العدد 18 في 1 آيار 2022
لم يكن أحد توما، لِتوما وحدَه؛ إنّما للمسيح أيضًا، لأنّه يعالج مسألة إيمان توما، ولكن يشهد أيضًا لحقيقة قيامة المسيح. فقبْل اعترافه الكيانيّ بالقيامة، واجه توما حقيقةَ قيامةِ المسيح كمسألةٍ يستحيل على المنطق العقليّ تصديقُها؛ لهذا، صدمت هذه الحقيقة كلّ طريقة تفكيره عند رؤيته الرّبَّ القائم (يو28:20)؛ وهذه الصّدمة، ماثلت تلك الّتي واجهها إشعياء النّبيّ عند رؤيته "الملك ربّ الجنود" (أش5:6). وبهذه المعاينة، عرف توما خطيئةَ عدمِ إيمانه: أنّه لو "آمن ولم يرَ"، لكان عرف الرّبّ القائم بكلّ كيانه البشريّ، لا بجزء منه، هذا الجزء المسبيّ بالمنطق وحده.
لقد خُلق الإنسانُ منذ البدء، لكي يعرفَ الله. وهذه المعرفة، ليست نظريّةً عقلانيّةً؛ إنّما كيانيّة. وطريق هذه المعرفة، هي الإيمان: الإيمان الحقيقيّ بالله يقود إلى معرفةٍ حيّةٍ لله، لا بل هذا الإيمان نفسه يتحوّل إلى معرفة، والمعرفة إلى شركة حياة أبديّة. هذا هو معنى ما قاله المسيح: "هذه هي الحياة الأبديّة، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقيّ وحدَك ويسوع المسيح الّذي أرسلتَه" (يو3:17). معرفة الله الّتي تولد من الإيمان، تتجاوز - بما لا يُقاس- معرفةَ الله الّتي تولد من قناعةٍ عقليّة: فالأخيرة تكشف لنا أشياءَ حول الله؛ لأنّها تستند على الحكمة البشريّة؛ أمّا الأولى فتكشف لنا الله ذاته؛ لأنّها تقوم على الاستنارة الإلهيّة.
الأكثريّة السّاحقة من المسيحيّين، تكتفي بهذا الإيمان النّظريّ، والعقليّ. مثل هؤلاء، تكون حياتُهم مع الله، علاقةً خارجيّةً لا تمسّ كيانَ الإنسان، ولا قلبَه الدّاخليّ: إنّها نوعٌ من رباطٍ اجتماعيّ مع الله، يقوم على مبادئَ أخلاقيّة. ليس العقلُ مرفوضًا في الأرثوذكسيّة، لكنّ الاستنادَ عليه وحدَه، شكّل دائمًا خطرًا حقيقيًّا على مسيرة إيمان المسيحيّين بالله. إنّ خلاصَ الإنسان، ليس مسألةً عقلانيّة، أو إيماناً عقليًّا بكلّ ما فعله الله في تدبير الصّليب لأجل خلاص الإنسان؛ إنّما هو إيمانٌ مطلقٌ يتضمّن اختبارًا كيانيًّا لحضور المسيح. إنّ كيان الإنسان الحقيقيّ، هو الرّوحُ لا العقل؛ لهذا، إنّ جواب المسيح لتوما "طوبى لمن آمن ولم يرَ"، أظهر أنّ الله يتنازل، ويكشف أسرارَه للإنسان الّذي يُسلّم ذاتَه بالإيمان له، بطريقة أسراريّة، وبطريقةٍ مستيكيّة mystical، تتجاوز محدوديّةَ العقل، لتكون للإنسان فرصةُ معرفةِ الله بكلّ كيانِه وروحِه. لهذا يقول الرّسول: "لا يمكن إرضاؤه من دون إيمان" (عب6:11). يقول القدّيس مكاريوس الكبير، إنّ المعرفة الّتي تعمل بالإيمان، وحدَها تجعل النّفس مستحقّة لتلقّي "معرفة الأسرار الإلهيّة"، والدّخول بالإيمان في شركة الحياة الإلهيّة.
حقًّا، إنّ سموّ الله وعظمةَ مجدِه، يفوقان قدرة الإنسان العقليّة. فالإيمان الّذي يتكلّم عنه الآباء، هو قدرةُ النّفسِ على تجاوزِ قدرةِ الإدراك البشريّة، وتقبّلِ خبرةِ الحضور الإلهيّ فيها. يقول القدّيس سمعان اللّاهوتيّ الجديد: "إنّ الألوهة، أي نعمة الرّوح الكلّي قدسه، لا تكشف ذاتها لإنسانٍ خارجَ الإيمان". ليس هذا الإيمان الحيّ، أمرًا يتحقّق مرّةً وإلى الأبد - كما هو لدى البدعِ الإنجيليّة والمعمدانيّة البروتستانتيّة - لأنّ هذا، يجعل من الله صنمًا وليس إلهًا حيًّا. الإيمانُ هو مسيرةُ نموّ في تسليم الإنسان لذاته ولمشيئته لله، بثقةٍ تتجاوز كلَّ شكّ بحضورِه وعنايتِه وصلاحِه. ينتهي الإيمانُ، ويكتملُ عند المسيح نفسِه: الإيمان الحقيقيّ - بحسب آبائنا القدّيسين - ليس شيئًا آخر غير يسوع المسيح. يقول القدّيس إغناطيوس الإنطاكيّ: "الإيمان الكامل هو يسوع المسيح". لهذا يعي الإنسان أنّ الإيمان الكامل لا حدّ له، وهو يفوق كلَّ قوى إدراكِه العقليّة. يقول كاتب المزامير: "معرفتُك عجيبةٌ جدًّا تفوق طاقتي، وفي غاية الصعوبة؛ فلا أستطيع إدراكَها" (مز6:138). فمعرفة الله الآتية من الإيمان، هي شركةٌ مباشرة للإنسان مع الله، وتحقيقٌ للكمال المدعوّ إليه. المعرفة الكاملة هي ذاتها تألّه الإنسان، وهذه العقيدة تشكّل قاعدةَ خلاصِ الإنسانِ في مسيرة الإيمان الأرثوذكسيّ.
