آباء الروحانيّة الأرثوذكسيّة القدّيسون

الجزء الأول: مصادرُ الإلهام والمرشِدون إلى المسيحيّة الحقيقيّة

الأب المغبوط سيرافيم روز
تعريب: ماهر سلّوم

 

"اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ ٱلَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ ٱللهِ. ٱنْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ… لَا تُسَاقُوا بِتَعَالِيمَ مُتَنَوِّعَةٍ وَغَرِيبَةٍ.” (عبرانيين 9،7:13)

 

لم يكن هناك مُعَلِّمون كَذَبة أكثر مِمّا جَلَبَه القرن العشرون البائس هذا، شديد الغِنى بالمادِّيّات وشديد الفقر ذِهنًا وروحًا. كل رأي يمكن تَصَوُّره، حتى الآراء الأكثر عَبَثِيّةً، حتى تلك الآراء المرفوضة من قِبَل الشعوب المُتَحَضِّرة في العالم أجمع، لديها الآن منبرها و"معلّمها" الخاص. يأتي بعضٌ من هؤلاء المعلّمين باستعراضاتٍ أو بِشكلٍ من "قوّة روحيّة” وآياتٍ كاذِبة، كما يفعل أتباع القِوى الخارِقة و"المَواهِبيّون” (charismatics)؛ لكن أكثريّة المُعَلِّمين المُعاصِرين لا يُقدِّمون أكثر من مزيج هزيل من أفكارٍ ناقصة قد حصلوا عليها "من الهواء"، أو من "إنسانٍ حكيمٍ” ما قد عيّن نفسه شخصًا ذا معرفةٍ تفوق معرفة جميع القدماء لمجرد أنه (أو أنها) يعيش في أزمِنَتِنا الحديثة "المُستَنيرة”. نتيجةً لهذا، أضحى هناك ألف مدرسة للفلسفة وألف شيعة ل"المسيحيّة”. أين نجد الحقيقة في كل هذا، إن كان بالإمكان حقًّا إيجاد الحقيقة في أوقاتنا الأكثر ضلالاً؟

يمكن إيجاد ينبوع التعليم الحقيقي في مكان واحد، يتدفّق من الله نفسه، غير مُنتَقَصٍ عبر العصور لكنه نقيّ دائمًا، كونه واحدًا وغير مُتَغَيِّرٍ عند جميع الذين يعلّمونه حقًّا، ومُرشِدًا أولئك الذين يتبعونه إلى الخلاص الأبديّ. هذا المكان هو كنيسة المسيح الأرثوذكسيّة ينبوع نعمة الروح الكلّي قُدسُه، والمُعَلِّمون الحقيقيّون للعقيدة المقدَّسة الجارِية من هذا الينبوع هم آباء الكنيسة الأرثوذكسية القديسون.

للأسف! كم هم قليلون المسيحيون الأرثوذكس الذين يعرفون هذا، ويدركون بما فيه الكفاية ليشربوا من هذا النبع! هناك الكثير من الأساقفة المعاصرين مِمَّن يقودون رعاياهم، لا إلى مَراعي النفس الحقيقية، أي الآباء القديسين، بل إلى طُرُق الحكماء الحديثين المُهلِكة، الذين يَعِدون بشيء "جديد" ويَسعَون فقط لِجَعل المسيحيين ينسون تعليم الآباء القديسين الحقيقي، التعليم الذي لا يتجانس أبدًا مع الأفكار الخاطئة السّائدة في أزماننا الحديثة.

تعليم آباء الكنيسة الأرثوذكسي هو غير مُقتَرِنٍ بزمن واحد، "قديمًا" كان أم “حديثًا”. لقد سُلِّمَ بِتَسَلسُلٍ غير منقطع منذ زمن المسيح ورُسُلِه حتى يومنا الحاضر، ولم يكن أبدًا هناك وقت اقتضى فيه اكتشاف تعليم آبائي "مفقود". حتى عندما كان ممكن للعديد من المسيحيّين الأرثوذكس أن يهملوا هذا التعليم (كما هي الحال في أيّامنا الحاضرة)، كان مُمَثِّلوه الحقيقيّون يُتابِعون تسليمه لأولئك الرّاغِبين بالحصول عليه. لقد مرّت أزمنة آبائيّة عظيمة، كفترة القرن الرابع الباهرة، كما مرّت فترات من الانحطاط في وعي الآباء بين المسيحيّين الأرثوذكس؛ لكن لا يوجد أي فترة منذ تأسيس كنيسة المسيح على الأرض لم يكن فيها التقليد الآبائي مرشدًا للكنيسة؛ لم يوجد أي قرن من الزمن بدون آبائه القديسين. كتب القديس نيكيتاس ستيثاتوس، تلميذ القديس سمعان اللاهوتي الجديد وكاتب سيرته: “لقد أنعم الله أن الروح القدس لن يتوقّف من جيلٍ إلى جيل عن إعداد أنبياء وأصفِياء له من أجل العناية بكنيسته.”

