قيامة المَسيح

نقلها الى العربيّة: الياس الأشقر

 

إننا مدعوون جميعًا إلى المشاركة مع الشاروبيم والسيرافيم والعروش والأرباب والسلطات والرئاسات والملائكة ورؤساء الملائكة، عوضًا عن الأرواح التي مَجَّدَتْ ذاتها وسقطت. فهؤلاء قد مَجَّدوا ذواتهم وقالوا في أنفسهم لله هكذا: كيف ستتمكَّنُ من التعويض عن نقصنا الذي لا يمكنكَ أن تُطيقَه وهو معلومٌ عندكَ، بما أنَّكَ الكُلِيِّ الحكمة، ولا تُجيزُ النقص أو الالتباس في أي مكانٍ في عالمِهِ أجمع؟ (القديس يوحنا كرونشتادت، حياتي في المسيح).

...ولكنَّ حكمة الله وقدرته غير محدودتَين. فهناك أكوانٌ لا عدد لها، فائقة الجمال والبهاء ومرصَّعةٌ بالنجوم، مِمّا رَسمت يدُ اللهِ، منثورةٌ في الفضاء اللامُتَناهي. وفي وسط هذا الكون الهائل يوجد بقعة تائهة - الأرض. ومن العدم والغبار والهباء الذي فيها، يبرز مخلوقٌ جديدٌ، وهو الإنسان، مع عطيَّةِ مِثال اللهِ النَّفيسة[1].

عندما بلغ العالَم القديم الذي قَبْلَ المسيح مرحلةَ الاستعداد لاقتبال المسيح، أرسل الله ابنه الوحيد إلى العالم ليُصيِّرَ البشر كائناتٍ سماويةً. العالَم المسيحيّ هو جماعةٌ من البشر المائتين، الذين بكامل حرّيتهم، تلمّسوا ألوهيّة المسيح واختاروا أن يموتوا عن «هذا العالم» فقط كي يُولَدوا به مجدَّدًا ويَحْيَوا إلى الأبد. إنّ قيامة ربِّنا ومخلِّصنا يسوع المسيح من بين الأموات كانت حَجَرَ الزاوية وبداية هذه الولادة الرّوحيّة.

إنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة، التي هي جسد المسيح، قامت خلال ألفيَّتِها الأولى بتهيئة ما هو ضروريٌّ وأساسيٌّ للإنسان في أثناء تواجده على الأرض، وذلك بانتظارها القيامة العامَّة الأخيرة نحو العالم الجديد. لقد أصبحت المسيحيَّة الدّيانة العالميَّة، وبلغت أَوْجَ حضارتها خلال العصر البيزنطيّ، حيث كان المجتمع بأجمعه قائمًا على الحقيقة الإلهيّة.

ولكنَّ الناس، المُجرَّبين من أمير هذا العالم الذي يبتغي إهلاكهم في الأرض، بدأوا بالتراخي تدريجيًا، بدايةً مع عصر «النهضة»، والعودة إلى المفهوم الوثنيّ للحياة؛ وإذ طَوَّروا مفهومهم الخاصّ لهذه الحياة الوقتيّة، فقد قطعوا أيَّة علاقةٍ تَصِلُهم باللّه. لقد «مات» الله بالنسبة إليهم. نتيجةً لذلك، نشأت نظرة للعالَم المُعاصِر القائمة على مبدأ رفض مواجهة فكرة أنَّ الإنسان مائتٌ وأنَّ الموت حتميٌّ - بالحقيقة، نشأت هذه النظرة من الخوف من الموت. يبلغ الفكر الحديث ذُروته في حُلُمٍ، على شكل ما تُسمِّيه الكنيسة الخداعَ الروحيّ، في السعيّ إلى بناء فردوسٍ مشترَكٍ على الأرض، وهذا هو الفكر السائد في عصرنا هذا. وبذلك تصبح قيامة مخلصِّنا يسوعَ المسيحِ من بين الأموات مجرَّدَ احتفالٍ يُقامُ في فصل الرَّبيعِ...

