القديس قسطنطين الكبير والإيمان الأرثوذكسيّ

ألقيت في كنيسة الصليب المحيي النبعة

محاضرة ألقاها قدس الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان

في 22 آيار 2022

إنّ عمليّة اهتداء الأمبراطور قسطنطين كانت سرًّا كبيرًا، لغزًا لمن هم خارج الكنيسة أو بعيدين عن سرّ تقليدها المقدّس؛ لأنّها لم تكن كاهتداء أي إنسان آخر، عبر عمل بشاريّ كنسيّ، إنّما بتدخّل إلهيّ؛ بطريقة مباشرة من الله، عبر اختيار إلهيّ، وذلك لمهمّة محدّدة. لهذا، اهتداء الامبراطور قسطنطين واختياره الإلهيّ، لم يكن فقط لأجل خلاصه الشخصيّ، ولا لأمر يتعلّق بامبراطوريّة أرضيّة، إنّما لأمر يتعلّق بالمسيحيّة وكنيستها المقدّسة. حين أعلنت الكنيسة قداسة قسطنطين كانت مقتنعة كل القناعة أنّه مختار من الله، أداة لله العليّ، ومقتنعة في الوقت ذاته أنّ للأمبراطوريّة دورًا تؤدّيه في خدمة الرسالة الخلاصيّة للمسيحيّة. قسطنطين نفسه كان لديه هذا الحسّ أنّه مكلّف من الله كأمبراطور لتأدية هذه الرسالة المسيحيّة الخلاصيّة. إنّ معاينته للصليب وقول الربّ له بهذه العلامة تنتصر، كان علامة على هذا الاختيار الإلهيّ لإتمام عمل إلهيّ لمسيرة الكنيسة ولخلاص المؤمنين.

صلواتنا الليتورجيّة تقارن قسطنطين ببولس الرسول. القدّيس بولس دُعي من المسيح عبر رؤيا حين كان على طريق دمشق لتأدية عمل خلاصيّ عظيم. شاهد نورًا يشع حتّى أعمى بصره وسمع صوتًا يقول له: "شاول شاول لماذا تضطهدني؟ بالطريقة ذاتها دُعي قسطنطين عبر رؤيا، حين عاين صليبًا من نور يشع أكثر من نور الشمس في منتصف النهار، وقولاً يقول له: "بهذه العلامة تنتصر". لقد دُعي ليعطي سلامًا لشعب الله. وكما دُعي ابراهيم ليترك أرضه وعشيرته إلى الأرض التي يُريه إياها الله، هكذا ترك قسطنطين روما القديمة الملوّثة بالأوثان والمخضّبة بدماء المسيحيّين، وبنى عاصمة جديدة، "روما الجديدة"، دُعيت باسمه "القسطنطينيّة"، بعد رقاده، لتكون مقدّسة ومباركة من الله لتبارك وتُقدّس شعب الله. هكذا بنى قسطنطين دولة مسيحيّة قدّمها للمسيح، وهو يُرسم حاملاً جرم سماويّ وصولجان. لقد كان القدّيس قسطنطين مؤسّس لأهمّ امبراطوريّة مسيحيّة مرّت في التاريخ. وقد دامت أكثر من ألف ومئة سنة.

ويُطرح السؤال لأجل ماذا كان هذا الاختيار الإلهيّ؟ ما هي الغاية النهائيّة لكلّ هذا التدبير الإلهيّ؟

بعد ثلاثة قرون من اضطهادات دمويّة ضدّ المسيحيّين، الله يرى أن الوقت قد حان ليرفع هذا الاضطهاد لأسباب عدّة خفيّة وظاهرة، لأمور تتعلّق بالإيمان، وأمور تتعلّق بالحياة.

ربّما لأنّ المسيحيّين تعبوا من الاضطهاد الدمويّ؛ كان مجرّد الاسم "مسيحيّ"، يتبعه مصادرة الممتلكات، عذابات مروّعة، استشهاد. هناك صرخات من المسيحيّين تقول: "يا ربّ أعطنا سلامًا". قد تدلّ هذه الصرخات على هذا التعب الّذي طال واشتدّ، من ثقل الاضطهاد الجسديّ.

اهتداء الامبراطوريّة الرومانيّة إلى المسيح كان ضروريًّا لأجل اهتداء شعوب كثيرة من خلالها، خاصّة شعوب القبائل الشماليّة لأوروبا. فالسلام الخارجيّ الّذي أمّنه لها هذا الاهتداء، ساعدها في التفرّغ لعمل بشاريّ منظّم.

والسبب الأوّل والأهمّ هو اشتداد وكثرة الهرطقات المختلفة والانقسامات التي خضّت الكنيسة في القرون الأولى ولكن تفاقمت في القرن الثالث. والكنيسة، في حالة الاضطهاد الدمويّ التي كانت تحيا فيه، كانت عاجزة عن أن تجتمع معًا لتواجه خطر هذه الهرطقات والانقسامات المختلفة. الإيمان المستقيم كما كشفه الربّ يسوع المسيح هو المعيار الوحيد للخلاص، لهذا ينبغي أن يُحفظ كاملاً ونقيًّا.

هذا السلام اعطي عبر إناء العناية الإلهيّة قسطنطين الكبير، كما اعتبره أفسافيوس. يُشبّه أفسافيوس قسطنطين بموسى آخر. فكما أعطى الله الشعب المستعبد والمُضطَهَد النبيّ موسى، هكذا أرسل الله الملك قسطنطين ليُخلّص شعبه من اضطهاد الكفرة. لهذا يُسمّيه أفسافيوس أيضًا "العبد الصالح والأمين"، وأيضًا، "معلّمًا للعبادة لكلّ الأمم".

حياته: اسمه فلافيوس فلاريوس قسطنطينوس، الملقّب بالكبير، وُلد في 27 شباط 272، أو 274، في ناييسوس Naïssus، وهي في مقدونيا أو إليريكيون في البلقان. كان الابن البكر لقسطنديوس كلوروس، الّذي أصبح لاحقًا أمبراطورًا. كان قسطنطين ما يزال حدثًا في حوالي العشرين من عمره، حين أُرسل إلى بلاط ديوكلسيانوس، وبعده غلاريوس، لأجل تلقيّ العلم. لكن في الواقع كان هناك كرهينة أو كتعبير عن ولاء أبيه قسطنديوس، الّذي كان ما يزال قيصرًا، للأمبراطور. اشترك هناك في حملات عسكريّة عديدة وأثبت مهارة كبيرة في الحروب. بقي هناك حتى سنة 306، حيث استطاع الفرار بعد أن شعر أن غلاريوس ينوي قتله، على الأغلب حسدًا بعد أن رأى فيه من الميزات الكبيرة التي يمكن ان تُشكّل خطرًا مستقبليًّا عليه. فرّ إلى أبيه، الّذي مات بعد فترة قصيرة وكان قد سمّى قسطنطين في مكانه أوغسطسًا كخليفة له (حوالي 306). ودعم العسكر هذا التنصيب بتأييده قسطنطين أوغسطسًا. أرسل إلى غاليريوس لإعلامه بتسلّمه منصب أوغسطس، لكنّ الأخير رفض له هذا اللقب وقبل أن يُسمّيه قيصرًا مرغمًا. هذا التنصيب حصل في بريطانيا. أوّل خطوة كانت لقسطنطين بعد أن أصبح أوغسطسًا كانت إعطائه المسيحيّين حريّة العبادة في المناطق التي كان يُسيطر عليها.