 

 

حَرِيٌّ بنا، نحن المسيحيين في الأيام الأخيرة، أن نسترشد ونَستَلهِم من الآباء القديسين في زمننا الأخير، أولئك الذين عاشوا في ظُروفٍ مُشابِهة لأحوالنا لكنهم حفظوا التعليم ذاته سالِمًا وثابٍتًا، وهو ليس لوقتٍ وعِرقٍ واحد، بل لجميع الأوقات حتى نهاية العالم، ولجميع أعراق المسيحيين الأرثوذكس.

لكن قبل البحث في إثنين من الآباء القديسين الحديثين، فلنكن واضحين أنه بالنسبة لنا المسيحيين الأرثوذكس، ليست دراسة الآباء القديسين عملًا أكاديميًّا فارغًا. أكثر ما يحوي "التَّجديد الآبائي” (revival) في أيامنا هو لَهوٌ من قبل الدّارِسين غير الأرثوذكس ومن "الأرثوذكس” الذين يُحاكون لَهوَهُم. لم يستطع أحد منهم أن "يكتشف" حقيقة آبائية وكان جاهزًا أن يبذل حياته في سبيلها. عِلم "آبائيّات" كهذا هو مجرّد دراسة عقلانيّة حصلت أن اتّخذت التعليم الآبائي كموضوع لها، من دون أن تفهم أبدًا أن تعليم الآباء القديسين الأصيل يحوي الحقائق التي تستند عليها حياتنا الروحية أو موتنا.

يمضي هؤلاء الدّارسون الزائفون للآباء وقتَهُم في إثبات أن "مكاريوس المَنحول”  كان هرطوقيًّا مِيسّاليًّا (messalian)[1]، بدون أن يفهموا أو يمارسوا تعليم القديس مكاريوس الكبير الأرثوذكسي النقي؛ أن "ديونيسيوس المَنحول”  كان مُزَوِّرًا مُتَعَمَّدًا لِكتبٍ تحوي عمقًا روحيًّا أبعد من مُتَّهِميه؛ أن حياة القديسَين برلعام ويواصاف المسيحية والنُّسكيّة التي تسلّمناها من القديس يوحنا الدمشقي هي ليست أكثر من "إعادة لقصة بوذا”؛ ومئات من الخُرافات المُشابِهة لَفَّقّها "الجَهابِذة” للشعب البسيط الذي يجهل الجو الغنوصي حيث تحصل "اكتشافات” كهذه. إن الأسئلة العلميّة الجَدِّيّة (التي هي موجودة بالفعل) التي تُطرَح حول بعض النصوص الآبائيّة لا يمكن الإجابة عليها بتحويلها لهؤلاء "الجهابِذة" الذين هم غرباء كُلّيًا عن التقليد الآبائي الحقيقي إلّا أنهم يَعتاشون على حسابه.

