوا تعاليم المسيح ويعرفوها، وأن يثابِروا على الحياة في الكنيسة.

إنّ تعاليم هذا الرسول العظيم للوطن وعمله البِشاريّ، وخاصة دمه المُراق تدعونا وتقول لنا: «أيّها المسيحيّون الأرثوذكسيّون، ابقوا أُمناء لتقليد آبائكم، اتّبعوا تعاليم المسيح والرّسل والآباء، واستخدموا التعليم الذي لا يتعلّق بهيمنة المنطق، والشهوانيّة، والتجريبيّة الفلسفيّة، أو الإلحاد والتكنولوجيا الجامِحة، لكن اشهدوا للكلمة المُعلَنة. يمكن لمثل هذا التعليم أن يحرّركم من عَوْلمة الثقافة وسطحيّة الحياة. يمكن لمثل هذا التعليم أن يحفظكم مع البشريّة، بل أيضًا أن يغيّر التقاليد الأخرى، الغربيّة والشرقيّة».

يا أبانا قوزما، ساعدنا جميعًا على أن نسير على خُطاكَ وأن نحتضنَ تعليمكَ الذي يعطي معنىً للحياة. آمين.


 

http://www.johnsanidopoulos.com/2015/08/saint-kosmas-aitolos-as-enlightener-of.html

1 عالم نفس اجتماعيّ أمريكيّ وأستاذ متقاعد في كليّة سوورثمور (Swarthmore College). وُلد عام 1934 في نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكيّة (المعرّبة).

2 أدامانتيوس كورايس أو كوريخس (باليونانيّة: δαμάντιος Κορας)‏، كان عالِمًا ومفكِّرًا يونانيًّا له الفضل في وضع الأسس للأدب اليونانيّ الحديث، وشخصيّة رئيسيّة في حقبة التنوير اليونانيّ الحديث. مهّدت نشاطاته الطريق لحرب الاستقلال اليونانيّة وظهور شكل مُهَذَّب للغة اليونانيّة، والمعروفة باسم كاثروفيوسا (Katharevousa). تؤكّد موسوعة بريتانيكا أنّ «تأثيره على اللغة والثقافة اليونانية الحديثة قد قورن مع تأثير دانتي (Dante) على الإيطالية ومارتن لوثر على الألمانية» (المعرّبة).

3 الربوبيّة (تعريب لكلمة Deism والمشتقة من الكلمة اللاتينيّة رب Deus)، هي مذهب فكريّ لادينيّ وفلسفيّ لاهوتيّ يؤمن بوجود خالق عظيم خلق الكون وبأنّ هذه الحقيقة يمكن الوصول إليها باستخدام العقل ومراقبة العالم الطبيعيّ وحده دون الحاجة إلى أي دين. معظم الربوبيين يميلون إلى رفض فكرة التدخل الإلهيّ في الشؤون الإنسانيّة كالمعجزات والوحي. الربوبية تختلف في إيمانها بالإله عن المسيحيّة واليهوديّة والإسلام والبهائيّة وباقي الديانات التي تستند على المعجزات والوحي حيث يرفض الربوبيّون فكرة أن الإله كشف نفسه للبشريّة عن طريق كتب مقدسة. ويرى الربوبيّون أنّه لا بدّ من وجود خالق للكون والإنسان فيختلفون بذلك عن الملحدين أو اللاربوبيّين بينما يتّفقون معهم في اللادينيّة (المعرّبة).

4 المذهب الطبيعيّ أو الفلسفة الطبيعانية هو «الفكرة أو المعتقد الذي يُشير إلى أنّ القوانين والقوى الطبيعيّة (في مقابل الخارقة للطبيعة أو الروحانيّة) هي الوحيدة العاملة في العالم بدون تدخّل أي إله». يُصِرّ أتباع المذهب الطبيعيّ (الطبيعانيّون) على أنّ القوانين الطبيعيّة هي القواعد التي تحكم أسُس وسلوك الكون الطبيعيّ، وأنّ الكون المتغيّر في كلّ مرحلة هو نتاج لهذه القوانين. المذهب الطبيعي هو أساس نظريّة التطوّر التي أنشأها داروين. (المعرّبة).

5 مطلع طروباريّة النبيّ إيليا التسبيتي (المُعرِّبة).