الكنيسة والحياة الجديدة في المسيح

الأب جورج دوكوس

نقله إلى العربيَّة نديم سلُّوم

 

بالنسبة للقدّيس نيقوديموس الآثوسي يتمحوَر هدف الحياة الروحيّة وقصدها الكامل على حقيقة أنَّ الإنسان مدعوّ ليدنو من الله ويتّحد به. يتميَّز هذا الاتّحاد بأنَّه ذروة الحياة الروحيَّة والكمال المسيحيّ.

لكن الوحدة بين الله والإنسان لا تحدث بسبب بعض الإنجازات الفلسفيَّة أو النظريَّة، ولا ينشأ من فراغ. علاوة على ذلك، لا تتحقَّق الحياة الروحيَّة من خلال المجهود الشخصيّ الذي يقتصر على العالم المغلق الخاص للمرء أو الجهود أو التمارين الباطنيَّة المحرومة والمقطوعة من جسد الكنيسة.[1] وبالتأكيد لا يمكن وصف الحياة الروحيَّة كشكلٍ من أشكال الأخلاقيّات البيلاجيَّة[2] حيث يسعى الفرد للكمال الأخلاقيّ بينما يقتصر على قدراته الشخصيَّة. في الوقت نفسه لا يوجد شيء مثل التأليه «السحريّ» أو «الآليّ» في الحياة الروحيَّة حيث يخضع له الإنسان ببساطة من دون أيّ تفاعل. إنَّ الحياة الروحيَّة هي بالأحرى تفاعل مستمرّ بين نعمة الله والمشاركة الفعَّالة للإنسان فيها[3]. يستجيب الإنسان لنعمة الله مدركًا أنَّه من دونها لا يمكن تحقيق أيّ شيء[4]، وهذه حقيقة تحدِّد السياق الفريد التي تعمل فيه النعمة؛ أي أنَّ هناك علاقة ثنائيَّة الاتِّجاه بين محبَّة الله لخليقته وإرادة الإنسان الحرَّة. يشكِّل هذا السياق الحياة الجديدة التي أسَّسها يسوع المسيح في «الواقع الجديد»، «الخليقة الجديدة»، وهي كنيسة المسيح الأرثوذكسيَّة والتي تنكشف بشكلٍ خاصٍّ من خلال أسرارها المقدَّسة.

على الرغم من أنَّ القديس نيقوديموس يناقش على نطاقٍ واسعٍ ضرورة النسك والصلاة وطاعة الوصايا وقراءة الكتاب المقدَّس وتنمية الفضائل وكلّ شيء آخر ضروريّ للنموّ الروحيّ للإنسان، إلاَّ أنَّه يؤكِّد أنَّ الهدف الرئيس لكلّ هذه الأمور هو اتِّحاد الإنسان مع الله والمحافظة على النعمة التي حصل عليها في المعموديَّة وتعزيزها، وتنمية مواهب الروح القدس التي حصل عليها في الميرون. وبالمثل، فإنَّ هدف التوبة والاعتراف هو استعادة نعمة المعموديَّة المفقودة. من الواضح إذًا أنَّه لا يوجد مفهوم فرديّ عن اتِّحاد الإنسان مع الله أو مع رُفَقائه المسيحيِّين، تمامًا كما لا يوجد اتِّحاد حقيقيّ بين الله والإنسان دون المشاركة في جسد المسيح ودمه الثمينَيْن، مع افتراض الاستعداد المناسب، وفقًا للقدّيس نيقوديموس. علاوة على ذلك، تساعد الأسرار المقدَّسة وتجمع جميع الجوانب المنفصلة لحياة الإنسان الروحيَّة وتجدِّده في كيان نفسيّ - جسديّ موحَّد. على سبيل المثال، وفقًا للقديس نيقوديموس، فإنَّ سرَّ الاعتراف المقدَّس ليس فقط اعترافًا لفظيًّا بالخطايا وطلب المغفرة رغم أنَّهما عنصران مهمَّان للسرِّ. يخوِّل هذا السرُّ التائبَ أن يجاهد ضدَّ الخطيئة ويمنحه نعمة حفظ الوصايا وتحويل الأهواء إلى فضائل. كما يربط القدّيس الصلاة بالمعموديَّة والميرون في عدَّة أماكن ضمن أعماله مؤكِّدًا أنَّ بريق الروح القدس المغروس في القلب والذي تستره الأهواء والخطايا (دون أن تطفئه) يتجدَّد من خلال الصلاة – لا سيَّما الصلاة القلبيَّة أو صلاة يسوع.

