والدةُ الإله والصّوم

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان

عن نشرة الكرمة

العدد 31

الأحد 31 تمّوز 2022

الأحد السّابع بعد العنصرة

 

والدةُ الإله، هي والدةُ العريس، والفادي، والمخلّص. وليس الصّومُ قبل عيد رقادها، موجّهًا لإكرامها الشّخصيّ، بمقدار ما هو استعدادٌ للدّخول إلى أعمق ما في هذا السّرّ ، الّذي أدّته في عمل تدبير الله لخلاص البشر. إنّ صومها، يُهيّئنا للوقوف برهبةٍ أمام هذا العمل، إذ كان للعذراء الدّورُ الأكبرُ في إنجازه؛ إنّ صومها، يهيّئنا لمعرفة دورها في حياتنا، بصفتها والدة الإله، وشفيعةً، ومحاميةً، ومُعينة. ويظهر هذا في طروباريّة رقادها، الّتي نرتّل لها فيها: «... وفي رقادك ما أهملت العالم وتركته يا والدة الإله».

 

ما بلغته والدة الإله، لم ينزل عليها من فوق تلقائيًّا؛ بل جاهدت لاقتنائه. اختيارها من قبل الله، لم يكن أمرًا عشوائيًّا، أو اختيارًا مُبهمًا؛ إنّما لأنّها بلغت النّقاوة والكمال المقدّسَين، محقّقةً إيّاهما، بإرادتها الحرّة، وبإخضاع مشيئتها. وعلى قاعدة إرادتها الحرّة، اختارها الله؛ وعلى أساس ما حقّقته في جهادها الرّوحيّ هذا، أعطتها الكنيسة كلّ هذا الإكرام والتّمجيد.

 

لا يمكن لأحدٍ من البشر، أن يُخضعَ مشيئتَه بهذه القوّة، ويقولَ ما قالته مريم لله بهذه البساطة، لأمرٍ يفوق كلّ إدراك العقل البشريّ، إلاّ بعد جهادٍ عظيمٍ، وإنكارٍ كامل للذّات، وبلوغ حالةٍ قصوى من اللّاهوى، واتّحادٍ لا يوصَف للمشيئة البشريّة بالمشيئة الإلهيّة. لقد فاقت مريم في إيمانها إبراهيم وكلّ الأنبياء؛ لأنّها صدّقت أمرًا يستحيل تصديقه بشريًّا، فاستحقّت هذه النّبوءة: «طوبى للّتي آمنت أن يتمّ ما قيل لها من قِبل الرّبّ». من يعلم كم من الأصوام صامت والدة الإله، حتّى استطاعت أن تقول بهذه البساطة والسّهولة: «ليكن لي بحسب قولك». الكتاب المقدّس مملوءٌ شهاداتٍ عن أصوام رجال الله، قبل البدء بعملٍ إلهيٍّ يعملونه لخدمة سرّ تدبير الله للبشر. حقًّا، إنّ الصّوم يخلق فينا إرادةً مهيّأةً للطّاعة، وإخضاع المشيئة الذّاتيّة؛ لتتقبّل، وتعمل بسهولةٍ مشيئةَ الله. ما  قداسةُ القدّيسين سوى في أنّهم أخضعوا مشيئتهم، بملء إرادتهم، لمشيئة الله، وتَحدوا ذهنهم، عبر حفظ الوصايا، بذهن المسيح.

 

فالصّوم، يكشف طبيعةَ إنكار الذّات، لمسيرة الإنسان مع الله. لهذا أعطى الله الصّومَ، من البدء، كوصيّةٍ إلهيّةٍ تُعين الإنسانَ في مسيرته مع الله. وقد حفظَت كنيسةُ العهد الجديد هذه الحقيقَة، وشدّدت على أنّ الصّومَ جهادٌ روحيٌّ عظيمٌ، لتنقية الذّهن، وتطهير الإرادة. الصّوم، يرتبط بالصّراع ضدّ الأهواء: ثقلُ البطن، يؤديّ إلى بلادة الذّهن، وله تأثيرٌ مباشرٌ في ضغط الأفكار. الصّوم، يقود حتمًا إلى تهدئة أهواء الجسد، وهذه تنعكس مباشرةً على تهدئة هيجان الأفكار، ليصير مستطاعًا السّيطرة عليها. قوانين المجامع المقدّسة، وتقليد الآباء كلّه، شدّدت على أهميّة الصّوم. وهذا يكشف عن الطّبيعة النّسكيّة، لمسيرة الخلاص الأرثوذكسيّة. أولئك المقتنعون بمسيحيّةٍ أخلاقيّةٍ، لا يعنيهم الصّوم وكلّ الجهاد الرّوحيّ، فهم لا يحتاجون إليه في تصرّفاتهم اللّائقة اجتماعيًّا؛ أمّا الّذين همّهم تطهير إنسانهم الدّاخليّ، وبلوغ معاينة الله، فهم يعشقون الصّوم كعشقهم للصّليب؛ لأنّهم يعلمون أنّه لا يمكن أن يصيروا مسيحيّين بالفعل، من دونه. لهذا، تطبيق وصايا الإنجيل في عمقها، مستحيلٌ من دون صومٍ، وما يُرافقه من أشكال الجهاد الرّوحيّ الأخرى. المسيح، هو خبزنا الجوهريّ. ولكي نشبع من المسيح، علينا أن نزهد بكلّ طعامٍ مادّيٍّ آخرَ.