تزوّج من مينرفينا Minervina، وأنجب منها ولدًا هو كريسبوس. بعد استقالة الامبراطور ديوكلسيانوس وغاليريوس عن الحكم، اقتسم الامبراطوريّة على الأقل ستة قياصرة، بدأ صراعًا عنيفًا بينهم. كان قسطنطين معنيًّا بشكل مباشر بهذا الصراع، وكل واحد من هؤلاء كان يتربّص بالآخر وينتظر الفرصة لينقضّ عليه. اهتداء قسطنطين تمّ في شتاء سنة 312. وذلك خلال زحفه على روما، وعند معركة جسر Milvian، وانتصاره على مكسنديوس Maxentius. ففيما هو يصلّي، عاين صليبًا في السماء في منتصف النهار، يشعّ بنور بهيّ، ويحمل هذه الكلمات، "بهذه العلامة تنتصر". وقد أُخبر قسطنطين أنّ هذه العلامة هي رمز الخلود[1]. وكان قسطنطين مهيّئًا لهكذا رؤيا فائقة للطبيعة[2]. فوالده كان يؤمن بإله واحد، لا بأوثان عديدة، وعبّر عن هذا الإيمان بكونه كان رحيمًا ومتعاطفًا مع المسيحيّين.

بعد حروب عنيفة داخليّة ضدّ القياصرة الّذين اقتسموا الأمبراطوريّة فيما بينهم، أصبح قسطنطين الأمبراطور الوحيد للغرب، وليسينيوس الوحيد في الشرق. اجتمع الإثنان وأصدرا ما عُرف بمرسوم ميلان، سنة 313، الّذي يُجيز حريّة العبادة لكلّ رعايا الامبراطوريّة، ويخصّ بالذكر المسيحيّين خاصّة. وفي هذا المرسوم لا يملك المسيحيّين حريّة العبادة فقط، إنّما أيضًا بأن يستعيدوا أملاكهم التي خسروها خلال الاضطهاد. الأمر ذاته أيضًا، بعد دخوله الظافر إلى روما سنة 312، أصدر قسطنطين رسالة إلى قنصل أفريقيا أنولينوس Anullinos يطلب منه بأن يُعيد إلى المسيحيّين الأملاك التي خسروها خلال الاضطهاد.

في سنة 324، أصبح قسطنطين الأمبراطور الوحيد للأمبراطوريّة الرومانيّة. بعد انتصاره على ليسينيوس، الّذي كان الحاكم الوحيد للشرق، والّذي بقي يضطهد المسيحيّين، رغم توقيعه مرسوم ميلان.

البروتستانت عامّة، وحتّى الكاثوليك إلى حدّ ما، يعتبرون أن المسيحيّة انحرفت عن مسارها الأوّل مع الامبراطور قسطنطين ودعمه للمسيحيّة. والسبب الرئيسيّ معروف، فالأمبراطوريّة الروميّة الشرقيّة، التي بدأت مع قسطنطين، ارتبطت مسيرتها بمسيرة الكنيسة الأرثوذكسيّة. ومن خلال تشويه سمعة قسطنطين يسعون لتحطيم كل مسيرة الكنيسة الأرثوذكسيّة، بعد أن تعمّق التباعد، لا فقط الحضاريّ والثقافي والسياسيّ، إنّما بالأكثر الإيمانيّ العقائديّ. فالصراع بين الشرق والغرب بدأ هنا. بدأ مع قسطنطين لكن السبب لم يكن قسطنطين، إنّما انتقال مركز السلطة من الغرب إلى الشرق. واستنادًا على مبدأ حبّ السلطة بدأت تحصل كل التغيّرات وتجزّأ التقليد الواحد. وقد تثبّت هذا الصراع بعد أن تغيّرت كل مفاهيمهم المتعلّقة بالإيمان والكنيسة، من لاهوت الإعلان الإلهيّ وخبرة معاينة الله، إلى الفلسفة المجرّدة وخلق مفاهيم عقليّة عن الله.

لم تسقط الكنيسة في فساد الأمبراطوريّة، إنّما الامبراطوريّة نفسها تمسحنت في كامل حياتها وروحها وقوانينها. التجديف على اسم المسيح اعتبر خطيئة عظيمة. صكّ على العملة بدل الشعائر الوثنيّة، شعائر مسيحيّة، مثلاً: نجد على تاج الملك حول رأسه منقوشًا الحرفان الأوّلان من اسم المسيح؛ ونجد أيضًا صورة وجهه مرفوعًا نحو السماء ويداه في حالة تضرّع وصلاة. يوم الأحد أصبح يومًا للربّ، تُقفل فيه كل الأماكن وتتوقّف الأعمال. أظهر قسطنطين تقوى وإجلال نحو أشكال العبادة. وضع في كل مكان علامة الصليب المخلّصة، على كل حائط وكل بوابة في قصره. منع عقوبة الموت بالصلب، لأنّ الأداة التي حصل بها الخلاص والحياة لا ينبغي أن تصير مرّة أخرى أداة للعقوبة والموت.

خطيئة الزنى اعتبرت أنّها انتهاك خطير للقانون، وشدّد قسطنطين على حفظ قدسيّة الزواج؛ وحيث لم يستطع ان يوقف السحر والشعوذة، استطاع على الأقل أن يوقف الفوضى الناتجة عنها. أوقف عرض المبارزات gladiatorial shows، وأصدر قانونًا أنّ لا تتشرذم وتفترق عائلات العبيد. وأن لا يُجلد المديونون، وعدم تشويه السمعة repressing calumny.

اهتمّ قسطنطين بالفقراء وتأمين حاجاتهم. كما أدخل الكثير من القوانين المتعلّقة بالوضع الاجتماعي، كحماية الأرامل والأولاد القاصرين والأيتام وتأمين المال والثياب لحاجاتهم الأساسيّة[3]. هذه المراسيم الاجتماعيّة كانت متقدّمة بالنسبة لعصره. كما نظّم نظام الضرائب ومنع استغلال المواطنين وجمع ضرائب أكثر ممّا يتوّجب عليهم. كان قسطنطين سخيًّا مع الجميع خاصّة تجاه المسيحيّين وظهر هذا الأمر في بناء الكنائس العديدة.

كرّم كثيرًا الأساقفة وثبّت كراسيهم، وسمح أن تُعرض بعض القضايا القانونيّة ليحكم فيها الأساقفة، وأعفاهم من الواجبات العامّة، خاصّة من دفع الضرائب. أعطى الأساقفة الأرثوذكسيّين السلطة لاستئصال الهرطقة؛ فقد كان قسطنطين يملك حسًّا كبيرًا بأهميّة الإيمان الأرثوذكسيّ، وبضرورة وحدة الكنيسة، وأنّ الكنيسة هي شعب الله الخاصّ، والله يُبغض الانقسامات. قسطنطين لم يفرض الوحدة بالقوّة لكنّه كان يُسهّل عملها.