 

عن كتاب «الروحانيَّة الأسراريَّة عند القديس نيقوديموس الآثوسي»

من الفصل الأول «الكنيسة كمكان الحياة الروحيَّة»

 

[1]  بالرغم من أنَّ النسك الشخصيّ هو جزء لا يتجزَّأ من الحياة الروحيَّة، من المهم أن نلاحظ أنَّ الإنسان كعضوٍ في الكنيسة لا يُعتَبَر كيانًا منعزلاً ولكنَّه في شركة مع أعضاء الكنيسة الآخرين. ويرجع هذا بشكلٍ خاصٍّ إلى مشاركته في الحياة الأسراريَّة للكنيسة وعبادتها حتَّى عندما يعيش في النسك في أقصى الصحراء. في هذا السياق تتمُّ الحياة الروحيَّة: "في الأسرار وخاصةً في الإفخارستيَّة المقدَّسة حيث تُمنَح القدرة العجيبة لاتِّحاد البشر الفريد والحقيقيّ". Anestis Keselopoulos, “Loneliness as an Existential and Pastoral Problem”, Propositions of Pastoral Theology (Thessaloniki: P. Pournaras. 2003) 304.  ويقول الأب جورج فلوروفسكي: هناك ثنائيَّة جوهريَّة في الوجود المسيحيّ. تقوم المسيحيَّة على أساس الإيمان والالتزام الشخصيّين ومع ذلك فإنَّ الوجود المسيحيّ في جوهره شركة (جماعة): أن تكون مسيحيًّا يعني أن تكون في المجتمع وفي الكنيسة وللكنيسة... إنَّ الوجهيْن للوجود المسيحيّ – الفرديّ والجماعيّ – مرتبطان ببعضهما البعض على نحوٍ غير منفصلٍ. يخلص المرء فقط في الجماعة ومع ذلك يتحقَّق الخلاص دائمًا من خلال الإيمان الشخصيّ والطاعة." “The Worshipping Church,” The Festal Menaion, ed. Mother Mary and Archimandrite K. Ware (London: Faber and Faber, 1977) 21 – 22.

[2]  نسبة لبيلاجيوس الذي رفض عمل النعمة في خلاص الإنسان وقال إنَّ المرء يخلص بفضل جهاداته الخاصة (المعرِّب).

[3]  من دون نعمة الله ستمكث إرادة الإنسان عاجزة. مع ذلك فإنَّ فعاليَّة النعمة والرحمة الإلهيَّتيْن تفترض موافقة الإنسان والجهاد الروحيّ المستمرّ للمسيحيّ  اللذَيْن لا يمكن فصلهما عن الكنيسة وأسرارها". Methodical Anticipations of Pastoral Theology (Thessaloniki: Mygdonia, 2000) 126. Cf. St John Chrysostom, On Matthew 82.4 (PG 58, 742 – 743)

[4]  "إنَّ الله هو الذي يبدأ والله الذي ينهي كل خير" القديس نيقوديموس الآثوسي، التمارين الروحيَّة، 383. وأيضًا يقول: "بشكلٍ عام مهما تفعل من الأعمال الصالحة يا أخي وبقدر ما تقوله من الكلمات الطيِّبة فلتثق أنَّك فعلت وقلت هذه الأمور بقوَّة المسيح ونعمته... ولكن بعد أن قلنا هذه الأمور، فإنَّنا نعترف بالتالي: لا تكفي معونة الله وحدها لخلاصنا ولكن يجب أن تتَّحد جهودنا معها أيضًا. لا هذه ولا تلك قادرة أن تخلِّصنا بل الاثنتَيْن معًا. New Ladder, 275. Cf. John15: 15 and Philippians 2: 13 and 1: 6