التّدبير في الكنيسة

(نديم سلُّوم)

 

ينقسم العمل القانونيّ - الرّعائيّ في الكنيسة إلى شقَّين: الدّقَّة (أكريفيَّا) والتّدبير (الإيكونوميَّا). التّدبير، هو الإدارةُ، أو الإشرافُ على أمرٍ ما، وترتيبُه، وتوجيهُه بشكلٍ محدَّدٍ؛ أمَّا الدقَّة، فهي الانضباط، والصّرامة، وتنفيذ أمرٍ ما بحذافيره. على هذا، الدّقَّة هي التّطبيق الحرفيّ للقوانين الكنسيَّة؛ أمَّا التّدبير، فهو المراعاة في تطبيق هذه القوانين؛ ولكن، لماذا يُستعمل التّدبير أحيانًا في المسائل الكنسيَّة، بدلاً من الاعتماد على الدّقَّة فقط، أيًّا كانت الظّروف؟

 

ينصُّ القانون 102 من المجمع الخامس – السّادس- المعروف بمجمع ترولو- إنّه: "يجدر بالذين تلقوا من الله سلطان الحل والربط أن ينظروا إلى نوع الخطيئة وإلى استعداد الخاطئ للرجوع وأن يستعملوا الدواء النافع لكل مرض لئلا يؤدّي عدم مراعاة الاعتدال في كل حالة إلى الخيبة في شفاء الإنسان المريض وإعداده لقبول الخلاص. إنَّ أمراض الخطيئة مستعصية ومتعددة الأنواع ينشأ عنها مضاعفات مختلفة مؤذية وخبيثة في كثرة ما يتفرّع عنها من الشرور. وهي تمتد وتزيد استعصاءً حتى يعسر على الطبيب الخبير أن يضع لها حدًّا. ولذلك فعلى كل مَن يتعاطى وظيفة الطبيب الروحي أن يأخذ بعين الاعتبار استعداد الواقع في الخطيئة وموقفه وأن يتحقَّق من مقدار قبوله للشفاء أو إذا كان سلوكه الشخصي قد أدَّى إلى استيلاء الداء على نفسه، وعليه أن يدرس الخطط التي تساعده على العناية بتجرد سيرته أثناء المعالجة. وكذلك يجب عليه أن يفحص لعلَّ الخاطئ يقاوم معالجة الطبيب فتؤدي العلاجات إلى تمكن العلة واتِّساع القرحة في النفس. فينظر إليه بالرحمة ويستعمل الأدوية بالحكمة وبمقدار لأنَّ الذي سُلّمت إليه سلطة الرعاية ليردَّ الخراف الضالة ويشفي التي لسعتها الحية سيقدِّم الحساب كله لله، إذ عليه أن يقود الخراف فلا تتدهور في مهاوي اليأس ولا يرخي لها العنان فتنطلق إلى سبل الإباحة والاستهتار. فهو يستعمل هذه الطريقة أو تلك آنًا بالصرامة وأحيانًا باللين والعلاجات اللطيفة. فيحول بالحكمة دون أن يصير المرض عقامًا والقرحة غير قابلة الشفاء، فاحصًا دومًا ثمار توبة الخاطئ وبحسن الدراية يقوده إلى الاستنارة العلوية. ويجب أن نختبر الحالين وندرس الخطتين معًا، أي ما يحتاج إلى الشدَّة والصرامة وما تقضي به العادة وأن نتبع الخطة التقليدية في أمر الذين لم يصلوا بعد لما هو أسمى كما يعلِّمنا القديس باسيليوس"[1]. هذا القانون الكنسيّ، يشرح لنا هويَّة الكنيسة على أنَّها مستشفىً روحيٌّ، همُّه مداواة الإنسان. الكنيسة، تعالج كلّ إنسان على حدةٍ، وتُعطي له العلاجَ المناسبَ لشفائِه. يجب مراعاة الإنسان التّائب، ومعرفة ما المطلوب لمداواته من خطيئته، كما رأينا في القانون أعلاه في أماكن عدَّة. يطلب منَّا هذا القانون، أن نكون حذرين في تطبيق القوانين؛ لأنَّها وضِعت لإنقاذ الإنسان، لا لقتله.