أمّا بالنسبة للأرثوذكسيّ المُستقيم والمُجاهِد، فالموت هو حقيقة وهو ضروريّ ومفيد، إذ إنَّه يدفع بالإنسان إلى البحث عن حقيقة ذاته ما وراء وجوده الأرضيّ، خارج حدود المكان والزمان. إنَّ تَقَبُّلَ المسيحيَّة للموت يعطي قيمةً جديدةً ومميَّزةً للحياة على الأرض، إنَّه يُعطي رجاءً إلهيًّا ويكون الدَّافعَ إلى إيقاظ الذِّهْنِ للنهوض إلى حياةٍ جديدةٍ مع المسيح.

يجب أن يأتي الإنسان المُعاصِر إلى حقيقة الأرثوذكسيّة طالبًا قيامة المسيح، كما أتى نيقوديموس في الإنجيل، في اللَّيل، مخفيًا عن طُرُقِ هذا العالَم. إنّ السرّ العظيم الكامِن في لَمْسِ المسيح ذاته قلبَ الإنسان، هو وحدُه الّذي يُرشِدُ الإنسان كي يتذوَّق حلاوة الفرح الفِصحيّ. ما من كلماتٍ تقدرُ أن تَصِفَ هذه الأمور التي تتخطَّى كلَّ الأُطُرِ البشريّة. إلّا أنَّ الشهداء المسيحيّين، إذ كانوا مُلتهبِينَ بقيامة المسيح، وأَسلَموا ذواتهم بشوقٍ للمعذِّبِينَ، كانوا متيَّقنينَ، بحسب خِبرتهم، بالحقيقة التي ابتَغَوا من أجلها تقديم أنفسهم. لقد انصَرَفَ آباءُ الصَّحراء عن الأرضِيّات ليَحفَظوا شُعلة نار قيامة المُخَلِّص المُقدَّسة هذه مشتعلةً. بعد حوالي ألفيِّ عامٍ من قيامة المسيح، تمكَّن القدّيس سيرافيم ساروفسكي أن يصبح إناءً للرُّوح القدس إذ تَطهَّرَ قلبهُ من الأهواء بفضل جهاده ونُسكهِ الشَّديدَينِ، وكان يُرحِّبُ بفرحٍ وبهجةٍ عظيمَينِ بجميع من التقى بقوله «المسيحُ قامَ»، فقد كان يُشاهِدُ صورة المسيح في كلّ واحدٍ منهم.

تَمُرُّ الأرثوذكسيًة اليوم في مرحلةٍ من التَّجارِب والتطهير. إن التَّجارِب الأكثر خِفيةً والأقلَّ ملاحظةً تُشكِّلُ تحدّيًا لنقاوة الإيمان. لذلك يُجرَّب الإنسان روحيًّا، ليَختبِرَ ذاته إذا كان فِعلًا مُتعطِّشًا للمسيح الإله الحقيقيّ الوحيد أو لأضداد المسيح المُتَعَدِّدي الأوجه، وما أكثرهم!

بإمكان المسيحيّ في يومنا هذا أن يتخطّى التَّجارِب والمِحَن، فقط إذا كان مُختَبِرًا حلاوة القيامة في قلبه، وبذلك يُلاحِظُ مدى عُمْقِ خطاياه ويَشْعُرُ بوجود المسيح في حياته.

هكذا تُصبحُ فترة الصَّوم الأربعينيّ المقدّس السنويّة حاجةً مُلِحَّةً للإنسان للتَّهيئة لمُعاينة المسيح القائم من بين الأموات، ومن ثمّ تتكرّر هذه الخبرة في أيّام الآحاد كافةً على مدار السنة – إذ إنَّ الأحد هو يوم القيامة (الكَلِمتانِ مُتطابِقتانِ في اللُّغة الرُّوسيَّة). هكذا فالإنسان الذي يَحْيَا الحياة الكنسيّة بكلّ مَزاياها يتحوَّل تدريجيًا بقوّةِ قيامةِ المسيحِ القائمِ من بين الأمواتِ، حتّى وإن كان ما يزال على الأرض، إلى قاطنٍ في السّماء، فهذا هو سَببُ خَلْقِهِ.

THE ORTHODOX WORD, Vol. 2, No. 1, January - February – March, 1966, Editors: Eugene Rose, M.A. and Gleb Podmoskhensky, B. Th.

 

 


[1]. I. M. Kontzevich, The Sources of Tolstoy’s Spiritual Catastrophe (Munich, 1960), p.104