لقد كان القدّيس قسطنطين يعي بحسب تعليم الكنيسة منذ القديم أن الهرطقة، أو كل تعليم مخالف يُشكّل تهديدًا بهدم وحدة جسد المسيح. لذا كان همّه، كسياسيّ مسؤول عن وحدة شعبه أمام الله، أن يسعى بكل الوسائل السلاميّة لفرض هذه الوحدة. وهذه الوحدة هي ضروريّة لأجل خير الامبراطوريّة.

تغيير مهمّ أتمّه القدّيس قسطنطين في علاقة الامبراطوريّة بالكنيسة وهو احترامه للمجمعيّة، وللشورى في المسائل الكنسيّة. وهذا يُثبت عدم تدخّله وفرضه نفسه وفكره على الكنيسة. ففي ظلّ الأنظمة الملكيّة المطلقة الحكم، حيث الأمبراطور الرومانيّ لم يكن فقط الحاكم المطلق، لكن أيضًا هو إله في أعين شعبه وفي ممارستهم وتقديم الأضاحي له. لم يُواجه قسطنطين المشاكل التي اعترضت الامبراطوريّة والشعب بقرارات شخصيّة إنّما بمجمعيّة. سنة 313-314 أتى أسقف روما ملتياديس إلى قسطنطين وقال له إن الهرطقة الدوناتيّة[4]، التي خضّت الكنيسة خاصّة في القرن الثالث وبداية الرابع، جعلت كل الامبراطوريّة في اضطراب كبير، وقال له إنّ الحلّ عندك. أجابه قسطنطين عندكم مجامع وعليكم أن تُعالجوا هذه المسائل بطريقة مجمعيّة. وبالفعل دعا قسطنطين نفسه إلى مجمع في آرل Arles، سنة 314، لمعالجة المسألة الدوناتيّة. وهذه كانت المرّة الأولى في التاريخ التي يدعو فيها امبراطور رومانيّ إلى مجمع للأساقفة، لمعالجة مسألة كنسيّة. وقد وضع كل إمكانيّات الدولة في تصرّف الأساقفة. هذه كانت ثورة ديمقراطيّة في ذلك الزمن من جهة عدم تدخّل الحكام في حياة الكنيسة. هذا المفهوم تخلّت عنه الكنيسة في الغرب حين أعطت البابا سلطة مطلقة فوق المجامع حتّى المسكونيّة. والمجمع المسكونيّ الأوّل عُقد بأمر وتوصية من قسطنطين.

لقد دعا القدّيس قسطنطين إلى مجمع نيقية المسكونيّ الأوّل (في بيثينيا)، لكن لم يذهب إليه كإمبراطور وحاكم، إنّما كواحد منهم من دون أيّة مواكبة عسكريّة وحاشية. ولم يترأّس هو نفسه المجمع، لا بل حين وصل تقدّم بتواضع إلى المكان المخصّص له. لقد كان مترئّس المجمع، على الأغلب، إمّا هوسيوس قرطبة، إمّا أفستاسيوس الإنطاكي. في كلمته في المجمع وصف نفسه أنّه "خادم معهم لذاك الّذي هو ربّنا ومخلّصنا المشترك". ويُلخّص كاتب سيرته كلامه، كيف أنّه شكر الله على هذه البركة، أنّه سُمح له أن يُعاين مجمعًا كهذا، متّحدًا بهذا الانسجام المشترك. ويُذكّر الحاضرين بأنّه كرّس نفسه للجهاد ضدّ الانقسامات داخل الكنيسة، التي يصفها أنّها "أخطر من أيّة حرب أو معركة ضارية"، وأنّ أعظم إحسان يصنعونه معه هو أن "يحلّوا قيود الجدالات بناموس السلام"[5]. ترك الأساقفة في المجمع المسكونيّ الأوّل هم يُحددون قانون الإيمان وعقيدة ألوهة المسيح. وحين سُئل عن رأيه في الأمور اللاهوتيّة أجاب: "أنا أحترم ما لا أعرفه". لقد كان القدّيس قسطنطين يملك التواضع الكافي للإهتداء وقبول أحكام الآخرين.

يُشوه الغرب مسيرة الامبراطوريّة الروميّة الشرقيّة، بترويجهم أن الأباطرة كانوا يتدخّلون في أمور الكنيسة ويفرضون أفكارهم ومشيئتهم عليها. هذا حصل في التاريخ مع العديد من الأباطرة. لكنّ الكنيسة التي المسيح في وسطها لن تغلبها أبواب الجحيم نفسها. أبواب الجحيم تغلب الكنيسة حين تجعلها تنحرف في إيمانها وتُشرّع هذا الانحراف. الروح القدس هو الّذي يرعى الكنيسة وإيمانها، ويحفظها في الحقّ، مهما اشتدّت وطالت فترة تدخل هؤلاء الأباطرة. المهمّ أن يبقى هناك أمناء للحق، من خلالهم تستمرّ نعمة الروح القدس فاعلة في الكنيسة. بالنسبة للقدّيس قسطنطين، لا ينطبق عليه مبدأ تدخل الأباطرة في شؤون الكنيسة. كل ما سعى لعمله هو تطبيق قرارات المجامع وإحقاق السلام والوحدة في الكنيسة والامبراطوريّة. لهذا عُرف عنه قوله الشهير للأساقفة، "أنتم أساقفة في الداخل وأنا اسقف في الخارج". فهو لم يعتبر نفسه ملكًا فقط، إنّما وأسقفًا أيضًا. يقول دوسيثاوس في كتابه "الكتب الإثنا عشر"، أنّ القدّيس قسطنطين، في اجتماع مع مجموعة من الأساقفة، قال لهم: "أنا أيضًا أسقف، أنتم أساقفة الإنسان الداخليّ، مؤسّسين على أساس الرسل والأنبياء. أنا أسقف الإنسان الداخليّ والخارجيّ. الخارجيّ، لأنّني أهتمّ بحفظ تعليمهم واستقامة طريقة حياتهم. ليس من دون هدف أنّني احمل سيفًا. الداخليّ، لأنّي أتعاون معكم في تثبيت ونموّ الإيمان الأرثوذكسيّ، الّذي هو أيضًا قام على أساس الرسل والأنبياء ذاته"[6].

ولهذا تنشد الكنيسة لقسطنطين في الذوكساستيكون doxastikon هكذا: "بتلقيك معرفة الروح، قد مُسحت بزيت ككاهن وملك، مثبّتًا أرثوذكسيّة إيمان كنيسة الله. لأنّه قد كُتب في الرؤيا: "وجعلتنا لإلهنا ملوكًا وكهنة فسنملك على الأرض" (رؤ10:5).