 

كلّ هذا الإيمان، والجهاد الرّوحيّ، امتزجا بحالةٍ من التّواضع لا توصَف. إنّ إخضاع المشيئة أيضًا، مستحيلٌ من دون تواضع. لهذا، قالت مريم بكلامٍ موحىً من الله: «لأنّه نظر إلى تواضع أمَته». هكذا يُعَدُّ الصّوم، الّذي يُمارَس بمعرفةٍ وتوبة، سحقًا لكبريائنا، ولأنانيّتنا. فالله لا يُنصت إلى صلاة المتكبّرين. ونحن حين نطلب، بصلواتٍ وأصوام، شفاعةَ والدة الإله والقدّيسين، نعبّر عن أقصى انسحاقنا، وعن عدم استحقاقنا لما نطلب. ولهذا، يستمع الربّ إلى صلاتنا المرفوعة لهم.

 

ظهور الملاك المفاجئ لوالدة الإله، وعدم اضطرابها من حضوره - إنّما من كلامه الغريب فقط - يُظهر حالةَ اليقظة الرّوحيّة الّتي كانت تحيا فيها؛ اليقظة الروحيّة الدّائمة، هي وليدةُ الأصوام المتواصلة، والصّلوات الّتي تجعل الذّهنَ في هدوئيّةٍ،  وذكرٍ متواصلٍ للرّبّ. يقول الكتاب إنّ مريم «كانت تحفظ كلّ هذه الأمور في قلبها». ويعتقد الآباء القدّيسون، أنّها كانت تحفظ كلّ هذا في صلاة القلب الدّاخليّة. لقد بلغت والدةُ الإله هذه الحالةَ السّامية من الصّلاة القلبيّة غير المنقطعة، في صمت قدس الأقداس. هناك درّبت ذهنَها على رفض الأفكار البشريّة، وتوجيه قوى النّفس كلِّها نحو خيرات الدّهر الآتي.

   

هذا الصّوم، الّذي يلد هذه البركات كلَّها، ارتبط بالتّوبة أيضًا. يقول القدّيس باسيليوس الكبير، إنّ التّوبة من دون صومٍ، هي عقيمةٌ. لهذا، لم يكن الصّومُ يومًا، عبئًا على الأرثوذكسيّ الّذي يعي مسيرة خلاصه؛ إنّما حاجة، ونعمة، وفي الوقت ذاته سلاح ضدّ هجمات الشّياطين كلّها. ليست التّوبة، الجهاد الرّوحيّ كلُّه، الّذي يتفعّل بالصّوم، هدفًا بحدّ ذاتها؛ بل لها ارتباطٌ وثيقٌ ببلوغ محبّة الله. مَن يُحبَّ الله، يزهدْ بكلّ شهوات هذا الدّهر ومغرياته، ويكفرْ حتّى بنفسه؛ لكي يكتمل حبُّه لله. هكذا أحبّت والدة الإله إلهَها وخالقَها، بعد صومٍ وإنكارٍ للذّات عظيمَين. وهكذا كلّ نفسٍ تجاهد وتصوم، تخترقها محبّةُ الله، ويدفعها عشقُها لله لأن تعيشَ حالةَ شكرٍ لا ينتهي للإله، الّذي أعطى الإنسانَ كلَّ شيءٍ، حتّى ذاته.

 

هكذا يصل الإنسانُ إلى الحرّيّة الكاملة، الحرّيّة المطلقة، الّتي تصير فيها نفسُه حرّةً من أيّ هوىً يستعبدها؛ حرّةً في أن تصنع ما تشاء، لكنّها تختار بملء إرادتها، كوالدة الإله مريم، أن تكون مكرّسةً، ومهيّأةً لإلهِها وخالقِها فقط.