القدّيس بولس الرّسول كنموذجٍ لحياتنا

المتقدِّم في الكهنة جورج بابافرنافاس.

نقله إلى العربيَّة: نديم سلّوم.

 

إنَّ الحقائق الأساسيَّة لحياة بولس الرّسول - معروفةٌ: كغيرته على تقاليد آبائه، واهتدائه العجائبيّ إلى المسيح، ورحلاته، ومعاناته. ولعلَّ ما هو معروفٌ، عنه بدرجةٍ أقلّ، هو جهاده النسكيّ، وحربه الرّوحيَّة، وحياته الدّاخليَّة الّتي كانت مخفيَّةً عن أعيُن العالم؛ لأنَّها كانت «مستترة مع المسيح في الله» (كولوسي3: 3). ومع ذلك، فقد أشار هو نفسه، من خلال بعض التّلميحات، إلى أسلوب حياته النّسكيِّ، قائلًا إنَّه يَقسو على جسده، ويقمَعُهُ، ويستعبده «لكيلا أصير غيرَ مؤهَّلٍ» (1كور9: 27). كان موضوع خلاصه، يشغله بشدَّةٍ. وأظهر حقًّا أنَّه كان خائفًا من فكرة أنَّ الآخرين، ربّما سيخلصون من خلال وعظه، وعجائبه، ومع ذلك سيبقى هو خارج «المخدع الزّوجيّ». إنّ مرض جسده العُضال، جعله يفكّر من هذا المنظور. لقد عَدَّهُ نعمةً وعطيَّةً، من محبَّة الله، وقد أُعطيَ له لحمايته من السّقوط في هوى الكبرياء العظيم، من جرَّاء المعجزات العديدة الّتي قام بها، وكذلك الإعلانات الّتي أُعطيت له.

بعد ظهور المسيح له، ومعموديَّته من قبل حنانيا الرّسول، لم يستعجل في الوعظ؛ بل ذهب إلى الصّحراء العربيَّة، حيث مكث ثلاثَ سنواتٍ في النّسك، والصّلاة. بعد أن تذوَّق حلاوةَ ثمرة الصّحراء - أي السّلام الداخليّ وتنقية القلب من الأهواء - سار بإيحاءٍ من الرّوح القدس، وبركة الكنيسة إلى الأمم؛ ليبشِّر بالإنجيل. في سفر أعمال الرّسل - الّذي كتبه زميلُه، ورفيقُه، وصديقُه الحبيب، لوقا الإنجيليّ الطّبيب - وفي رسائله، يرى القارئ رحلاتِه وجهادَه، وقلقَه، واستشهادَه اليوميّ.

كان رسولاً وناسِكًا، عاش رسالتَه في شكلها الأصيل. كان مبشِّرًا وهدوئيًّا في الوقت ذاته، حسبَ المعنى الأرثوذكسيّ للكلمة. عمل بمهارةٍ، على نفقته الشخصيَّة، من أجل النّسك، حتَّى لا يكونَ عِبئًا على أحد. امتلك الصّلاة النّوسيَّة غيرَ المنقطعة، الّتي هي حلاوة الهدوئيَّة. الهدوئيَّة في لغة اللّاهوت الأرثوذكسيّ، تعني حراسةَ الحواسّ والصّلاة النّوسيَّة، والجهادَ ضدَّ الأفكار. تختبر الهدوئيَّةُ الصّلاةَ المتواصلة، وتحثُّنا على مُمارستها. عندما تتقوّى (أو تتفعّل) الرّوح، بنعمة الله، عندها يكون المرءُ قادرًا على الحفاظ على الصّلاة، وعلى السّلام الدّاخليّ، حتَّى في مكانٍ مليءٍ بالضّوضاء. وإلاَّ، فإنَّه حتَّى في أكثر الأماكن هدوءًا، لا يمكن للمرء أن يجد راحةً؛ بل سيشعر بوحدةٍ لا تُطاق، وسينقل ضوضاء المدينة معه حيث يذهب. وبدلًا من تذوُّق ثمار الهدوئيَّة، تزداد أتعابُه، وأعباؤه.

يؤدِّي طريقُ الحياة الهدوئيَّة، إلى إيجاد مغزىً للحياة الروحيّة، والنّموّ فيها. اعتمادًا على كيفيَّة مواجهة المرء للعديد من المشاكل الّتي تنشأ يوميًّا، لا سيَّما المشاكل الكبيرة والمُلِحَّة، يكشف طريقُ الحياة الهدوئيَّة عن حالتك الداخليَّة، وعن نهج تفكيرك، وطول عمرك الروحيّ الّذي لا يتوافق دائمًا مع عمرك البيولوجيّ.