في علاقته مع شعبه، امتاز قسطنطين منذ حداثته بالصبر، ويظهر صبره بالأكثر في استماعه إلى شكاوي الشعب(Naz. C. 24) . لقد كان لطيفًا وودودًا جدًّا مع الشعب، كان شعبيًّا مع جنوده، شعبيًّا حتّى مع أعدائه الّذين كان يُخضعهم (Eutrop. 10, 7). يتكلّم أفسافيوس عن المعاملة الإنسانيّة التي كان يُعامل بها السجناء. ديوكلسيانوس الطاغية نفسه يُذكّر غاليريوس الأمبراطور أنّ قسطنطين لطيف ومحبوب. وامتاز أيضًا بضبط النفس self control، ويظهر ضبط النفس هذا في حياته الأخلاقيّة السامية، وبالأكثر خاصّة في عفّته التي كانت امرًا فريدًا للأباطرة في ذلك الزمن.

لقد اقتنى هذه الشعبيّة بكل أنواع التسامح ومساعدة الآخرين (Eutr. 10, 7). سياسته كانت تُشجّع على المسامحة تجاه الوثنيّين واليهود. لم يضطهد الأديان التي رأى أنّها ضالّة، وفي الوقت ذاته لم يقسو على الهراطقة. مثلاً الاضطرابات التي حصلت في إنطاكية في عهده لم يُعالجها بالعنف إنّما طبّق باحتمال وصبر كثير علاج الإقناع" (V.C. 3, 59). خلال الاضطرابات الآريوسيّة، تجرّأ البعض "حتّى على إهانة تماثيل الامبراطور"، يقول أفسافيوس القيصريّ، "أنّ هذا الأمر لم يكن ليثير غضبه، بل بالأحرى حزنت روحه لهذا" (V.C. 3, 4). يُذكر عنه أنّه علم أنّ أحد الوثنيّين قطع رأس أحد تماثيله، فرفع يديه وأمسك برأسه وقال: "هذا هو رأسي ما زال هنا، لم يُفقد شيء، فلا تُعاقبهم". وحين قال له أحدهم أنّ تماثيله قد رُجمت، أجاب: "غريب، لكن لا أشعر بأيّة جراح". ونعلم أنّ إهانة تمثال الأمبراطور كانت تُعتبر جريمة كبيرة. لكنّه كإنسان مسيحيّ روحانيّ تسامى عن كل هذه الأمور الشكليّة الأرضيّة، لأجل حفظ وصيّة الله بمغفرة الإساءة.

 العنصر الأكبر في هذه الشعبيّة كان لطفه والرحمة التي تحلّى بها وصبره وتحمّله mildness, mercifulness and forbearance. إلى درجة أنّه كان، بحسب أفسافيوس، "يُلام عامّة على رحمته" (V.C. 4, 31).

يقول عنه أفسافيوس أنّ "عادته المألوفة هي أن يُخلّص حياة الناس" (V.C. 4, 6). لهذا يقول عنه أيضًا انّه "كان في تعارض مع الطغاة الّذين كانوا ملطّخين بدماء لا يُحصى عددها". حتّى الجرائم لم تكن تُحاسب بالجزاء الّذي تستحقّه. الشهادة على الرحمة، كما يقول أفسافيوس، أنّ في عهد قسطنطين "سيف العدالة صار عاطلاً عن العمل" “the sword of justice lay idle,”. وذلك لأنّ الناس أصبحوا "مقيّدين بسلطة أبويّة أكثر من أنّهم محكومين بصرامة سلطة الناموس" (V. C. 3. 1).

يقول أفسافيوس في التاريخ الكنسيّ، أنّ قسطنطين كان يهيّئ نفسه للحرب بالصلاة، فيما ليسينيوس عدوّه كان يتهيّئ بالعرافة والتنجيم. يقول عنه أفسافيوس وسوزومينوس أنّه كان يصوم، وجعل مكانًا خاصًّا للصلاة في قصره، خصّص فيه أوقاتًا للصلاة. لقد علّم بمثاله وتقواه عن المسيح يسوع. يقول أفسافيوس أنّه "حفظ شهادة لا تتوقّف لمسيحيّته، بكل جرأة وأمام كل الناس، وكان بعيدًا عن أن يرتدّ عن المجاهرة بالاسم المسيحيّ، رغب بالأحرى بأن يجعل منه ظاهرًا للجميع وكان يرى هذا على أنّه شرفه الأعظم" (V.C., 3, 2). وقد ظهر هذا في لقاءاته مع الأمم الوثنيّة ورسائله التي كتبها إلى البرابرة. يقول عنه الأساقفة في رسالتهم المجمعيّة أنّه "العظيم التقوى"، "والمحبوب من الله"[7]. يقول قسطنطين: "أنا مقتنع قناعة تامّة أنّني أدين بحياتي، بكلّ نفس فيّي، وبكلّ أفكاري السريّة والداخليّة إلى الإله العظيم".

لم يُقدّم الإكرام للآلهة الوثنيّة ولم يضع تمثاله في هياكلهم (المؤرّخ أفسافيوس يؤكّد أنّه لم يعمل هذا). فالأباطرة الرومان كانوا يُكرّمون كآلهة على الأرض. وهو كان مجبرًا أن يحتفظ بلقب رئيس الكهنة أو الكاهن الأعظم pontifex maximus، الوثنيّ، حيث كان أغلب رعاياه ما زالوا وثنيّين. لكنّه منع الذبائح المقدّمة للأوثان، وحرم الهياكل من ثرواتها، صنع كل شيء للحدّ من سلطتها، صنع كل شيء من دون عنف ومن دون أن يخسر صفته كأبٍ لكل رعيّته، حتّى لأولئك الّذين كان هو مقتنعًا أنّهم يسلكون في الضلال.

لقد فهم القدّيس قسطنطين، بعد معاينته للصليب المشعّ أكثر من نور الشمس، وللكلمات "بهذه العلامة تنتصر"، وذلك عشيّة معركته لأجل المملكة، سنة 312، فهم أنّ البشريّة لم تبلغ غاية التاريخ في روما لكن لها أيضًا هدف اسخاتولوجيّ موجود في الكنيسة. لقد فهم قسطنطين أنّ مستقبل البشريّة يقوم في المسيح فقط.

لهذا، حين دخل روما منتصرًا أعلن للمدينة كلّها أنّ النصر لم يكن لجحافل الجيوش إنّما لفعل قوّة الصليب المخلّصة. هذا عمل إيمان عظيم واعتراف كبير، وإنكار للذات روحيّ،  لم يكن هو الّذي أدخل إكرام الصليب والوشم بهذه العلامة إلى حياة المسيحيّين، كما يدّعي بعض البدع البروتستانتيّة، فهذا الاكرام والوشم كان موجودًا من القرون الأولى. القدّيس اغناطيوس الانطاكيّ حامل الإله (†107)، يقول: "إنّ رئيس هذا العالم يُسرّ حين يُنكر أحدهم الصليب، لأنّه يعرف أنّ اعتراف الصليب هو هلاك له. الصليب هو نصب تذكاريّ يرتفع ضدّ قوّة الشيطان. حين يراه يرتعد منه، وحين يسمع به يخاف". يقول في التقليد الرسولي، من القرن الثانيّ: "إن كنت في تجربة أرشم نفسك بعلامة الصليب على جبهتك. فهذه العلامة تخصّ آلام المسيح، تُظهرها لمقاومة الشيطان إن رشمتها بإيمان وليس من أجل أن تُسرّ الناس. ترتليانوس من بدايات القرن الثالث يُخبّر كيف أنّ المسيحيّين يوشمون أنفسهم بعلامة الصليب بكل ما يعملونه في حياتهم. حين ينهضون من النوم حين يلبسون ثيابهم حين يذهبون إلى النوم...