عندما يتبع الدّارِسون "الأرثوذكس” تعاليم دارسي الآباء الوهميّين هؤلاء أو يقومون بأبحاثهم بالروح العقلانيّة ذاتها، يمكن للنتيجة أن تكون مأساويّة؛ إذ أن كثيرين يعتبرون دارِسين كهؤلاء "ناطقين بإسم الأرثوذكسيّة"، وأن آراءهم العقلانيّة هي جزء من نظرة "آبائية أصيلة”، وهكذا يخدعون العديد من المسيحيّين الأرثوذكس. على سبيل المثال، فيما يزعم الأب ألكسندر شميمن أنه مُحَرَّرٌ من "السَّبي الغربي” الذي، بسبب جهله التقليد الآبائي الصحيح في القرون الماضية القريبة (الموجود في الأديار أكثر من الأكاديميّات)، فهو يتوهّم أنه يُهَيمِن على اللاهوت الأرثوذكسي في الأزمنة الحديثة، لكنه أضحى أسير الأفكار البروتستانيّة العقلانيّة بما يختصّ اللاهوت الليتورجيّ، كما أشار المتقدّم في الكهنة الأب مايكل بومازانسكي، وهو لاهوتي آبائي أصيل في أيامنا هذه[2]. للأسف، ما يزال هناك حاجة للكشف عن الدّارِسين الوهميّين للقديسين الرّوس والآباء القديسين. إن فيدوتوف (G.P. Fedotov) الذي يتخيّل أن القديس سرجيوس "هو أول قديس روسي يمكن أن يُدعى بالمُتَصَوِّف” (وبهذا يتجاهل أربعة قرون سبقت القديس سرجيوس وكان فيها قديسون روس "مُتَصَوِّفون" مثله)، يبحث باطِلاً عن "الإبداعات” في "الأعمال الأدبيّة" للقديس نيلوس سورسكي (وهكذا يُظهِر أنه لا يفهم حتى معنى التقليد في الأرثوذكسيّة)، ويفتري على القديس الأرثوذكسي العظيم، تيخون زادونسكي، أنه "إبن الباروكيّة (Baroque) الغربيّة أكثر من وارثٍ للروحانيّة الأرثوذكسيّة،”[3] وبِتَكَلُّفٍ شديدٍ، يحاول جَعْل القديس سيرافيم ساروفسكي (وهو قديس مُتَجَذِر بشكل مُذهِل في التقليد الآبائي لدرجة أنه نادرًا ما يمكن تمييزه عن آباء الصحراء في مصر)، ظاهرةً "روسية إستثنائيّة" كانت "المِثال الأول المعروف لهذه المرتبة من الشيوخ الرّوحيّين (startsi) في روسيا”، وأنه كان "ذا مُقاربة فريدة للعالم في التقليد الشَّرقي”، وأنه كان "سابق الشكل الجديد للروحانيّة الذي يجب أن يَخلف الرّهبنة النُّسكيّة الصِّرف”.[4]

من المُحزِن أن نتائج هكذا دراسات وهميّة تظهر في الحياة الواقعيّة؛ يبدأ الأشخاص البسيطون باتّخاذ هذه الاستنتاجات الخاطئة على أنها اسنتاجات أصيلة ويبدأون بالعمل على "تجديد ليتورجي" على أُسُسٍ بروتستانتيّة، ويحوّلون القديس سيرافيم (مُتَجاهلين تعاليمه “غير المُناسبة” ضد الهراطقة التي يتشارك بها مع كامل التقليد الآبائي) إلى مُمارِس هندوسي أو إلى "مَواهبيّ" (charismatic)، وبشكل عام، يُقارِبون الآباء القديسين كما يفعل معظم الدّارِسين المُعاصِرين – بدون وقارٍ ولا مهابة، كأنهم في مرتبة الآباء القديسين – بشكل تمرين باطِنيّ أو كمهنة أكاديميّة، بدل اتّخاذهم كمرشدين للحياة الحقيقية والخلاص.

الدّارسون الأرثوذكس الحقيقيّون ليسوا هكذا؛ ولا التقليد الآبائي الأرثوذكسي المستقيم، حيث تعليم المسيحيّة الصحيحة الأصيل والثّابت قد سُلِّمَ بتسلسل غير منقطع، شفهيًّا وبالكلمة المكتوبة، من أب روحيّ إلى إبنٍ روحي، من معلّمٍ إلى تلميذ.