 

هذا القانون، مهمٌّ جدًّا؛ لأنّه يُظهر الخاصّيَّة العلاجيَّة لكلّ قوانين الكنيسة المقدَّسة: فالقوانين الكنسيَّة، المبنيَّة على أسُسٍ لاهوتيَّةٍ، هي في خدمة أعضاء الكنيسة، وذلك من أجل شفائهم. إذن، فالقانون الكنسيّ هدفُه الأساسيّ، حسنُ اتِّحاد الإنسان بالمسيح الإله المتأنِّس، عبر مساعدته في امتلاك المتطلِّبات اللّازمة، للاشتراك في الأسرار الإلهيَّة. فالقوانين، هي التطبيقُ العمليُّ لعقائد الكنيسة. يجب ألّا ننسى، أنَّ القوانين الكنسيَّة، هي لاهوتيَّةٌ وذات طابعٍ رعائيٍّ، لهذا فهي متمركزةٌ حول المسيح، وليس حول الإنسان: القوانين الإلهيَّة والمقدَّسة ليست أوامر بشريَّة ولكنَّها عمل الروح كليّ القداسة، وبلوَرها آباء كنيستنا الملهمون من الله في مجامع مسكونيَّة ومحليَّة. ليس لأي أحد الحق في نبذ القوانين المقدَّسة تحت ادِّعاء الحريَّة الشخصيَّة"[2].

إنَّ محبَّة الآباء لرعاياهم، جعلتهم يسنُّون القوانين من أجل شفائهم. لقد عاشوا محبَّة المسيح، واختبروها، والآن هم ينقلون هذه الخبرة إلى خراف المسيح النّاطقة. على هذا، "لا يستطيع أحد أن يعطي الأولويَّة لما يسمَّى ‘محبَّة’ على حساب القوانين الكنسيَّة، كما لو كان الآباء القديسون الذين وضعوا هذه القوانين لم يكن لديهم محبَّة"[3]. إنَّ الرّوح القدس، هو الّذي يصوغ القوانين عبر الآباء الّذين امتلكوه، جرّاء إيمانهم، وجهادهم الرّوحيّ. من خلال ممارسة هذه القوانين، وتطبيقِها، تَظهر محبَّة المسيحيّين لله؛ لأنَّها تصبح وصايا من الله ذاته: "من يحبُّني يحفظ وصاياي" كما يؤكِّد القانون الأوَّل من المجمع المسكونيّ السّابع[4].

إن كان يجب علينا تطبيق القوانين بدقَّةٍ، فلماذا يُستعمل التّدبيرُ إذن؟ بدايةً، يجب أن نؤكِّد أنَّه: "فقط الشخص الذي يحترم ويقدِّر القوانين له السلطان والصلاحيَّة لتخفيفها من أجل خلاص أخيه"[5]. هذا يعني أنَّ هناك مبدأَين لاستعمال التّدبير. أوَّلاً، على الأسقف، أو الكاهن، أن يمتلك «معرفةً دقيقةً لقوانين الكنيسة... واقتناء حياةٍ روحيَّةٍ، تؤهِّله لاقتناء فكر، وروح أولئك القدّيسين، الّذين على يدِهم وُضعت هذه القوانين»[6]. وثانيًا، هدف كلّ عملٍ تدبيريٍّ، هو خلاص الإنسان.

 