عند دراسة حياة بولس الرّسول ورسائله، يرى المرء كيف عالج الرّسولُ المشاكلَ نفسَها بطرائقَ مختلفةٍ، حسبَ عمره الرّوحيّ. مثلاً، مسألة التّهجُّم عليه، والافتراءات ضدَّه، واجتهادات بعض الرّسل الكذبة الذين قالوا إنَّه أدنى من الرّسل الآخرين الذين رأَوا المسيح، وعاشوا بقربه، خلال سنوات حياته على الأرض. لقد واجه ذلك، في بداية رحلاته الرّسوليَّة، على نحوٍ مختلفٍ ممَّا واجهه لاحقًا، في النّهاية: في البداية، دافع عن موقعه الرّسوليّ، وقال إنَّه رسولٌ؛ لأنَّه لم يكن ينقصه شيءٌ عن الرّسل الآخرين، حتّى إنّه كان يفرح بفكرة أنّه أعظم منهم؛ بما أنَّه عمل أكثر من الآخرين: «َهُمْ عِبْرَانِيُّونَ؟ فَأَنَا أَيْضًا. أَهُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ؟ فَأَنَا أَيْضًا. أَهُمْ نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ؟ فَأَنَا أَيْضًا. أَهُمْ خُدَّامُ الْمَسِيحِ؟ أَقُولُ كَمُخْتَلِّ الْعَقْلِ، فَأَنَا أَفْضَلُ: فِي الأَتْعَابِ أَكْثَرُ، فِي الضَّرَبَاتِ أَوْفَرُ، فِي السُّجُونِ أَكْثَرُ، فِي الْمِيتَاتِ مِرَارًا كَثِيرَةً. مِنَ الْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِالْعِصِيِّ، مَرَّةً رُجِمْتُ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفِينَةُ، لَيْلاً وَنَهَارًا قَضَيْتُ فِي الْعُمْقِ. بِأَسْفَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، بِأَخْطَارِ سُيُول، بِأَخْطَارِ لُصُوصٍ، بِأَخْطَارٍ مِنْ جِنْسِي، بِأَخْطَارٍ مِنَ الأُمَمِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْمَدِينَةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَرِّيَّةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَحْرِ، بِأَخْطَارٍ مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ. فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ، فِي أَسْهَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ، فِي أَصْوَامٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ. عَدَا مَا هُوَ دُونَ ذلِكَ: التَّرَاكُمُ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ، الاهْتِمَامُ بِجَمِيعِ الْكَنَائِسِ... قَدْ صِرْتُ غَبِيًّا وَأَنَا أَفْتَخِرُ. أَنْتُمْ أَلْزَمْتُمُونِي! لأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أُمْدَحَ مِنْكُمْ، إِذْ لَمْ أَنْقُصْ شَيْئًا عَنْ فَائِقِي الرُّسُلِ، وَإِنْ كُنْتُ لَسْتُ شَيْئًا» (2كور11: 22 – 28، 12: 11). اعترف لاحقًا، ببساطةٍ، أنَّه رسولٌ مثل البقيَّة، وأنَّه رأى المسيحَ أيضًا. أخيرًا، وفي مرحلة نُضجِه الروحيّ، لم يدافع حتَّى عن موقعه الرّسوليّ، ولم يقدِّم أيَّ أعذارٍ، أو افتخارٍ؛ بل على العكس، قال إنَّه لا يستحق أن يُدعى رسولاً؛ لأنَّه اضطهد كنيسةَ المسيح (1 كور15: 8 - 9) حتَّى إنّه يسمِّي نفسَه جَنينًا مُجهَضًا (1 كور 15: 8).[1]

يساعد طريق الحياة الهدوئيَّة، كما تختبره الكنيسةُ الأرثوذكسيَّة، على اكتساب السّلام الداخليّ، والنّضج الرّوحيّ؛ فيعالج بهذا مشاكلَنا اليوميَّة، لا سيَّما المشاكلُ الكبيرةُ والملحَّة.


https://www.johnsanidopoulos.com/2014/06/saint-paul-apostle-as-model-for-our.html

 

[1]  يعتبر الكاتب أنَّ الرسالة الثانية إلى كورنثوس مكتوبة قبل الرسالة الأولى (المعرِّب)