 في القرن العشرين، يتميّز أسقف أرثوذكسي في توجُّهِه الآبائي، وهو رئيس الأساقفة ثيوفان الذي من بولتافا (الراقد في 6 شباط 1940) أحد مؤسّسي كنيسة روسيا في المهجر (ROCOR) الحرّة، وربّما يكون المؤسّس الأول لفكرها التقليدي عديم المُساومة. خلال السنوات حين كان نائب رئيس مجمع أسافقة هذه الكنيسة (في العشرينات)، كان معروفًا على نِطاق واسع أنه أكثر اللاهوتيّين الروس تَمَسُّكًا بالفكر الآبائي خارج روسيا. تقاعد في الثلاثينات في عُزلة تامّة ليصبح ثيوفان حبيس ثانٍ؛ ومنذ ذلك الوقت أصبح مَنسيًّا للأسف. لحسن الحظ، حُفِظ ذكرُه من قبل تلاميذه وأتباعه بقداسةٍ، وفي الأشهر الماضية، نشر أحد تلاميذه، رئيس الأساقفة أفيركي (Averky) من دير الثالوث القدوس في جوردانفيل في نيويورك سيرة حياته مع بعضٍ من عظاته[5]. تُظهِر هذه العِظات بوضوح مهابة وورع رئيس الأساقفة أمام الآباء القديسين، وتلمذته لهم وتواضعه الفائق، فهو لا ينقل شيئًا من عنده بل أفكار وكلمات الآباء القديسين ذاتها. فيقول في عظة لأحد العنصرة: “تعليم الثالوث القدوس هو قمّة اللاهوت المسيحي. لذلك لا أحسب التفوّه بهذ التعليم بكلماتي الخاصّة، لكنني أقدّمها بكلمات آباء الكنيسة القديسين العظماء المتوشّحين بالله: أثناسيوس الكبير، غريغوريوس اللاهوتي وباسيليوس الكبير. لديّ فقط الشِّفاه، لكن لهم الكلمات والأفكار. إنهم يقدّمون الطعام الإلهي، وأنا فقط خادم وَليمتهم الإلهيّة.”

في عظة أخرى، يعطي رئيس الأساقفة ثيوفان أسباب امِّحائه أمام الآباء القديسين – وهو ميزة مِثاليّة للمُذيعين بالتعليم الآبائي حتى للاهوتيّين العظماء كرئيس الأساقفة ثيوفان، ولكن هذه الميزة يُساء تفسيرها بشكل فاضِح من قبل الدّارِسين الأرضيّين أنها "نقص في الإبداع”. يعلن رئيس الأساقفة ثيوفان للمؤمنين، في عظة لأحد آباء المجمع المسكوني السادس ألقاها في فارنا، بلغاريا سنة 1928: “كلمةً عن أهمّية آباء ومعلّمي الكنيسة لنا نحن المسيحيّين. ما الذي يشكّل عَظَمَتَهُم، وعلامَ تعتمد أهمّيّتهم الخاصّة؟ يا إخوة، الكنيسة هي ’بَيْتِ ٱللهِ، ٱلَّذِي هُوَ كَنِيسَةُ ٱللهِ ٱلْحَيِّ، عَمُودُ ٱلْحَقِّ وَقَاعِدَتُهُ.’ (1 تيموثاوس 15:3). الحقيقة المسيحيّة محفوظة في الكنيسة في الكتاب المقدّس والتقليد المقدّس؛ لكنها تحتاج إلى حِفظٍ صحيح وتفسيرٍ مستقيم. تكمن أهمّية الآباء القديسين بالضّبط في ما يلي: أنهم الأكثر قُدرةً على تفسير هذه الحقيقة والمحافظة عليها بنعمة قداسة حياتهم، بمعرفتهم العميقة لكلمة الله، وجزيل نعمة الروح القدس السّاكن فيهم.” بقيّة هذه العظة هي ليست إلّا مجموعة من أقوالٍ للآباء القديسين أنفسهم (القديسين أثناسيوس الكبير، باسيليوس الكبير، سمعان اللاهوتي الجديد، نيكيتاس ستيثاتوس) لدعم نظرته.

آخر أب قديس يستشهد به رئيس الأساقفة ثيوفان في عظته بإسهابٍ هو قريب منه زمنيًّا وسَلَفٌ له في تَسليم التقليد الآبائي الأصيل في روسيا: القديس إغناطيوس بريانتشانينوف. لهذا القديس أهمّية مزدوجة في أيّامنا: ليس أبًا قدّيسًا لأيّامنا الحاضرة تقريبًا فحسب، بل إن بحثه عن الحقيقة هو مُشابِهٌ بشكل كبير للبحث الذي يقوم به المُفَتِّشون عن الحقيقة الصّادِقون في هذه الأيام، فهو يُظهِر أن "الإنسان الحديث المُستَنير” يمكن أن يتحوّل عن عبوديّة الأفكار والأساليب الفكريّة الجديدة ويدخل مُجَدَّدًا في جو الآباء النقي، أعني الأفكار المسيحيّة الأرثوذكسيّة وطُرُقِها في التفكير. من المُلهِم جدًّا لنا أن نقرأ بكلمات القديس إغناطيوس نفسه، كيف كسر مهندسٌ حَربيٌّ قيود "المعرفة الحديثة” ودخل في التقليد الآبائي الذي ناله، بالإضافة إلى الكُتُب، مباشرةً من تلميذٍ للقديس المَغبوط باييسيوس فيليتشكوفسكي، والمُسَلَّم حتى أيّامنا هذه.