رسائله كانت ممتلئة تعابير تقويّة، وتبدأ أو تنتهي بتعبير "الأخوة الأحبّاء". في إحدى رسائله، وهي تُعتبر وكأنّها اعتراف إيمان confession of faith، يظهر فيها كم دخل عميقًا في سرّ الإيمان المسيحيّ، وتمييزه بين الأشياء المخلوقة وذاك الّذي هو وحده غير مخلوق، وكيف أنّ المخلوقات المائتة يمكن أن يصيروا مشاركين في مجد الله. ويُكمل قائلاً: "إن كنّا حقًّا نشتهي البركة التي من الله، واجبنا أن نعيش حياة بحسب وصاياه. لكي، بعد أن نكون أن أنهينا مسيرة تتّفق مع الشريعة التي أوصى بها، نسكن إلى الأبد فوق قسمة القدر، في المنازل الأبديّة التي لا تبلى. لأنّ القوّة الوحيدة في الإنسان، التي يمكن أن ترتفع لتقارن مع تلك التي لله، هي الخدمة الصادقة التي لا غشّ فيها وتكريس القلب له، مع تأمّل ودراسة كل ما يُرضيه، أن نرفع مشاعرنا فوق الأشياء التي على الأرض، ونوجّه أفكارنا، بقدر ما نستطيع، إلى الأشياء العلويّة والسماويّة"[8]. رسالته إلى الأساقفة بعد مجمع آرل Arles، الّذي دعا إليه قسطنطين نفسه سنة 314، لمعالجة المسألة الدوناتيّة، مملوءة بالتعابير الإيمانيّة. وكان الدوناتيّين قد طلبوا تدخّله، لأنّ سير أعمال هذا المجمع دارت ضدّهم. يقول مثلاً، "يطلبون حكمي فيما أنا نفسي أنتظر دينونة المسيح مخلّصنا". فالمسيح بالنسبة له هو، "الديّان العظيم لكلّ الأشياء، أمير الخلود، مُعطي الحياة الأبديّة" (S. C. 36).

لقد كان لدى قسطنطين حسّ داخليّ عميق أنّه مسؤول أمام الله كامبراطور، وأنّه سيكون عرضة للدينونة. كان يملك حسًّا كبيرً بالله كديّان.

أعداء قسطنطين استغلّوا أحداث جرت في عائلته لكي يتّهموه بأسوء الاتهامات. كمقتل ابنه وابن أخته وزوجته وبعدها العديد من أصدقائه. لكن دراسة هذا التاريخ تُظهر أنّ ما من واحدة من هذه الاتّهامات يمكن أن تُبرهن[9]. أفسافيوس بمفيلوس، أسقف قيصريّة فلسطين (†340)[10]، كتب حياة قسطنطين بعد رقاده. مؤرّخ آخر هو لاكتانديوس Lactantius، الّذي كان صديقًا حميمًا لكريسبوس Crispus ابن قسطنطين، الّذي يدّعي المؤرّخين أنّ أباه قسطنطين قتله. هذان المؤرخان أفسافيوس ولاكتانديوس كانا معاصرين لقسطنطين، وكتبوا كل ما يختصّ به. أفسافيوس لا يذكر شيئًا عن حادثة موت كريسبوس. أفسافيوس ولاكتانديوس يمدحون بقوّة الامبراطور قسطنطين في أعمالهم، ويُظهرون فضائله ورحمته. فكيف يمكن ان يمدحوا قاتلاً. لقد كان لاكتانديوس أعزّ أصدقاء كريسبوس ابن قسطنطين. وقسطنطين هو الّذي جعل لاكتانديوس المؤرّخ معلّم كريسبوس الخاصّ.

المؤرّخين الّذين ذكروا تفاصيل عن هذه الأحداث كانوا معادين لقسطنطين، وقد أتوا بعد فترة طويلة من زمن قسطنطين، مثل زوسيموس وأفتروبيوس Eutropios، وزوناراس Zonaras[11]. هؤلاء تكلموا عكس الباقين. وكل الّذين يريدون تشويه سمعة قسطنطين، استندوا عليهم. زوسيموس Zosimus، الأسوء بينهم، كان وثنيًّا، عاش أكثر من 150 سنة بعد قسطنطين، استقى معلوماته من مصادر وثنيّة معادية للمسيحيّة ومعادية لقسطنطين. هذا أعطى أسوء صورة عن قسطنطين، وكان يعتبر انتشار المسيحيّة هي السبب الرئيسيّ لانهيار الامبراطوريّة الرومانيّة. هؤلاء، من خلال تشويه سمعة قسطنطين سعوا لتحطيم كل مسيرة الامبراطوريّة الروميّة الشرقيّة لأنّها أرثوذكسيّة. التي سمّوها بيزنطية في القرن السادس عشر (1520)، بعد سقوط القسطنطينيّة سنة 1453. كان اسمها دائمًا رومانيا it was Romania, or the Orthodox Eastern Roman Empire.

سنة 326 ذهب قسطنطين إلى روما كأمبراطور للاحتفال بالذكرى العشرين لتسلّمه الحكم الملكيّ. وبحسب العادات القديمة دُعي إلى الكابيتول ليشترك في الاحتفالات العسكريّة الوثنيّة وتقديم ذبائح للآلهة الوثنيّة. قسطنطين رفض لأوّل مرّة أن يصعد درجات تلّة الكابيتول لأجل تكريم الآلهة نفسها، وتقديم الذبائح للإله جوبيتر، إله دولة روما. هذا الرفض جعل هوّة كبيرة وعلاقات باردة بين قسطنطين ومجلس الشيوخ في روما ومع الشعب أيضًا. فهذا الرفض اعتبر أنّه رفض لحضارة كاملة، حضارة غربيّة وثنيّة، وبداية لصراع لا ينتهي بين الشرق والغرب. إنّ نقله عاصمة العالم كلّه حينها إلى الشرق، ورفضه تقديم الذبائح  هذه الحادثة استغلّها زوسيموس ليعتبر قسطنطين عدوّ ومبغض للأمة الروميّة ومدنّس للمقدّسات.