الإيمان الحيّ، يتكلّم في القلب الّذي تنقّى من الأهواء والخطايا كلِّها، وحقّق الفضيلةَ كلّها. من يقتنِ هذا القلبَ، يلتقِ بخالقِه؛ فيعرفه معرفةَ شخصٍ لشخص. يقول القدّيس بالاماس: "لأنّك إن درسْتَ الفلسفةَ الطبيعيّةَ كلَّها منذ آدم حتّى النّهاية، فستبقى، بدون النّقاوة، أحمقَ لا حكيمًا". فدرجة صفاء العين الكبيرة، لا تكمن في وضوحِ الأشياء الخارجيّة الّتي تنظر إليها فحسب؛ إنّما في عدم وجود أيّ غشاوةٍ، أو ظلمةٍ داخليّةٍ فيها.
إنّ نزعَ الغشاوة، والظّلمةِ الدّاخليّة عن عينَي الذّهن، يحتاج إلى جهادٍ روحيٍّ متواصلٍ، ونموٍّ في حياة النّسك، والتّقوى، وإنكار الذّات. إنّه الإيمانُ الّذي يقود إلى معرفة الحقّ؛ الإيمانُ الّذي لا يجد قاعدتَه الصّلبة، إلّا في التّقوى والتّواضع. لهذا، ولكي تتجاوزَ المعرفةُ كلَّ حكمةٍ بشريّةٍ، وتصيرَ طريقًا إلى الحقّ وأداةً للخير- بحسب القدّيس بالاماس - لا بدّ من أن يسبقَها قتلُ الأفعى أوّلاً؛ "أي بعد التغلّب على الكبرياء الّذي يأتي من هذه الحكمة". التّكبّر يجعل المعرفةَ مُتقبّلةً لإيحاءاتٍ شيطانيّةٍ، فتصير لاحقًا عرضةً لكلّ انحرافٍ عقائديٍّ.
لهذا السّبب بالتّحديد، يرتبط الإيمان الأرثوذكسيّ باللّاهوت الآبائيّ الّذي تعلّمه الكنيسة؛ لاهوتِ القدّيسين المتواضعين، ومعايني أسرارِ الله. اللّاهوت العقلانيّ الدّراسيّ، يولّد مفاهيمَ نظريّةً جامدةً، تصيّر الإيمانَ طريقةَ حياةٍ أخلاقيّةٍ، وتحديداتٍ ناموسيّة؛ فيما الإيمان الحيّ، المستنِد على لاهوتٍ نسكيٍّ مطهِّرٍ للأهواء، يقود إلى معاينة أسرار الله. حين قال الرّسول: "عظيمٌ هو سرّ التّقوى، الله ظهر في الجسد..." (1تيم16:3)، فهو قد أوضح إنّ التّقوى، هي المدخل إلى أسرار الإيمان، وإلى الحقائق المتعلّقة بإعلانات الله.
كان عدمُ حضورِ توما مع الرّسل، عملًا تدبيريًّا ذا هدفٍ جوهريٍّ، ألا وهو إرادة المسيح شفاءَ هذا الشّكّ والنّقص الحاصلان في إيماننا. من الغريب أن يطلب الرّبُّ من الإنسان أن يؤمنَ به من دون أن يراه، ويُصرَّ على هذا الطّلب؛ ذلك لأنّ الإيمان، هو عطيةٌ وكشفٌ من الله ذاته، وينبغي للإنسان أن يفتحَ قلبَه - لا عقله فقط - لهذه العطيّة الإلهيّة. سيُسأل الإنسانُ عن إيمانه في يوم الدّينونة؛ ولهذا يصبر اللهُ على قلّة إيماننا، ليشفيَنا ويُخلّصَنا، لا ليرضخَ لضعفِنا.
بقوله: "هاتِ إصبعك ويدك..."، أظهر المسيح محبّةً لا تنتهي، وصبرًا لا يملّ من أجل خلاصِنا. وهو بادر بالطّلب قبل أن يسألَه توما، فقدّم له جسدَه وجراحَه. لقد تنازل المسيحُ لضعفِ تلميذه، كما يتنازل دومًا لضعف البشر، ويَقبل أن يُشكَّك به وبعملِه الخلاصيّ. بتواضعٍ كثيرٍ، قَبِل شكَّ تلميذِه الّذي رافقه ثلاثَ سنواتٍ نهارًا وليلاً. عاتبَه، لكن لم يُدِنه؛ لأنّه اعترف وتاب. وإلى اليوم، إن لم يعشِ المسيحيّون قيامةَ مسيحِهم بالرّوح الحيّ، وبالصّلاة والصّوم، وتعب النّسك - لا بالعقل المحدود - فإنّهم يحيَون من دون مسيحٍ، إلى أن يأتيَ وقتٌ نصرخ فيه من أعماق قلوبِنا: "ربيّ وإلهي". غير ذلك، سيظلّ إيمانُنا نظريًّا، دون وجودٍ فعليٍّ للرّبّ الغالب؛ سيكون إيمانًا لا حياة فيه؛ إيمانًا خاليًا من المواهب الرّوحيّة، والنّعمة، والخلاص.