يستشهد رئيس الأساقفة ثيوفان بالمطران القديس إغناطيوس[6]:

“عندما كنتُ طالِبًا، لم يكن لي سُبُلٌ للمتعة واللَّهو! لم يقدّم العالم لي أي إغراءات. كان ذِهني غارقًا تمامًا بالعُلوم، وفي الوقت ذاته، كنتُ أتحرّق بالرَّغبة لأكتشف أين يوجد الإيمان الحقيقي، أين يوجد التّعليم الصَّحيح الغريب عن الأخطاء العقائديّة والأخلاقيّة.”

“في الوقت ذاته، كنتُ قد رأيتُ بِناظِرَيَّ حدود المعرفة البشريّة في أعظم العلوم الأكثر تَقَدُّمًا. إذ وصلتُ لهذه الحدود سألتُ العلوم: ’ماذا تقدّم للأنسان ما يكون ملكًا له؟ إن الإنسانَ أزليٌّ، فأي شيء يملكه يمكن أن يكون أزليًّا؟ أرِني هذه المُمتَلَكات الأبديّة، هذا الغِنى الحقيقي، كي أتمكّن من الاحتفاظ به ما بعد القبر! حتى الآن، أرى فقط المعرفة التي تنتهي في الأرض، ولا يمكن أن تبقى بعد انفصال النفس عن الجسد.’”

لقد بحث هذا الشاب بدوره في الرّياضيّات والفيزياء والكيمياء والفلسفة مُظهِرًا عمق معرفته بها؛ ومن ثمّ في الجغرافيا وعلم المساحة واللغات والأدب، لكنه وجد أن كل هذه هي من الأرض. كإجابة على جميع تساؤلاته المتألّمة حصل على ما يتلقّاه الباحثون الآخرون في قرننا العشرين الأكثر "إستنارةً”: “لقد كانت العلوم صامتةً.”

وبعد هذا، "انتقلتُ إلى الإيمان كي أحصل على إجابةٍ مُرضِية، على إجابة حَتمِيّة وحيّة. لكن أين تختبئ أيّها الإيمان الصحيح والمقدَّس؟ لم أجدْكَ في التَّعَصُّب (البابويّة) غير المَختوم بوداعة الإنجيل؛ فهو ينفخُ أهواءً وفَوقِيّةً! لم أجِدْكَ في التعليم الإعتباطيّ (البروتستانتيّة) الذي انفصل عن الكنيسة، وابتكر نظامه الخاص الجديد، مُناديًا بِعُجْبٍ وتكبُّرٍ أنه اكتشف إيمانًا مسيحيًّا حقيقيًّا جديدًا، بعد ثماني عشر قرنٍ من تجسُّد الله الكلمة! أه! كم كانت نفسي مُرتَبِكة! كيف كانت مُنهارة! ما هي موجات الشك التي هاجت ضدّها! وقد نشأت هذه الشكوك من عدم الثقة بنفسي، من عدم ثقتي بكل الضَّجيج الذي حولي الصّارِخ بسبب قلّة معرفتي، بسبب جهلي للحقيقة.”