الحقيقة هي أن كريسبوس كان من زواج أوّل لقسطنطين مع مينرفينا Minervina، وزوجته الثانية كانت ابنة الملك مكسانديوس (أو مكسيميانوس). كل هذا كان قبل اهتدائه إلى المسيح. وكان مكسيميانوس قد أجبر قسطنطين على الطلاق من زوجته الأولى لتزويجه ابنته فوستا Fausta (سنة 307)، وذلك لأنّه كان يخاف من قسطنطين. ادّعت فوستا أن كريسبوس حاول التحرّش بها جنسيًّا، وكان قسطنطين قد أصدر مرسومًا بمعاقبة الزنا. كما ادّعت عليه بقوّة أمام الملك، أنّه ينوي قتل أبيه لأجل الوصول بسرعة إلى الحكم، وألقي في السجن، ثمّ أصدر والده أمرًا بإعدامه، وهذا ما حصل. هذه هذه القصّة التي روّجها أعداء قسطنطين من دون أن يكون لهم أيّة دلائل مؤكّدة على الموضوع.

الحقيقة لا أحد يعرفها بالتحديد، لكن من المؤكّد أن في الموضوع سرّ كبير؛ ومن الأكيد أنّ قسطنطين لن يُصدر امرًا بقتل ابنه البكر ومعاونه في الحكم في امبراطوريّة مترامية الأطراف. ومن الأكيد أيضًا أنّ لفوستا الزوجة علاقة مباشرة في هذه الجريمة. فوستا كان لديها ثلاثة أبناء من قسطنطين، ولكي تؤمّن الملك لأبنائها كان لا بدّ من التخلّص من الوريث البكر كريسبوس، الّذي كان قد أصبح معروفًا ببوطولاته وانتصاراته في الحروب المختلفة؛ وهذا ما حصل. بعض المؤرخين المعاصرين يؤمنون بقوّة أن فوستا هي التي أصدرت أمرًا بإعدام كريسبوس، ابن قسطنطين. لأنّها قادرة على الوصول إلى مكاتبه، بما أنّها زوجته، وتزوير ختم الملك الذهبيّ. حزن قسطنطين كثيرًا على ابنه الّذي لم يكن له لا يد ولا مصلحة في قتله أبدًا. قسطنطين عرف حقيقة جريمة زوجته، لكن لم يقتلها كما يدّعي أعداؤه، إنّما أبعدها. هناك وثائق تؤكّد أنّها عاشت أربع سنوات بعد هذه الحادثة وماتت بمرض. بالنسبة لابن أخته أيضًا، يذكر أحد المؤرّخين أن ليسينيوس ابن أخته كان حيًّا سنة 336، أي قبل موت قسطنطين بسنة واحدة.

على أيّة حال، حتّى وإن كان قاتلاً، لا من ذاته بل بسبب أنّه خُدع من دسائس زوجته فوستا، فإنّ التوبة متاحة للجميع وكثيرون تقدّسوا بعد خطايا عديدة مميتة. إنّ ملكًا يتكلّم عن التوبة والنوح عن الخطايا، لا بدّ أنّه كان يُمارسها. يتكلّم قسطنطين بقناعة تامّة، لا فقط عن التوبة المجرّدة، إنّما يعترف أيضًا أن النوح ضروريّ لأجل الحصول على المغفرة (Ad. Prov. Pal),. يقول: "أنا أعتبر أن أعظم الخلاص هو التوبة"[12]. بالطبع ككل إنسان أخطأ قسطنطين وارتكب خطايا كغيره من البشر، خاصّة في مركزه كامبراطور وملك لأعظم امبراطوريّة في العالم في ذلك الوقت، لكن لم يُخطأ بما اتّهم به، خاصّة لهذه النتيجة المأساويّة التي افتعلها اعداؤه ليأجّجوا هذا الصراع بين الشرق والغرب. وكان قسطنطين قد حمّل نفسه مسؤوليّة المشاركة في الاضطهادات التي شنّها ديوكلسيانوس على المسيحيّين، حين كان في بداية حياته في بلاط ديوكسيانوس. لكنّه اعتبر أنّ التوبة والاعتراف حُدّدا لأجل المغفرة. واهتدائه بواسطة أعجوبة الرؤيا للصليب المقدّس، تُماثل اهتداء بولس الرسول بواسطة رؤيا على طريق دمشق، وتحوّله من مُضطهد إلى رسول إنجيليّ.

فكيف يمكن لمن كان رحيمًا حتّى مع أعدائه؛ وأدخل كل هذه القوانين الرحومة والإنسانيّة يمكنه أن يقتل ابنه المحبوب منه جدًا والّذي جعله قيصرًا وهو حدث سنة 317، وسلّمه قيادة أسطوله الملكيّ، وأرسله في حملات عسكريّة كبيرة كانت ناجحة كلّها.

لقد عُرف عن قسطنطين أمانته المطلقة، منذ بداية حياته (حداثته)، لكلّ الناس، خاصّة لعائلته. نال ثقة والده وأظهر لأمّه كل الاكرام حين وصوله إلى السلطة (وظهر هذا في العملة التي صكّ عليها رسم والدته كملكة). كل المؤرّخين يتّفقون على أنّ قسطنطين كان زوجًا أمينًا يحترم إلى أقصى حدّ الفضيلة الزوجيّة. وكان أبًا صالحًا، اهتمّ بأولاده وبتعليمهم وتثقيفهم جيّدًا.

بعد المؤرّخين القدماء، وأوّلهم زوسيماس، العدائيّ في كلامه عن قسطنطين، يعتبر ان قسطنطين سقط في الكبرياء وحبّ التنعّم والرفاهيّة بعد أن أصبح الأمبراطور الوحيد للأمبراطوريّة كلّها. أفسافيوس يقول العكس تمامًا أنّه لم يكن يتأثّر أبدًا بكل المدائح والتهليل له. إنّ هذا التحليل لكي يجدوا مبرّرًا لإدانة قسطنطين غير مستند على قاعدة حقيقيّة، إنّما هي ظنون وحجج ليثبتوا اتهاماتهم.

فالقدّيس قسطنطين، بعد أن تمّت له السيطرة على كل الامبراطوريّة الرومانيّة، سلّم أمور الحكم، خاصّة الحربيّة، إلى الّذين سمّاهم قياصرة، خاصّة من أولاده، ثمّ تحوّل اهتمام قسطنطين كليًّا نحو الأمور اللاهوتيّة والروحيّة. وقد ظهر هذا الأمر في مجمع نيقية، المسكوني الأوّل. وحماسه ومحبّته للمسيح دفعاه ليتمنّى لو أنّ الله كشف له هذه الأمور منذ الطفولة. يقول: "كنت أتمنّى لو أنّ الإعلان الإلهيّ الّذي أُعطي لي قد حصل من زمن طويل، لأنّه مغبوط الّذي من طفولته قد تأصّل في معرفة الأمور الإلهيّة وابتهج كثيرًا بجمال الفضيلة"[13]. وكان قسطنطين يعتبر أنّ عمله الأوّل هو هداية كل الأمبراطوريّة إلى الإيمان المسيحيّ، ويُشدّد لا بالقوّة والعنف، إنّما "بالإقناع والمنطق وبشهامة"[14].

