الأرشمندريت غريغوريوس أسطفان
عن نشرة الكرمة، عدد 5، 2022
الأحد 30 كانون الثاني 2022
الأحد 15 من لوقا
يمكن أن يُقال عن القرن الرابع الميلاديّ إنّه كان أقسى قرنٍ عرفته الكنيسة، من حيث خطر الهرطقات التي واجهتها. لكنّ الربّ الّذي لم يترك نفسه من دون شاهد في كلّ زمن أرسل شهودًا عظماء بمقدار عظمة الخطر الّذي كان يُواجه الكنيسة. هؤلاء الّذين دُعُوا لاحقًا الأقمار الثلاثة، وهم باسيلوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتيّ ويوحنّا الذهبيّ الفم، واجهوا هرطقات القرن الرابع وثبّتوا الحقيقة الإلهيّة، بالنعمة الكبيرة التي أُعطيت لهم.
هؤلاء فهموا أنّ خطر الهرطقات على الكنيسة ليس وهميًّا، كما نعتقد اليوم، وتغيير حرف واحد في الإيمان يطال الإيمان كلّه. جهادهم لأجل الحقيقة دفعهم ليصوغوا عقائد الإيمان الأساسيّة، خاصّة فيما يتعلّق بعقيدة الثالوث. وهذا ما دفع الكنيسة لتطلق عليهم أعظم الألقاب، "معلّمي المسكونة"، الّذين "أناروا العالم بأشعّة عقائدهم". ودُعوا أيضًا "بحر لا ينفذ من العقائد".
كيف استطاع هؤلاء القدّيسون أن يصيروا آباء للكنيسة ومعلّمين للمسكونة؟ بالطبع لم يكن يكفي تعليمهم ليصيروا هكذا، وإنّما مثالهم الحيّ. أطاع هؤلاء الآباء الكنيسة وإيمانها وقوانينها. علّموا أنّ هذه الطاعة ينبغي أن تكون كاملة ومطلقة، وهي لا تُفرض بالقوّة إنّما بالمحبّة وبحريّة الإرادة؛ الطاعة تُفرض حين لا يبقى مكان للتواضع في النفس البشريّة؛ والقوانين هي وسائل تربويّة لتساعد الإنسان الخاضع للأهواء على العمل بمشيئة الله.
جهادهم الروحيّ لأجل التنقية الداخليّة الّتي تتمّ بالمسيح يسوع، لا يُفهم بمعنى حقوقيّ وناموسيّ، لكن يقوم على تعليم الكنيسة العقائديّ حتّى يكون حقيقيًّا، ولكي تستمرّ علاقة الإنسجام بين الإيمان والعمل. هذا ما اجتذب النعمة الإلهيّة وجعل تعليمهم ملهمًا من الله، وأن يُصبحوا آباء حقيقيّين للكنيسة الجامعة.
حقّق هؤلاء الآباء التواضع الكافي الّذي جعلهم مستحقّين لأن ينموا في كلّ فضيلة ويشتركوا في نعمة الروح القدس. مقتوا التكبّر والاستعلاء وحبّ السلطة. لم يطلبوا مجدًا من الناس ولا أن يكونوا معروفين من الناس.
أيّة جهادات روحيّة ونسك وموت عن العالم حقّقه هؤلاء القدّيسون حتّى استطاعت نفوسهم أن تصير صلبة بهذه القوّة لا تنحني أمام الموت نفسه ولا أمام تهديدات رؤساء هذا الدهر. عاشوا بالروح والجسد ملء آلام الكنيسة واضطهاداتها، لكن أيضًا ملء النعمة التي فيها وثباتها في الحقّ.
لم يكن لهؤلاء الآباء طموحٌ أرضيّ، لا ليصيروا أساقفة ولا لأيّ مركز آخر أكان كنسيًّا أو مدنيًّا. الطموح للوصول إلى مركز كنسيّ، خاصّة الأسقفيّة، يُحطّم كلّ سلام داخليّ ونموّ روحيّ في قلوب طالبيه.
وفي الوقت ذاته يجعل خدمة الكاهن في شعبه خاليةً من كلّ ثمر روحيّ. أصبحوا رؤساء كهنة من دون إرادتهم، الله أرادهم. قبلوا الأسقفيّة محبّة بالمسيح وكنيسته، مدفوعين بغيرة عظيمة على حفظ الإيمان الأرثوذكسيّ المقدّس. الطموح للأسقفيّة والمجد الباطل يبذران في النفس كلّ أنواع الأهواء المقيتة، الغضب، الكذب، الحسد، الافتراء، صغر النفس...
الفضيلة العظمى والوصيّة الأولى، بالنسبة لهؤلاء الآباء، هي محبّة الله، إنّها قمّة الفضائل، هي التي تدفع الإنسان لإكمال مشيئة الله قبل كل شيء آخر. يقول القدّيس باسيليوس: "عندما نتوقّف عن المحبّة، نكون قد فقدنا صورته". لهذا تشكّل المحبّة رباط الإنسان مع الله ومع القريب.
ففي زمن الإنقسامات المرّة بسبب الهرطقات، حيث، كما يقول: "قد بردت المحبّة عند الجميع"، أسّس قدّيسنا شركات رهبانيّة، تقوم على أساس المحبّة الحقيقيّة. فالرهبنة تُعيد إلى هذا العالم الرباط الروحيّ، رباط السلام والنعمة الموحِّدة لكلّ الأشياء.
