خصائص الكنيسة،

(الجزء الرّابع والأخير)

القدّيس يوستينوس بوبوفيتش. 

 

رسوليّة الكنيسة: 

إنّ الرّسل القدّيسين هم أوّل أناس- آلهة بالنّعمة. يستطيع كلُّ واحدٍ منهم، على مِثال الرّسول بولس، أن يقول عن نفسه، وذلك بالإشارة إلى حياته: «أَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلا 20:2). كلّ واحد منهم هو مسيحٌ آخرُ، أو بتعبيرٍ أصحّ، هو امتدادٌ للمسيح. كلّ شيء فيهم هو إلهيٌّ- إنسانيٌّ، لأنّهم نالوا كلّ شيء من «الإله-الإنسان». ليست الرّسوليّة سوى كَون الرّب المسيح إلهًا- إنسانًا، واتّخاذ هذا الكيان إراديًّا من خلال الفضائل الإلهيّة: الإيمان، والمحبة، والرّجاء، والصّلاة، والصّوم... هذا يعني أنّ كلّ إنسانٍ يحيا فيها بِحُرّية من خلال الإله-الإنسان، ويفكّر من خلال الإله-الإنسان، ويحسّ من خلال الإله-الإنسان، ويعمل من خلال الإله-الإنسان، ويشاء من خلال الإله-الإنسان. الإله-الإنسان التاريخيّ، الرّب يسوع المسيح، هو بالنّسبة للرّسل القيمةُ والمعيارُ الفائقان. كلّ شيء فيهم، هو من الإله-الإنسان، وبه ولأجله؛ هذه هي حالهم في جميع الأوقات والأماكن. هذا هو عدم الموت، بالنّسبة لهم، في البُعد الزَّمَني والمكانيّ في هذا العالم. بهذا يشتركون، حتّى هنا على الأرض، بأبديّة المسيح الإلهيّة-الإنسانيّة.  

تستمرّ الرّسوليّة الإلهيّة-الإنسانيّة بِمِلئها هنا على الأرض عبر خلفاء الرّسل حاملي المسيح، أي الآباء القدّيسين. لا يوجد أيّ فرق جوهريّ بينهم؛ الإله-الإنسان الواحد ذاته، المسيح، يحيا ويعمل بهم ويمنحهم حياةً أبدية؛ هو الذي «هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ» (عب 13: 8). إنّ حياة الرّسل القدّيسين مستمرّة من خلال الآباء القدّيسين مع كلّ غِناهم، وعالمهم، وأمورهم الرّوحية، وأسرارهم وفضائلهم الإلهيّة-الإنسانيّة جميعها. إنّ الآباء القدّيسين يتمّمون بالحقيقة دور الرّسل بكونهم بشكلٍ خاصّ قريبين من الإله-الإنسان، بصفتهم أساقفةً للكنائس المحليّة، ومُشارِكين في المجامع المقدّسة المسكونيّة والمحليّة. بالنّسبة لهم هناك حقيقة واحدة فقط، حقيقة واحدة مُطلقة: «الإله-الإنسان»، الرّب يسوع المسيح. ها المجامع المسكونيّة المقدّسة، من أوّلها إلى آخرها، تعترف، وتجاهر، وتؤمن بالتّعليم الأسمى، محافِظةً عليه ومعلِنةً إيّاه: الإله-الإنسان، الرّب يسوع المسيح. 

إنّ التّقليد الأعظم للكنيسة الأرثوذكسيّة هو بالحقيقة المسيح «الإله-الإنسان» الحيّ، الحاضر بِمِلئه في جسد الكنيسة الإلهيّ- الإنسانيّ، والّذي هو رأسها الأبديّ غير المائت. هذا ليس البشرى السارّة فحسب، بل البشرى السارّة المطلَقة التي كَرَزَ بها الرّسل والآباء القدّيسون. لا يعرفون شيئًا سوى المسيح مصلوبًا، قائمًا وصاعدًا. يشهدون كلّهم بصوت واحدٍ، بكلّ حياتهم وتعاليمهم: المسيح الإله-الإنسان هو في كنيسته بِمِلئه كما هو في جسده. كلّ واحد من الآباء القدّيسين يستطيع القولَ حقًّا مع القدّيس مكسيموس المعترف: «لا أقول شيئًا من عندي البَتّة، ولكن أقول ممّا تعلّمتُه من الآباء، دون تعديل أيّ شيء من تعليمهم». 