“وغالِبًا ما طَفِقتُ بالتَّوَسُّل إلى الله كيلا يُسلِمَني للخطأ، بل أن يُظهِر لي الطريق الصحيح حيث يجب عليّ أن أوجّه مسيرة ذهني وقلبي غير المنظورة نحوه. ويا للعجب! إستوقفني فكرٌ… وعانق قلبي هذا الفكر كمن يعانق صديقه. ألهَمَني هذ الفكر أن أدرس الإيمان من مصادره – في كتابات الآباء القديسين! لقد قال لي الفكرُ: ’إن قداسَتَهُم تؤكّد جَدارتَهم بالثقة، فليكونوا مُرشِديكَ.’ أطعتُ هذا الفكر. وجدتُ سُبُلاً كي أحصل على أعمال مُسارّي الله المقدّسين، وبدأتُ بقراءتها بِشَغَفٍ وبِفَحصِها بِعُمقٍ. بعد قراءة البعض منها، كنتُ أقرأ أعمالًا أخرى وأعيدُ قراءتها، أدرسُها. ما الذي لَفَتَني قبل كل شيء في كتابات آباء الكنيسة الأرثوذكسية؟ تناغُمَهُم، تناغُمَهُم الرائع والعجيب. ثماني عشر قرنًا مَشهودًا عليها بشفاههم بتعليمٍ مُتَّفِقٍ واحدٍ، تعليمٍ إلهيّ.”

“ في ليلة خريف صافية، عندما أحدِّقُ بالسماء العزيزة، المَنثورة بنجومٍ لا تُحصى، مُتَعَدِّدة الأحجام لكنها تُشِعُّ بنورٍ واحدٍ، أقول لنفسي: هكذا هي كتابات الآباء! في يوم صيفٍ، عندما أحدِّقُ بالبحر الشّاسِع، المُغَطّى بمُختَلَف السُّفُن المُبحِرة كأجنحة الطّيور بِريحٍ واحدٍ ونحو هدفٍ واحدٍ، نحو ميناءٍ واحد، أقول لنفسي: هكذا هي كتابات الآباء! عندما أسمع جوقةً مُتناغِمة ومتعدّدة الأصوات، يُرتِّل فيها مُختَلف الأصوات بِتَرتيلة إلهيّة واحدة، أقول لنفسي: هكذا هي كتابات الآباء!”

“وما هو التعليم الذي أجده فيها؟ أجد تعليمًا يردّده جميع الآباء، أن الطريق الوحيد للخلاص هو اتّباع تعاليم الآباء القدّيسين بِثَباتٍ. يقولون: ’هل تعرفون شخصًا خُدِعَ بتعليم خاطئ أو هلك باختيار خاطئ لجهاداته النُّسكيّة؟ إعلموا أنه تبع ذاته، فَهمهُ وآراءه، ولم يتبع الآباء’ (الأنبا دوروثاوس، المقالة الخامسة)، التي تُشَكِّل تقليد الكنيسة العقائدي والأخلاقي. تُغَذّي الكنيسة أبناءها إذ تَملك هذا التقليد غير المُثَمَّن.”

“هذا الفكر مُرسَلٌ من الله، فكل عطيّة صالِحة هي من لَدُنِه، وكل فِكر صالح منه هو بدء كل صلاحٍ… كان هذا الفكرُ بالنسبة لي أولَ ميناءٍ في أرض الحقيقة. هنا وجدت نفسي الراحة من الأمواج والرياح. أصبح هذا الفكر حجر أساس بناء نفسي الروحي، لقد أصبح نَجمي الهادي. بدأ يُنير باستمرارٍ طريق ذهني وقلبي، غير المنظور والضّيّق والمُتَألِّم والصّعب نحو الله. نظرتُ إلى عالم الأديان بهذا الفكر ورأيتُ أن سبب جميع الأخطاء هو جهل ونسيان وغياب هذا الفكر.”

“أقنَعَتني كتابات الآباء بوضوح أن لا شك من الخلاص في حضن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وهذا ما هو مُتَعَسِّرٌ على الأديان في أوروبا الغربيّة، لأنهم لم يحافظوا على تعليم كنيسة المسيح العقائدي والأخلاقي منذ بدايتها كاملاً. لقد أظهرت لي ما صنعه المسيح للبشريّة بما يَخُصّ سقوط الإنسان، ولماذا كان الفداء ضروريًّا بما يَخُصّ الخلاص الذي جَلَبَهُ الفادي. لقد لَقَّنَتني وجوب إنشاء الخلاص والإحساس به ورؤيته في الذّات، فالإيمان بالمسيح ميت بدون هذا، والمسيحيّة تصبح مجرّد كلمة وإسم إن لم يَجرِ تطبيقُها عَمَليًّا! عَلَّمَتني أن أنظر إلى الأبديّة كما هي، أي أن ألف سنة من الحياة الأرضيّة هي لا شيء، فكم بالحَريّ هي حياتنا المؤلَّفة من حوالي نصف قرن. عَلَّمَتني أن الحياة الأرضيّة يجب أن تكون تَحضيرًا للأبديّة… أظهرت لي أن الاهتمامات الأرضيّة والتَّنَعُّم والشرف والرِّفعة هي ألعاب فارغة يلعب بها الأولاد وبها يخسرون بركة الأبديّة… لقد وضع الآباء القديسون كل هذا أمامي بوضوح بكتاباتهم الجَليلة المقدّسة.”