بالنسبة لمعموديّته، فيما كان قسطنطين ذاهبًا في حرب ضدّ الفرس، والأسباب عديدة. فقد كانوا البرابرة الوحيدين الّذين كانوا يهدّدون حدود الأمبراطوريّة من الشرق ويغزونها كلّما سنحت لهم الفرصة، ولم يتمّ إخضاعهم بعد. إضافة إلى أنّ شابور الثاني، شاه الفرس، كان قد أخضع أرمينيا المسيحيّة ووضع عليها حاكمًا فارسيًّا. وكان يضطهد المسيحيّين في بلاده. كان مخطّط الملك قسطنطين أن يمرّ في الأراضي المقدّسة لبرهة ويعتمد في نهر الأردن، لأنّه لم يكن قد اعتمد بعد. لكن لم يتحقّق هذا المخطّط، إذ بعد 80 كلم من رحلته مرض قسطنطين في نيقوميديا مرضًا للموت، فاعتمد من أسقفها أفسافيوس النيقوميديّ، ومات بعدها بقليل، في 22 أيار من سنة 337. فأسرع ابنه قسطنديوس الثاني من الحدود الشرقيّة ونقل رفات أبيه إلى القسطنطينيّة، حيث أقيمت له جنازة مسيحيّة مهيبة، ودفنه في كنيسة الرسل، حيث أخذ مكانه مع الرسول أندراوس. وبسبب دعوته وأعماله التي اعتبرت رسوليّة، دُعي الملك قسطنطين ثالث عشر الرسل أو معادل للرسل، ισαπόστολος. هكذا دُعي أيضًا في محاضر المجامع المسكونيّة وفي تقليد الكنيسة.

أفسافيوس القيصريّ الّذي كتب سيرة حياة قسطنطين، بعد موته بقليل، كان صديقًا معاصرًا للقدّيس قسطنطين. وقد كتب سيرة حياة قسطنطين لأولاده كنموذج عن الملك المسيحيّ المثاليّ. قد يكون أفسافيوس في وقت ما في بداية حياته آريوسيًّا، لكنّه لاحقًّا، خاصّة بعد المجمع الأوّل أصبح كليًّا أرثوذكسيًّا في كل كتاباته. خاصّة في كتاباته المتأخّرة، يظهر أرثوذكسيًّا بشكل كامل، في تعابيره وفي رفضه الواضح بحزم لأهمّ تعبيرين آريوسيّين: أنّه كان وقت لم يكن فيه ابن الله؛ وأنّه مخلوق من العدم. إنّ تردّده في قبول التعبير "واحد في الجوهر مع الآب" ομοούσιος، ليس لأنّه لم يؤمن بهذه المساواة، إنّما من خوفه من انّ التعبير يُمكن ان يُفهم سابيليًّا[15]. الهرطقة السابيليّة التي خضّت الكنيسة في القرن الثالث كانت ما تزال حيّة والتي جعلت مماهاة بين أقانيم الثالوث، وجعلتهم أقنومًا واحدًا. وهذه الهرطقة وافقت على هذا التعبير ομοούσιος، ومجمع إنطاكية ستون سنة قبل نيقية رفض استعماله وأدان بولس السميساطي.

أمّا أفسافيوس النيقوميديّ الّذي عمّد قسطنطين كان يُعرف عنه أنّه آريوسيّ[16]. لكنّ الكنيسة التي كانت في صراع داخليّ ضدّ الهرطقة الآريوسيّة لم تحكم عليه بأيّة هرطقة. خاصّة وأنّه اشترك في المجمع المسكونيّ الأوّل ووقّع على قانون الإيمان الأرثوذكسيّ. لكنّه رفض الموافقة على الأناثيما التي أصدرها المجمع في حقّ آريوس. فأبعد إلى حين، لكنّه بعد وقت قصير أُعيد إلى كرسيّه وكنيسته[17]. مشكلة أفسافيوس كانت في أنّه أراد عدم الحكم بهذه القساوة على آريوس. والسبب على الأغلب معرفته السابقة بآريوس.

من العلاقة التي كانت متينة بين أفسافيوس القيصريّ وأفسافيوس النيقوميديّ يمكن أن نستدلّ أنّ الوضع الإيمانيّ للنيقوميديّ تُشابه ذاك الّذي كان عليه القيصريّ. يذكر أفسافيوس النيقوميديّ في عدّة مناسبات عن أفسافيوس القيصريّ أنّه سيّده τού δεσπότου μου[18]. من جهة أخرى، يدعو القيصريّ أفسافيوس النيقوميديّ "أفسافيوس الكبير"[19]“the great Eusebius” .

وبقي قسطنطين، من الوقت القصير الّذي بقي له من معموديّته حتّى رقاده، يرتدي ثوب معموديّته تحت أثواب الارجوان الملوكيّة. قسطنطين نفسه كان أرثوذكسيًّا كاملاً، وكان يشهد بكل وضوح للإيمان الأرثوذكسيّ، إلى جانب الكنيسة الشرعيّة، كنيسة نيقية، خاصّة في مواقفه ضدّ الدوناتيّين Donatists، والآريوسيّين. يقول "إنّ الله وابن الله هما مصدر كل بركة"، ابن الله هو الّذي كشف الآب. وآمن، بحسب شهادات المؤرّخين، أنّ هذا الابن هو مخلّصه، هو "ربّنا ومخلّصنا المشترك". "إنّه مخلّصنا ورجاءنا وحياتنا"، إنّه "الطريق التي تقود إلى الحياة الأبديّة".

وكان قسطنطين قد وجّه عدّة رسائل إلى آريوس يدعوه فيها إلى الخضوع لعقيدة نيقية. وأصدر مرسومًا يحذّر فيه من إخفاء كتابات آريوس (Socr. 1, 9). حتّى أنّه التقاه سنة 335، وجهًا لوجه، وعرض آريوس للأمبراطور اعتراف إيمان ادّعى فيه أنّه باتّفاق مع عقيدة نيقية. وقد صدّق الأمبراطور صدق عودته وسعى بكل الوسائل لمصالحة آريوس مع أسقفه ألكسندروس. ونفى لهذا السبب القدّيس أثناسيوس، بعد تسلّمه الأسقفيّة، لأنّه رفض قبول آريوس في شركة كنيسة الاسكندريّة. لقد كان آريوس قد وعد الأمبراطور بأن يضع كل المسائل غير الضروريّة جانبًا ويُركّز على خدمته. بالنسبة لنفي القدّيسين كأثناسيوس الكبير وأفستاسيوس الإنطاكي، يقول ثيودوريت في التاريخ الكنسيّ[20].

أنشأ مدينة القسطنطينيّة وأصبحت عاصمة الامبراطوريّة في 11 أيار سنة 330. أمّه هيلانة ذهبت إلى الأراضي المقدّسة سنة 327 لأجل تتبّع الأماكن المقدّسة من حياة المسيح. فتمّ اكتشاف المغارة في بيت لحم، التي وُلد فيها المسيح. وكان مكاريوس، أسقف أورشليم قد اكتشف القبر المقدّس حيث دُفن المسيح، وأمّه هيلانة اكتشفت الصليب الّذي عليه صُلب المسيح.