يلقى الاعتراف المجمعيّ لجميع الآباء الممجّدين من الله صدىً في أعمال القدّيس يوحنّا الدّمشقي الخالدة: «كلّ ما أُعطيَ لنا من خلال القوانين والأنبياء والرّسل والإنجيليّين، نقبله ونعرفه ونُجِلُّه ولا نسعى لشيء أكثر من هذا... فلنمتلئ به ونسترح فيه ونحفظ «التُّخْمَ الْقَدِيمَ» (أمثال28:22) ولا نَنتَهِك التّقليد الإلهي». ثم تأتي النّصيحة الأبويّة المؤثّرة للدّمشقيّ إلى المسيحيّين الأرثوذكسيّين جميعهم: «وبالتّالي، فلنُثَبِّت أنفسنا يا إخوتي على صخرة الإيمان وتقليد الكنيسة، من دون أن نزيل المعالم الّتي وضعها آباؤنا القدّيسون؛ ومن دون أن نُفسِح المجال لأولئك الّذين يرغبون بإدخال البِدع والازدراء بِقِوام كنيسة الله المقدّسة، الجامعة الرّسوليّة. لأنّه إن كان بإمكان كلّ واحدٍ أن يفعل ما يشاء، فسوف يُدمَّر جسدُ الكنيسة بأكمله شيئًا فشيئًا». 

ينحدر التّقليد المقدّس بكامله من «الإله-الإنسان»، من الرّسل القديسين، من الآباء القديسين، من الكنيسة، في الكنيسة وبواسطة الكنيسة. إنّ الآباء القدّيسين ليسوا سوى «حرّاس التّقليد الرّسولي». جميعهم، كما الرّسل القدّيسين، ليسوا سوى شهودٍ للحقيقة الواحدة والوحيدة، الحقيقة المطلقة: المسيح «الإله-الإنسان». إنّهم، «الأفواه الذّهبية للكلمة (للوغوس)»، لا ينفكّون عن الإقرار والاعتراف بهذه الحقيقة. إنّ «الإله-الإنسان»، الرّب المسيح هو واحدٌ، لا نَظير له، وغير منقسم. كذلك الكنيسة، التي هي تجسّد المسيح الإله-الإنسان، والمستمرّة عبر العصور وإلى الأبد، هي أيضًا فريدة، لا نظير لها، وغير منقسمة. كونها على هذه الحال بالطّبيعة وبتاريخها الأرضيّ، فلا يمكن للكنيسة أن تنقسم. يمكن للبعض فقط أن يسقطوا منها. هذه الوحدة وهذه الفرادة التي للكنيسة هي إلهيّة-إنسانيّة بالطّبيعة منذ البدء وعبر العصور وإلى الأبد. 

الإرث الرّسولي، أي التّسلسل الرسولي، هو من البداية حتّى النّهاية إلهيّ-إنسانيّ بالطّبيعة. ما الّذي ينقُلُهُ الرّسل القديسون إلى خلفائهم كميراث لهم؟ إنّه الإله-الإنسان، الرّب المسيح ذاته؛ المسيح الذي هو رأس الكنيسة هو رأسها الوحيد. إن لم يُسلَّم بهذا- وعندها يتوقّف التّسلسل الرّسولي عن أن يكون رسوليًّا- عندها لن يعود هناك أيّ تقليدٍ رسوليّ ولا أيّ تسلسل رسوليّ ولا أيّة كنيسة رسوليّة. 