يُنهي رئيس الأساقفة ثيوفان عِظَتَه الآبائية بهذا النداء: “يا إخوة، فليكن أيضًا هذا الفِكر الصالح (إتّخاذ الآباء القديسين كَمُرشِدينا) نَجمَكُم الهادي في رحلتكم الأرضيّة على أمواج بحر الحياة!”

لم تتضاءل الحقيقة الموجودة في هذا النداء، المُتَواصل من كلمات القديس إغناطيوس المُلهِمة، مع مرور الأجيال منذ إعلانه. لقد دخل العالَم في طريق الارتداد عن الحقيقة المسيحيّة، وصار واضِحًا جدًّا أنه لا يوجد طريق آخر سوى اتّباع طريق الحقيقة الثّابت الذي سَلَّمَنا إيّاه الآباء القديسون.

رغم ذلك، لا يجب أن نتوجّه إلى الآباء القديسين لمجرّد أن "نتعلّم عنهم”؛ إن لم نفعل أكثر من هذا فنحن لَسنا أفضل من المُجادِلين الفارِغين الموجودين في الأكاديميّات الميتة في هذه الحضارة الحديثة الهالِكة، حتى عندما تكون هذه الأكاديميّات "أرثوذكسية” واللاهوتيّون الممُثَقَّفون فيها يُحدّدون ويشرحون ماهيّة "القداسة” و"الروحانية” و"التأليه”، ولكنّهم لا يملكون الخبرة المطلوبة كي يتكلّموا مباشرةً إلى قلوب النفوس العطشى ويَبُثّوا فيهم الرّغبة في الجهاد الروحي، ولا المعرفة كي يلاحظوا أخطاء اللاهوتيين الأكاديميّين البَليغة الذين يتكلّمون عن الله مع سيجارة أو كأس خمر في يَدِهم، ولا الشجاعة لِمُجابَهة الأساقفة "القانونيّين” الجاحِدين الذين يَخونون المسيح. لكن يجب أن نذهب عند الآباء القديسين، كي نصبح تلاميذهم، كي ننال تعليم الحياة الحقيقية، خلاص النفس، رغم عِلمِنا أننا بِفِعلِنا هذا سوف نخسر حُظوة هذا العالَم ونصبح مَنبوذين منه. إذا قُمنا بهذا الأمر، سوف نجد السبيل للخروج من مستنقع الفكر الحديث الفاسد، المَبنيّ تحديدًا على التَّخلّي عن تعليم الآباء المقدَّس. سوف نجد أن الآباء القديسين هم "مُعاصِرون” جدًّا بما يتكلّمون به مباشرةً لجهاد المسيحيّين الأرثوذكس اليوم، مُقَدِّمين إجاباتٍ على الأسئلة الأساسيّة التي تتعلّق بالحياة والموت التي يخاف الدّارِسون الأكاديميّون عادةً من طَرحِها – وعندما يَطرَحون هذه الأسئلة، يعطون إجاباتٍ ناعمة "تشرح” هذه الأسئلة لمن هم مُجَرّد فَضوليّين عنها ولكنّهم لا يتعطّشون لإجاباتٍ جَدّيّة. سوف نجد إرشادًا حقيقيًّا من الآباء، ونتعلّم التواضع وعدم الثّقة بحكمتنا العالميّة الباطلة، التي استنشقناها من روح هذه الأيام المُهلِكة، بل أن نثق بأولئك الذين أرضَوا الله لا العالم. سوف نجد فيهم آباء حقيقيّين، نادِرين في هذه الأيام حيث بَرَدَت المحبة عند كَثيرين (متى 12:24) – آباء لهم هدف واحد وهو قيادة أبنائهم لله ولملكوته السماوي، حيث سوف نسير ونتحدّث مع هؤلاء الرّجال الملائكيّين بفرحٍ عظيمٍ إلى الأبد.