إنّ ما يُذكر عن تقدمة قسطنطين للبابا the donation of Constantine، وثيقة مزيّفة من القرن الثامن تدّعي أن قسطنطين قد سلّم البابا السلطة الكاملة الأرضيّة والسماويّة للبابا سلفسترس وخلفائه. لكن تمّ اكتشافها أنّها مزوّرة من الغربيّين أنفسهم، خاصّة بشكل حاسم سنة 1440، مع لورنزو فالا Lorenzo Valla.

 

[1] Both Socrates (5. 17) and Sozomen (7. 15) relate that symbols of the cross found in a temple of Serapis, on its destruction by Theodosius, were explained by the Christians of the time as symbols of immortality.

[2] في السنة ذاتها، 312، عاين قسطنطين أيضًا في رؤيا الحرفين الأوّلين من كلمة المسيح في اليونانيّة ΧΡ، وقد اصبح هذا شعارًا مسيحيًّا ظهر على خوذة قسطنطين منقوشًا على عملة تحمل رسمه من سنة 315. وكان الأمبراطور يستخدم هذه العلامة الخلاصيّة كحماية ضدّ كل القوات المعادية، وقد امر بأن توضع هذه العلامة على رؤوس كل جيشه.

[3] (V. C. 4. 4). It was “scarcely possible to be near him without benefit” (V. C. 1. 43; cf. V. C. 3. 16; 3. 22; 4. 44).

[4] إنّ اضطهادات المسيحيّين في شمال أفريقيا دفعت البعض لتسليم الكتب والأواني المقدّسة إلى السلطات المدنيّة. هذا اعتبره البعض خيانة للمسيح. والأسرار التي تمّت على أيدي هؤلاء الاكليريكيّين اعتبرت باطلة، خاصّة المعموديّة، وينبغي أن تُعاد. موقف الاكليريكيّين في قرطاجة رفض هذا التطرّف واعتبر أن الأسرار التي تمّت على أيديّ هؤلاء هي قانونيّة وصحيحة. لكن جماعة سمّوا الدوناتيّين، نسبة لزعيمهم دوناتوس، أصرّوا على عدم قانونيّة الأسرار التي تمّت على أيدي كهنة أو اساقفة ساقطين. هؤلاء فصلوا أنفسهم عن إخوتهم الباقين لكي يُحافظوا على نقاوة جماعتهم. هذه كانت بداية الإنشقاق الدوناتيّ الّذي خضّ الكنيسة كلّها في شمالي افريقيا لمدّة قرن تقريبًا. حين صُدّوا في قرطاجة رفعوا قضيّتهم إلى الأمبراطور. قبل حوالي 40 سنة طلب الأساقفة الشرقيّين من الامبراطور أورليان Aurelian، أن يطرد الأسقف بولس السميساطي من كنيسة إنطاكية، لأنّه رفض أن يتركها بعد قرار الأساقفة في المجمع الكنسيّ الّذي عقدوه لهذه الغاية. هذا بالرغم من أن الأامبراطور لم يكن مسيحيًّا. أنظر:

Eus. HE 7.30.19. Eusebius goes on to say (HE 7.30.20–1) that Aurelian was planning a persecution when he was killed, a charge repeated by Lactantius (DMP 6.1–3); Noel Lenski, the Age of Constantine, Cambridge University Press 2006, U.S.A. p. 117.

[5] أفسافيوس القيصريّ، (VC. 3, 12, 2-5

[6] Dositheos, From The Synaxaristes of the Twelve Months of the Year - May 21. Translated by John Sanidopoulos, p. 217 of the Dodekavivlos.

[7] (Ep. synod. in Socr. 1. 9; Theodoret, 1. 8).

[8] Excerpt from The Oration of Constantine, S. C., Chapter XIV.

[9] Eusebius Pamphilius, Church History, Life of Constantine, Oration in Praise of Constantine, T&T Clark, Edinburgh, p. 1075.

[10] Our author was commonly known among the ancients as Eusebius of Cæsarea or Eusebius Pamphili. The former designation arose from the fact that he was bishop of the church in Cæsarea for many years; the latter from the fact that he was the intimate friend and devoted admirer of Pamphilus, a presbyter of Cæsarea and a martyr.

[11] Noel Lenski, the Age of Constantine, Cambridge University Press 2006, U.S.A. p. 79.

[12] “I consider the greatest salvation to be repentance.”  OC, 11, 1; Noel Lenski, the Age of Constantine, Cambridge University Press 2006, U.S.A. p. 128.

[13] OC. 11, 1; Noel Lenski, the Age of Constantine, Cambridge University Press 2006, U.S.A. p. 128.

[14] OC. 11, 4-6; Noel Lenski, the Age of Constantine, Cambridge University Press 2006, U.S.A. p. 128-129.

[15] سابيليوس، أنكر وجود الابن والروح القدس كأشخاص، أي اعتبر الثالوث على أنه أشكال مختلفة لحضور الله وعمله في العالم. سابيليوس هو أول من علّم أن الثالوث هو مجرد ثلاث ظهورات أو استعلانات لشخص الله الواحد. وانه بعد إتمام عمل الفداء عاد إلى وحدته الذاتية الأولى. فالآب هو استعلان الله في العهد القديم بإعطائه الناموس، والابن استعلان الله نفسه في التجسد، والروح القدس استعلان الله نفسه في الوحي. استعلان الابن انتهى بالصعود. وبقي استعلان واحد لله هو الروح القدس الّذي يعمل الآن في الزمن الحاضر.

Eusebius Pamphilius, Church History, Life of Constantine, Oration in Praise of Constantine, T&T Clark, Edinburgh, p. 24-30.

[16] القدّيس إيرونيموس يقول عنه أنّه اعتمد معموديّة آريوسيّة. Jer. Chron. s.a. 337; cf. Aiello 1992b for the historiographic tradition on this lemma.

[17] هناك أسقفان مصريّان لم يُوقّعوا قانون الإيمان فحُكم عليهما بالنفيّ مع آريوس إلى إليّريّا Illyria. هناك أسقف آخر، إضافة إلى أفسافيوس، الّذي وقّع دون أن يُوافق على الأناثيما، وهو ثيوغنيس أسقف نيقيا.

Eusebius Pamphilius, Church History, Life of Constantine, Oration in Praise of Constantine, T&T Clark, Edinburgh, p. 33.

[18] in his epistle to Paulinus contained in Theodoret’s Hist. Eccles. I. 6.

[19] Euseb. lib. adv. Marcell. I. 4.

[20] "It ought not to excite astonishment that Constantine was so far deceived as to send so many great men into exile: for he believed the assertions of bishops of high fame and reputation, who skilfully concealed their malice. Those who are acquainted with the Sacred Scriptures know that the holy David, although he was a prophet, was deceived; and that too not by a priest, but by one who was a menial, a slave, and a rascal. I mean Ziba, who deluded the king by lies against Mephibosheth, and thus obtained his land. It is not to condemn the prophet that I thus speak; but that I may defend the emperor, by showing the weakness of human nature, and to teach that credit should not be given only to those who advance accusations, even though they may appear worthy of credit; but that the other party ought also to be heard, and that one ear should be left open to the accused." (Ecclesiastical History, Bk. 1, Ch. 31)