مسكن الله – عظةٌ في دخول سيدتنا والدة الإله

القديس يوحنا كرونشتادت

تعريب شادي مخّول

 

لنمتدحنَّ فتاة الله مريم

فإنَّها تُدخَل اليوم إلى قدس الأقداس،

لكي تُرَبَّى فيه للرَّب.

(إكسابستلاري العيد)

 

أيها الإخوة، إن الكنيسة تحتفل اليوم بالدخول المقدَّس إلى هيكل أورشليم، دخول الطفلة ذات السنوات الثلاثة - مريم الإبنة المبارَكة للوالدَين البارَّين، يواكيم وحنَّة – لتتربَّى لله. فيستقبلها ركزيَّا الشيخ ورئيس الكهنة بجلالٍ كهنوتيّ. وكما أوصاه روح الله أن يصنع، فقد أدخلها، بصحبة العذارى اليافعات، إلى أكثر جزءٍ داخلي من الهيكل، أي إلى قدس الأقداس، حيث يدخل رئيس الكهنة بنفسه مرَّةً كلَّ سنة. فهناك يسكن الله، وهي التي ستلده بالجسد.

كيف أمضت العذراء المباركة وقتها في الهيكل؟ لقد علَّمتها العذارى، بالرُّوح القدس، اللُّغة العبريَّة المكتوبة والصلوات، فأمضت وقتها في الصلاة وقراءة الكلمة الإلهيَّة (كما نرى في أيقونة البشارة)، والتأمُّل والعمل اليدويّ. حبّها لمخاطبة الله ولقراءة كلمته كان عظيمًا جدًّا حتى إنَّها نسيت الطعام والشَّراب، فأحضر لها رئيس ملائكةٍ طعامًا سماويًّا بحسب أمر الله، وهذا ما ترتِّلهُ الكنيسة اليوم في استيشيرات العيد.

ما هذا المثال الرائع للآباء والأمَّهات ولأولادهم؛ للأحداث والعذارى المسيحيّين! فهم، كتابعين للرَّب يسوع المسيح، وخدَّامًا لوالدة الإله ملكة السموات، عنصر إعادة الجبلة العقليَّة[1] (أي الكنيسة التي ينتمون إليها)، مُلزمون بأن يقتدوا، على قدر استطاعتهم، بمحبَّتها المتَّقدة لله وبحميَّتها لمطالعة الكلمة الإلهيَّة والصلاة والتأمُّل الإلهيّ، والإمساك وحبّ الجهاد! إن كنَّا لا نريد أن نُدعى زورًا أعضاء في كنيسة المسيح – مسكن الله المقدَّس، الملكة والأم، العذراء الكليَّة القداسة – علينا أن نقتني نفس أفكارها. ليكونوا أبناءها بالنعمة متَّحدين معها بالروح! وليتعلَّموا منها محبَّة الرَّب خالقنا أكثر من أيّ شيءٍ في هذا العالم، أكثر من محبَّتهم للآباء والأمهات، وأكثر من أي قريب. ليتعلَّموا دراسة كلمة الله بشغفٍ – ما لم يُرى للأسف بين تلاميذ يسوع المسيح – وبأيَّة حرارةِ قلبٍ ومحبَّةٍ علينا أن نصلِّي لله، وكيف يجب أن نكرِّس له أنفسنا بإخلاصٍ، وكيف علينا أن نودع ذواتنا لتدبيره الكلي الحكمة والخيريَّة، وبأيَّة نقاوةٍ ووداعةٍ وتواضعٍ وصبرٍ علينا أن نتسربل ونتزيَّن، لا بزينةٍ رديئةٍ من هذا العالم الزاني والخاطئ الذي لا يعرف حدودًا للفخامة والتألق بالملابس الجسدانيَّة. لنتعلَّم محبَّة الحياة مع الله والقديسين «أكثر من سُكنانا في مساكن الخطأة» (مز 83: 11).