فلنأخذ مثالًا على ذلك. نقرأ في سفر أعمال الرّسل، أنَّه من بعد انتهاء مجمع أورشليم - الّذي اتَّخد قرارًا بمنع ختانة الوثنيّين الرّاغبين باعتناق المسيحيَّة - أخذ الرّسول بولس تيموثاوسَ (اليهوديّ من جهة أمِّه، واليونانيّ، أي وثنيّ، من جهة أبيه) وختنه من أجل اليهود الّذين في الأماكن (أع16: 3). خالَفَ بولسُ الرّسول، الرّجلُ الأوَّل المطالِب بمنع ختانة الأمم، قرارَ مجمع أورشليم بمنع ختانة الوثنيّين. ما الّذي حصل هنا؟ استعمل بولسُ الرّسول التّدبير. على الرّغم من أنَّ الختان غير لازمٍ للخلاص، لكنَّه كان لا بدَّ منه من أجل كسب اليهود، وجذبهم إلى الخلاص، إلى الإيمان بيسوع المسيح، كما يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم.[7] إذن، بولس الرّسول، كان يمتلك معرفةً دقيقةً لقوانين الكنيسة في حينها، بما أنَّه «المهندس» لقانون عدم الختانة، وكلّ عمله التبشيريّ، هدفه تعريف البشر بيسوع المسيح الإله – الإنسان، وخلاصهم.

 

تمنع القوانينُ الكنسيَّة الصّلاةَ مع الهراطقة[8]: فالصّلاة المشتركة، تتطلَّب إيمانًا مشتركًا. لكنّ البعض يسأل، لماذا لا يمكن استعمال التّدبير هنا؟ لكن كيف يمكننا أن نستعمل التّدبير، ونحن نصلِّي إيمانيًّا بشكلٍ خاطئٍ. إنَّ الّذين هم خارج الكنيسة الأرثوذكسيَّة، يؤمنون بمسيحٍ مختلفٍ، ومشوَّهٍ. فكيف سنسعى إذن، لشفائهم، وخلاصهم، إن نحن تنازلنا عن إيماننا الحقيقيّ، واشتركنا بعبادة «معبودٍ آخرَ» (مز16: 4) بحجَّة التّدبير؟ فأيّ روحانيَّةٍ ممكن أن يكتسبَها الأرثوذكسيُّ، إذا صلَّى لإلهٍ غريبٍ لا يعرفه، ولم يعرفْه آباؤُه قطّ؟

 

«السّبتُ، إنَّما جُعِل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السّبت» (مر2: 27). هذا هو المفهوم الأرثوذكسيّ للتّدبير الكنسيّ. فالكنيسة الأرثوذكسيَّة ليست كنيسةً حقوقيَّةً. القوانين، جُعِلت في خدمة الإنسان وليس العكس؛ القوانين، جُعِلت في خدمة الإنسان لكي تشفيَه، وتخلِّصَه. وأيّ استعمالٍ للتّدبير خارج منطلق خلاص الإنسان، أي من دون تمييزٍ، أو من أجل مسايرة روح هذا العالم وميوعته - يُعَدّ باطلاً. لا يُمكن أبدًا استخدام التّدبير في الأمور الإيمانيَّة، والمصطلحات العقائديَّة. عندها يصبح خلاص الإنسان، مهدَّدًا. المطلوب، اكتساب نعمة التّمييز الّتي تسمح للإنسان بمعرفَة متى يستعمل التّدبير، أو الدقَّة من أجل خلاص أخيه، كما رأينا في القانون 102 من المجمع المسكونيّ الخامس – السّادس. إنَّ نعمةَ التّمييز، الّتي يكتسبها الإنسان بعد جهدٍ طويلٍ، هي الّتي تتيح استعمال التّدبير مع الحفاظ على روح القانون.

 

[1] مجموعة الشّرع الكنسيّ، ص610 – 611.

[2] المطران إيروثاوس فلاخوس، الرّهبنة الأرثوذكسيّة كطريقة حياة للأنبياء والرّسل والشّهداء، ص153.

[3] المطران إيروثاوس فلاخوس، الرّهبنة الأرثوذكسيّة كطريقة حياة للأنبياء والرّسل والشّهداء، ص154.

[4] انظر: الشّرع الكنسيّ ص809.

[5] المطران إيروثاوس فلاخوس، علم الطّبّ الرّوحيّ تفعيل الطّبّ النّفسيّ الأرثوذكسيّ، ص281.

[6] الأرشمندريت غريغوريوس إسطفان، سرّ الكهنوت سرّ تقديس الكاهن والكنيسة والعالم، ص258.

[7]St. John Chrysostom, homilies on the acts of the apostles, p 338.

[8] راجع قوانين الرّسل 10 و11، الشّرع الكنسيّ ص852.