للأرشمندريت غريغوريوس اسطفان
عن نشرة كنيستي، العدد 28، في 10 تمّوز 2022
تكشف حادثةُ قائد المئة، وطلبُه شفاءَ غلامِه، دورَ الإيمان في مسيرة الخلاص بالمسيح. ما هذا الإيمان بالمسيح؟ الإيمانُ، هو أوّلاً الثّقة المطلقة، والرّجاء المطلق بالإله الّذي نؤمن به. هذا ما يجعل الإيمانَ مسيرةَ تسليمٍ، يُخلي فيها الإنسانُ ذاتَه عبر تخلّيه عن مشيئته، وعن قناعاته الخاصّة؛ فيسلّمها لله، بروحٍ خاليةٍ من أيّ شكٍّ، أو تذمّر. إلّا أنّ هذا كلّه، ليس أمرًا سهلًا؛ إنّه يحتاج إلى إنكارٍ كبيرٍ لمحبّة الإنسان لذاته، ومقاومة كلّ ما يُغذّي أنانيّتَه. اللهُ، هو الّذي بادر أوّلاً وأخلى ذاته؛ هو الّذي أعطى ذاته أوّلاً، كاشفًا إيّاها للإنسان، ليستطيعَ هذا الأخير، بوساطة الإيمان، بلوغَ معرفة الله، ومعاينةَ ما كشفه اللهُ، عن سرّ وجوده، وسرّ خليقته. الله يعطي ذاته للّذين يفتحون قلوبَهم بالإيمان، ويستجيبون بإرادتهم الحرّة لعطائه؛ أمّا أولئك الّذين يُهملون الإيمان، ويتّكلون على أعمالهم الحسنة فقط، ليعرفوا الله، فستكون معرفتُهم بشريّةً بالكامل: يعرفون شيئًا عقليًّا عن الله، لكن لن يعرفوه أبدًا كما هو. لا توجد لأعمال الإنسان، مكافأةً خاصّةً؛ إنّما تكتسب معنىً، وتُرضي الله، حين تُتمَّم عبر قوّة الإيمان المستقيم به.
كلّ شيء يبدأ بالإيمان، الإيمانِ الحقيقيّ الّذي يكشف اللهَ، وكلَّ الحقيقة المتعلّقة به. هذه حقيقةٌ، لا يمكن أن يفهمَها إلّا الّذي امتلك هذا النّوعَ من الإيمان. يقول الذّهبيّ الفم: »حتّى الإيمان ليس منّا؛ بل هو عطيّةٌ من الله. واللّهُ، هو الّذي يضع الإيمان فينا، ويعطينا نقطةَ الانطلاق«. نقطةُ الانطلاق هذه، هي على صعيدين: الصّعيد الشخصيّ، من خلال جهاد الإنسان للنّموّ في الإيمان؛ فالإيمان يحتاج إلى نسكٍ، وتعبٍ روحيٍّ، ليتنقّى من أنانيّة الإنسان. والصّعيد العامّ، من خلال تجسيد هذا الإيمان مع إخوتنا البشر. فالله أخذ طبيعتَنا، وربط نفسَه، في الإنجيل، بكلّ فردٍ من أفراد جنسنا.
ليس الإيمانُ الكاملُ، أن يؤمن الإنسان بحقيقة وجود الله فقط، وأنّه قادرٌ على كلّ شيءٍ؛ إنّما هو إيمان الإنسان بأنّه قادرٌ أن يطلب من الله كلّ شيء. هكذا كان إيمان قائد المئة. فبثقتِه - وهو غريبٌ عن كلّ المواعيد الخلاصيّة الّتي وعد اللهُ بها شعبَه، بأنّ المسيح يُبرئ الغلامَ بكلمةٍ واحدةٍ فقط – قد أظهر إيمانًا عظيمًا، لم يجدْه المسيحُ لدى الشّعب العبرانيّ نفسه؛ هذا الشّعب الّذي تعب معه ابنُ الله، على مدى قرونٍ كثيرةٍ، من إبراهيم إلى زمنه، إضافةً إلى عجائبَ وآياتٍ لا تُحصى، صنعها اللهُ معه. بالرّغم من هذا، لم يلقَ الرّبّ من العبرانيّين، سوى الشكّ والارتداد.