بما أنَّ العذراء القديسة قد أُدخلَت إلى الهيكل لتَتربَّى لله، دعونا نتحدَّث الآن عن ضرورة ومنفعة الذهاب إلى الكنيسة، مسكن الله، والمكان الذي فيه نتربَّى لندخل إلى الموطن السماوي. لقد دُعينا مسيحيّين، وقد دعانا يسوع المسيح إلى الموطن السماوي لنكون مواطني السَّماء، ورثةً لله، شركاء في ميراث المسيح. دعوتنا فائقة السموّ، ومهمَّاتنا هي في غاية الأهميَّة، فعلى أرواحنا أن تكون في غاية السموّ والقداسة والوداعة والاتِّضاع.

من الذي سيُرينا العناصر التي تُشكِّل دعوتنا ومهمَّاتنا المسيحيَّة، وبحسب أي روحٍ علينا أن نسلك، وكيف علينا أن تنصرَّف إزاء المواقف الحياتيَّة المختلفة؟ من الذي سيمدُّنا بالقوَّة لنحيا بروح المسيح؟ الكنيسة تمنحنا كلَّ ذلك. يُمكننا أن نجني هذه الطاقات الروحيَّة في هيكل الله من خلال الأسرار. هنا تحوم روحٌ سماويَّة غير أرضيَّة؛ هنا مدرسة يسوع المسيح التي تُنشئ مواطني السماء المستقبليين. هنا ستتلقّون دروسًا سماويَّةً في الأناجيل من المعلّم الإلهي، يسوع المسيح والرُّوح القدس. هنا المأكل والمشرب السماويَّين، والسِّربال الرُّوحي السَّماوي، والأسلحة الرُّوحيَّة ضدَّ أعداء الخلاص. هنا ستحصدون السَّلام الذي هو تذوُّقٌ مسبقٌ للملكوت، هذا السَّلام هو من متطلِّبات نشاطنا وتنشئتنا الرُّوحيَّين، وهو سندٌ للجهادات الرُّوحيَّة ضدَّ الخطيئة. هنا نشارك في حوارٍ عذبٍ مع أبينا السَّماوي ومع والدة الإله الملكة الكليَّة القداسة، ومع ملائكة الله والقديسين. هنا نتعلَّم كيف نصلِّي ولماذا نُصلِّي. هنا ستجد مثالًا لكل الفضائل المسيحيَّة في القديسين الذين تمجِّدهم الكنيسة كلَّ يوم. هنا، باجتماعنا في بيت الله كأبناء للآب السماوي الواحد، وكأعضاءٍ في جسد المسيح المستيكي، نتعلَّم محبَّة بعضنا البعض، كلُّ عضوٍ يحبُّ الآخر، كأعضاءٍ في المسيح، كالمسيح نفسه.

أرأيتم كم هو نافعٌ وضروريٌّ أن يرتاد المسيحيُّ كنيسة الله. إنَّها مدرسةٌ للإيمان والتقوى قد أنشأها الله، إنَّها كنزٌ مقدَّسٌ «كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى» (2بط 1: 3)، خزانة أسرار المسيح! لكنَّ فائدة وضرورة حضور المسيحيّ إلى الكنيسة، تتجلَّى بشكلٍ أوضح من خلال مقارنة الكنيسة بالعالم الباطل الذي نفضِّل المكوث فيه بدل الذهاب إلى الكنيسة. ماذا تجدون في العالم، وماذا تجدون في الكنيسة؟