لا يوجد أي مشكلة في أيّامنا المُشَوَّشة لا يمكن إيجاد حل لها بقراءة مُتَأنِّية ووَرِعة للآباء القديسين: البِدَع والهرطقات التي تَكثُر اليوم، أو الإنشقاقات أو "الولايات" – مَناطِق السلطة - (jurisdictions)؛ مظاهر الحياة الروحية الآتية من "الجديد المواهبي” (charismatic)، أو تجارب الرّاحة والرّفاهيّة؛ الأسئلة الفلسفيّة المُعَقَّدة مثل "التطوّر”، أم الأسئلة الأخلاقيّة البَديهيّة عن الإجهاض، الموت الرّحيم و"تحديد النّسل” (birth control)؛ إرتداد "السِّرجيوسيّة” (Sergianism)[7] المُنَمَّق الذي يُقدِّم الكنيسة على أنها مؤسّسة بدل جسد المسيح، أم "الإصلاحيّة” (renovationism) الفَظَّة التي تبدأ ب"مُراجعة التّقويم” وتنتهي ب"بروتستانتيّة شرقيّة”. الآباء القديسون مع آبائنا الأحياء الذين يتبعونهم هم مُرشدونا الأكيدون للإجابة على جميع هذه الأسئلة.

لقد أشار القديس إغناطيوس وأباء حديثون آخرون لنا نحن المسيحيّين للآباء الأكثر أهمّيّة لنا من أجل قراءتهم وبأي تَسَلسُلٍ. سوف تكون هذه الإشارات موجودة مع تعليم الآباء القديسين ومعلومات عن الترجمات الآبائيّة إلى اللغة الإنكليزيّة في إصدارات مُقبِلة لمجلّة Orthodox Word. عسى أن يكون هذا إلهامًا لنا جميعًا كي نضع التعليم الآبائي كحجر أساس لبناء روحِنا، لميراث الحياة الأبديّة، آمين.

 

http://orthodoxinfo.com/phronema/rose_mind1.aspx


[1] الميسّاليّة (Messalianism) هي هرطقة ظهرت في بلاد ما بين النهرين في القرن الرابع وهي تدّعي أن أسرار الكنيسة لا تهب النعمة وأن القوة الروحية الوحيدة هي الصلاة بلا انقطاع. أدانت الكنيسة هذه الهرطقة في المجمع المسكوني الثالث. (المُعَرِّب)

[2]. "The Liturgical Theology of Fr. A. Schmemann," in The Orthodox Word, 1970, no. 6, pp. 260-280.
https://www.johnsanidopoulos.com/2010/03/the-liturgical-theology-of-fr-alexander.html

[3]. وهي أطروحة دَحَضَها نادِجدا غورودِتسكي في كتاب Saint Tikhon Zadonsky, Inspirer of Dostoyevsky, SPCK London, 1951

[4]. مقدّمات فيدوتوف لكتابات هؤلاء القديسين في كتاب: A Treasury of Russian Spirituality, Sheed & Ward, New York, 1948

[5]. يمكن قراءة سيرة موجزة عن حياته باللغة الإنكليزيّة في مجلّة The Orthodox Word, 1969, no. 5

[6]. Volume I of Bishop Ignatius' Collected Works in Russian, pp. 396-40l.

[7]. السِّرجيوسيّة (Sergianism) هي الإنحناء والرُّضوخ لِسابِقي المسيح الدّجّال وإعلان الطّاعة لهم ولأجَندَتِهِم. يُطلَق هذا الإسم نسبةً للميتروبوليت سرجيوس الذي دعا نفسه "بطريرك” وفي سنة 1927، سبّب إنشقاقًا في الكنيسة الروسيّة عندما وقّع إعلان وفاء للنّظام السوفياتي. بالمعنى الواسع، السِّرجيوسيّة هي مرض يتمثّل بأولئك الذين يتصرّفون مثل سرجيوس والذين يقدّمون الكنيسة كخادمة للحكومات والأنظمة وأجَندَاتِها الغريبة عنها. أهمّ ميزات هذا السّرطان هو النّظر للكنيسة أنها مؤسّسة يجب أن تُقَدَّم لها الطّاعة العمياء، بدل أن تكون جسد المسيح. السِّرجيوسيّة بجوهرها هي تجديديّة وهرطقة وارتداد مُنَظَّم. (المُعَرِّب)