وكان باسيليوس يقول: "إنّنا نشعر بجوع متزايد إلى المحبّة". فقدّيسنا كان يعي أنّ المحبّة ليست نظريّة، والشركات الرهبانيّة ضرورة، لأن المحبّة القويّة تحتاج إلى الحياة النسكيّة لتتغذّى وتستمرّ وتنمو.
لأجل محبّة الله على المؤمن أن يحفظ نعمة المعموديّة الّتي أعطانا الله إيّاها مجّانًا. لأنّ الخطيئة الّتي يرتكبها بعد المعموديّة، بحسب اللاهوتيّ غريغوريوس، تحتاج إلى تعب وجهاد، إلى تنهّدات ودموع كثيرة لكي يشفى جرح الخطايا. يقول: "كم من الدموع يجب أن نقدّم لتتساوى هذه الدموع مع نهر المعموديّة".
لا ينبغي أن نخاف شيئًا في هذه الحياة أكثر من الخطيئة، لذلك كانت حملات الذهبيّ الفم عنيفة ومتواترة على الخطيئة والتحذير من شرورها. يقول: "لا توجد كارثة للبشريّة أهول من شرّ الخطيئة. لا الفقر ولا المرض ولا الشتيمة ولا النميمة ولا العار ولا الموت المزعوم أشدّ الشرور بأسرها"؛ الشرّ الكبير هو إهانة الله بالخطيئة وعمل ما لا يُرضيه.
لقد كانت الكنيسة وشعبها هاجس الآباء الكبادوك، ويزداد هذا الهاجس حين تقوى الهرطقات. كانوا يخشون على شعبهم من الذئاب ومن التهاون، ويتحرّقون غيرة على خلاصهم. كانوا يدفعون شعبهم للحفاظ على غيرتهم المقدّسة، والكهنة على نشر كلمة الله بين غير المؤمنين.
في كلامهم عن واجبات الكاهن في تعليم حقائق الإيمان، يوصي القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ أنّه من واجب الكاهن أن يُعلّم ويشرح للشعب العقيدة المسيحيّة وأسرار الإيمان في العمق.
ينبغي عليه أوّلاً أن يُجاهد لأجل عطيّة الفهم الدقيق للعقائد، وكيفيّة نقلها إلى الشعب بطريقة تستجيب لحاجاتهم. عليه أن يُعالج ما هو روحيّ بطريقة روحيّة، وهذا يتطلّب منه أن يعيش حياة تقوى ويرى الصلاح الموجود في الآخرين. ينبغي أن يكون له كلمة مناسبة جاهزة لتُجيب عن كلّ ما يحصل في الحياة.
فالكاهن، بالنسبة لهم، هو المحرّك الأوّل لغيرة الشعب على الخلاص. لهذا عليه أن يُحافظ هو نفسه على غيرة مقدّسة لا تتعب، مهما قست الظروف وتتالت التجارب، ثابتًا في الصبر والرجاء. هذه الغيرة المقدّسة هي التي تدفعه ليطلب بدون توقّف ملكوت السماوات وخلاص المؤمنين، ويُقدّم نفسه ذبيحة لأجل شعبه، محبّة بالمسيح.
لقد أوكل الكاهن مسؤوليّة خلاص النفوس، أن يتقبّل اعترافات الشعب وترك ديون خطاياهم، وأن يُحارب الأبالسة بأسلحة روحيّة. المسيحي، بالنسبة للذهبيّ الفم، الّذي يشترك في جسد المسيح ويتّحد بسائر أعضاء الجسد الواحد، هو رسول وتوضع عليه مسؤوليّة الرسوليّة.
لا الكهنة فقط إنّما العلمانيّون أيضًا هم "تكملة" أسقفيّة الأسقف، وعلى كلّ واحد منهم أن يكون موجودًا حيث لا يستطيع الأسقف أن يكون، لأنه لا يستطيع أن يكون في كل مكان. "لقد أقامنا المسيح على هذه الأرض لكي ننشر النور... لكي نكون الخميرة... لكي نكون كهولاً بين الأحداث، روحانيّين بين الماديّين، بذارًا لثمار غزيرة".
لقد قدّم الآباء الكبادوك للكنيسة أعظم تقدمة حين حدّدوا، في صراعهم ضدّ الهراطقة، الاصطلاحات اللاهوتيّة التي تبنّتها الكنيسة وبها صاغت المجامع المسكونيّة عقائدها.
هؤلاء الآباء، أحبّوا كنيسة المسيح ودافعوا عن إيمانها، لأنّهم اعتبروها مصدر خلاصهم. الكنيسة، بالنسبة لهم، هي مقدّسة مبدأُها ومصدر وجودها هو إلهيّ، سماويّ وليس بشريًّا أرضيًّا.
لهذا إيمانها أيضًا، الّذي هو جوهر وجودها، وثمرة هذا المبدأ الإلهيّ المقدّس، أُعطي لنا لنحفظه نقيًّا ومقدّسًا. فقد رأى الآباء كم هي "قويّة عقائد الهراطقة الهدّامة"، وكيف أنّ "الشيطان يبذر فساد عدم التقوى بعقائد الهراطقة الشرّيرة". فميزّوا بين العقائد الأرثوذكسيّة وتلك الهرطوقيّة.
ودعوا المؤمنين ليبنوا خلاصهم "على أساس العقائد الأرثوذكسيّة". لأنّ العقائد هي التي تحفظ الإيمان المقدّس من الانحراف، وتثبّت الكنيسة في إيمان صحيح بالربّ يسوع المسيح. الكنيسة التي لا تُعطي أهميّة لعقائد إيمانها يتغلغل فيها روح شيطانيّة تقودها بسهولة لتصير كنيسة علمانيّة من روح فساد هذا الدهر.