التّقليد المقدّس هو إنجيل الرّب المسيح، وهو الرّب المسيح نفسه، الّذي يُرَسِّخُهُ الرّوح القدس في كلّ نفسٍ مؤمنة، في الكنيسة بأكملها. كلّ ما هو للمسيح يصبح بقوّة الرّوح القدس لنا في جسد الكنيسة. الرّوح القدس، روح الكنيسة، يُنمّي كلّ مؤمن، بجعله خَلِيّةً في جسد الكنيسة، وشريكًا «في الجسد نفسه» مع «الإله-الإنسان» (أفسس 6:3). في الحقيقة، إنّ الرّوح القدس، بنعمته، يُصيَّرُ كلُّ مؤمنٍ إلهًا-إنسانًا. ما هي الحياة في الكنيسة إذن؟ ليست شيئًا سوى عمليّة تَصيير كلّ مؤمنٍ إلهًا-إنسانًا بالنّعمة، وذلك عبر فضائله الإنجيليّة، ودخوله في المسيح والكنيسة، وصَيرورته واحدًا معهم. حياة المسيحيّ بأكملها هي كَشفٌ إلهيّ متواصلٌ مرتكزٌ على المسيح: ينقل الرّوحُ القدسُ المسيحَ لكلّ مؤمنٍ من خلال الأسرار المقدّسة والفضائل، فيصير (أي المؤمن) تقليدًا حيًّا: «...الْمَسِيحُ حَيَاتُنَا» (كولوسي 4:3). وهكذا يصبح كلّ ما للمسيح مُلكًا لنا إلى الأبد: حقيقته، وبِرّه، ومحبّته وحياته، وأقنومه الإلهيّ بأكمله.  

ما هو التّقليد المقدّس؟ هو «الإله-الإنسان»، الرّب يسوع المسيح نفسه مع كلّ غنى شخصه الإلهيّ، ومن خلاله ولأجله، وكلّ غنى الثالوث القدّوس. يُعطى هذا بملئه ويُعَبَّر عنه بالقدّاس الإلهيّ حيثُ يتحقّق ويتجدّد التدبير الخلاصي الإلهي-الإنساني كلّه الذي للمُخلّص، من أجلنا ومن أجل خلاصنا. يكون «الإله-الإنسان» حاضرًا هناك بملئه، مع كلّ هِباته العجيبة والعجائبيّة، كما هو حاضرٌ في صلوات الكنيسة كلّها وفي أسرارها المقدّسة. بهذا كلّه، يلقى إعلان المخلّص المحبّ البشر صدىً دائمًا: «وَهَأَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (متى 20:28): إنّه مع الرّسل، ومن خلالهم مع المؤمنين جميعهم حتّى نهاية العالم. هذا هو ملء تقليد الكنيسة الأرثوذكسيّة الرّسوليّة المقدّس: الحياة في المسيح هي الحياة في الثّالوث القدّوس؛ النّموّ في المسيح هو النّمو في الثّالوث القدّوس. 

من المهم جدًّا أن نذكر التّالي، في كنيسة المسيح الأرثوذكسيّة، يشمل التّقليد المقدّس الحيّ والمعطي الحياة دائمًا: القداسَ الإلهي، والخدم الإلهيّة كافّةً، والأسرار المقدّسة، والفضائل الإلهيّة، مع الحقيقة الإلهيّة الكاملة، أي البِرّ والمحبّة والحياة الأبديّة، و«الإله-الإنسان» بملئه، والرّب المسيح، والثّالوث القدّوس، وحياة الكنيسة الإلهيّة-الإنسانيّة بكمالها، مع والدة الإله الفائقة القداسة والقدّيسين جميعهم. 

إنّ شخص «الإله-الإنسان»، الرّب المسيح، المتَجَلّيَ في الكنيسة، والغائصَ في بحر النّعمة اللّامحدود أي في الصّلاة واللّيتورجيا، والحاضرَ دائمًا في الإفخارستيّا وفي الكنيسة، هو المثال الحيّ للتّقليد المقدّس. هذه البشرى السارّة الأصيلة هي مُعلَنَة ومُعتَرَف بها من قِبَل الآباء القدّيسين والمجامع المسكونيّة المقدّسة. يُحفَظ التقليد المقدّس بالصلاة وبالتقوى من كلّ شر بَشَريّ ومن الإنسانويّة الشيطانيّة. إنّ الربَّ المسيح، الّذي هو تقليد الكنيسة الأبديّ، حاضرٌ بملئه. «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ» (1 تيمو 16:3)؛ ظهر كإنسان، كإله-إنسان، ككنيسة. وبعمله الإلهيّ-الإنسانيّ الخلاصيّ ومحبّته للبشر وبتأليهه للبشريّة، قد عظّم مجدَ الإنسان ورفعه فوق الشّاروبيم والسّارافيم. 

 

Popovich, Archimandrite Justin. The Orthodox Church and Ecumenism. Translated by Benjamin Emmanuel Stanley, Lazarica Press, 2000. P. 51, 55.