لقد عدّ قائدُ المئة نفسَه إنسانًا سيّدًا، كالمسيح الرّبّ والسّيّد، حين قال له: »لأنّي أنا أيضًا إنسانٌ تحت سلطانٍ، لي جندٌ تحت يديّ... «لكنّه كان يعرف نفسَه جيّدًا، أنّه سيّدٌ بسلطةٍ أرضيّةٍ، ليست قادرةً على أن تحرّك أيَّ شيءٍ يفوق محدوديّةَ الطبيعةِ المخلوقة. وعرف أيضًا، أنّ المسيح، بسلطانه الإلهيّ، أسمى بكثيرٍ من سلطانه البشريّ، وقادرٌ على أن يشفيَ، ويُقيمَ الموتى، ويُحرّكَ الجبال.
إنّ قوّةَ إيمان قائد المئة بالمسيح، كان سرّها التّواضع؛ التّواضع، هو الّذي جعله يعدّ نفسَه غيرَ مستحقٍّ دخولَ المسيح حتّى إلى بيته الأرضيّ؛ تواضعُه، هو الّذي دفعه لينكرَ ذاتَه، ومكانتَه، وسلطتَه، ويأتيَ كعبدٍ يطلب الشّفاء، لغلامٍ في بيته؛ التّواضع، هو الّذي حرّك إنسانيّتَه، ومَلأها نعمةً خاصّةً، لتتألّمَ مع المتألّمين، وتفرحَ مع الفرحين. نقاوةُ الإيمان، تحتاج تواضعًا كثيرًا: التّواضع، يُعطي الإيمانَ قوّةً، لتتّكلَ النّفسُ على الله، أكثر من اتّكالها على ذاتها؛ التّواضع، يجعل تسليمَ الإنسان ذاتَه للمسيح، مستطاعًا. مثل هذا، يستحقّ أن يدخلَ المسيح، لا إلى بيته الماديّ فقط؛ إنّما إلى بيت قلبه الدّاخليّ أيضًا، ويُحقّقَ له حاجاتِه من الخيرات المادّيّة، والرّوحيّة.
كثيرٌ من الغرباء عن المواعيد والأنبياء، سيأتون من المشارق والمغارب، ويتّكئون مع إبراهيمَ، وإسحقَ، ويعقوبَ في ملكوت السّماوات، وهم الّذين آمنوا بالمسيح من كلّ الأمم، تاركين، مثل إبراهيم، اعتقاداتِهم القديمة، ومشيئتَهم، إلى أرضٍ تدرّ نعمةً وحقًّا. كلّ إنسانٍ في هذا العالم، له إيمانه الخاصّ. وأكثرهم - رغم أنّهم في الظّاهر يؤمنون بإلهٍ ما - يؤمن في الواقع بذواتِهم، وبأفكارِهم، وبحكمتِهم، وبمشيئتِهم. هناك إيمانٌ واحٌد حقيقيٌّ في هذا العالم، وحدَه يمكن أن يُسمّى إيمانًا، يقود إلى الإله الحقيقيّ الواحد، إيمانِ ابن الله؛ إيمانٌ يُنكر فيه الإنسانُ حكمتَه، ومشيئتَه بالكليّة، ليصلَ إلى الحقيقة الوحيدة، الّتي تنزل من عند الله حصرًا. النّفس الّتي لا تحمل إيمانًا مُعطىً لها من فوق - هي نفسٌ لا يسمّى إيمانُها إيمانًا، أو بالأحرى يكون إيمانًا يولد ميّتًا؛ لأنّها تستمدّه من ذاتها، ومن قناعاتها العقليّة، ومن روح هذا العالم الّذي هدفه هو جعلُ كلّ إنسانٍ إلهًا، إلهًا من ذاته، وليس من الإله الحقيقيّ.