عند كلّ خطوةٍ في العالم هناك زهوٌ وضلالٌ ورذيلةٌ، أمَّا في الكنيسة فحقيقةٌ وقداسةٌ وكلُّ نوعٍ من أنواع الفضيلة. في العالم فسادٌ وخطيئةٌ وموتٌ، أمَّا في الكنيسة فعدم فساد القديسين وحياة أبديَّة. خارج الكنيسة ترون أشياءً عالميَّةً باطلة تتغذّى من «شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ» (1يو 2: 16). وتُبصرون أشياءً لطالما تغوي الناس وتستميلهم، وتجعلهم غافلين عن وصايا الله خالق الجميع ومخلِّصهم. مثلًا؛ قد حُفظَت في هذا المبنى بعض الأقمشة من كلّ شكلٍ ولون. هذه الأقمشة هي عشق النساء. لقد عِشْنَ لأجلها، واستلهمْنَ منها، وسُرِرْنَ بها لا بالله. هنا بريق الفضَّة والذَّهب يُضهل ويُغري أنظار كل من يتعبَّد لكل ما هو جميلٌ وبرَّاق. بكلمةٍ واحدة، لا يهمُّ إلى أين تُوجِّه اهتمامك في العالم، فإنَّك لن ترى سوى الإنحلال والغطرسة والخطيئة؛ في كلِّ مكان أرضيٍّ ودنيوي. فراغٌ، أحاديثٌ باطلة وأنشطةٌ باطلة تكاد لا تُذكِّرنا بالسموات ولا بالله أو بالحياة الأُخرى. فقط في البيوت التقيَّة، تُذكِّرنا أيقونات الرَّب يسوع المسيح وأمَّه الكلّيَّة النقاوة وقدّيسيه، بأنَّنا مسيحيُّون وأعضاءٌ في المسيح، أعضاءٌ في ملكوته، تُذكِّرنا بالنظر نحو قيامة الرَّاقدين وحياة الدَّهر الآتي التي فيها سنتَّحد مع الرَّب والقديسين، بعد أن نكون قد طهَّرنا أنفسنا من كلّ أدناس الجسد والرُّوح.

إذًا، أترون الإختلاف ما بين الهيكل، مسكن الله، والعالم؟ أترون كم هو مفيدٌ وضروريٌّ للمسيحي أن يتردَّد إلى هيكل الله ليتربَّى مهيئًا نفسه للموطن السماوي، مبتغيًا اقتناء روح المسيح في داخله، وأن يولد سماويًّا بسبلٍ قدسيَّة؟ لأنَّه أين ستسمع كلمة الله في مكان آخر غير هيكله؛ أين ستتلقَّى أسرار الإيمان في مكانٍ غير الكنيسة حيث تقتني القوَّة لعيش حياة مسيحيَّة؟ كلُّ ذلك هو في الكنيسة ومن الكنيسة.

أحبُّوا الذهاب إلى كنيسة الله، واجعلوا من أنفسكم هياكل لله: «كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا مَبْنِيِّينَ ­كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ­ بَيْتًا رُوحِيًّا، كَهَنُوتًا مُقَدَّسًا، لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ اللهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ.» (1بط 2: 5). دعوا الأهل والمعلِّمين والأقارب يأخذون أو يُرسلون أبنائهم إلى الكنيسة باستمرار، كلَّ يوم أحدٍ وفي كلِّ عيد دون تراخٍ، بدل من أن يُرسلوهم إلى المسارح حيث يتعلَّمون ما لا ينبغي لليافعين أن يعرفوه. سيسمعون في الكنيسة اسم الرَّب بتواترٍ؛ سيتعلَّمون الحقيقة العُظمى لخلق العالم والجنس البشريّ؛ سيعرفون المخلِّص، ووالدة الإله، وأسماءَ القديسين. سيتعلَّمون عن قيامة الرَّاقدين والدَّينونة المُقبلة والحياة الآخرة، وعن عذاب الخطأة الأبدي. سيتعلَّمون من روح الله كيف يُصبحون مسيحيّين حقيقيّين؛ وهذا أثمن من أي شيءٍ في هذا العالم. آمين.

 

المصدر:

https://www.johnsanidopoulos.com/2014/11/the-house-of-god-homily-for-entry-of.html   

 

[1]  مديح والدة الإله الذي لا يُجلس فيه (الأكاسيثطون)، البيت 19.