المحبّةُ الإلهيّةُ والحقُّ المفقود 

للأرشمندريت غريغوريوس اسطفان 

 

عن نشرة الكرمة
الأحد 26 أيلول 2021
العدد 39
الأحد 14 بعد العنصرة


يَكشِفُ الإنجيليُّ يوحنّا في كتاباتِه المقدَّسةِ عن أعظمِ عطيّةٍ كَشَفَها الربُّ يسوعُ للعالَم، وهي المحبّة. وقد طَلَبَ مِنَ الآبِ أن يَمنحَ تلاميذَهُ المحبّةَ ذاتَها التي بِها أحبَّ الآبُ الاِبنَ: "لِيَكُونَ فيهم الحُبُّ الّذي أحبَبتَني به" (يو26:17)؛ وأيضًا: "أنا فِيهِم وأنتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكمَّلِينَ إلى واحد، وَلِيَعلَمَ العالَمُ أنّكَ أرسلتَني، وأحببتَهم كما أحببتَني" (يو23:17). هذه المحبّةُ تَكشِفُ، بحسبِ الإنجيليّ يوحنّا، سِرَّ الخَلْقِ الأوّل.

 فاللهُ لَم يَخلُقْنا لِنَكُونَ خُدّامًا عبيدًا لَهُ، إنّما أبناء. أحبَّ اللهُ الآبَ خليقتَهُ التي مِنَ العَدَم، كما أَحَبَّ ابنَهُ الوحيدَ الّذي مِن طبيعتِه ذاتِها، وشاءَ لنا أن نصيرَ على مِثالِه "محبّة". لا يُمكِنُ لأحدٍ أن يَصيرَ ابنًا حقيقيًّا لله إلّا عبرَ الإيمانِ والمحبّة. وهذه المحبّةُ ذاتُها طَلَبَ الربُّ مِن تلاميذِهِ أن يَنقُلُوها إلى العالَمِ أَجمع.

مملكةُ المسيحِ ليست مِن هذا العالَم، ومحبّتُهُ أيضًا ليست مِن هذا العالَم. المحبّةُ الحقيقيّةُ واحدة، لكنْ بِسُقُوطِ الإنسانِ سَقَطَتِ المحبّةُ وتجزّأَتْ وأصبحَتْ أنانيّةً مِن هذا العالَم. المسيحُ وحدَه، بِتَجسُّدِهِ ومَوتِهِ وقيامتِهِ، أعادَ للمحبّةِ جوهرَها الأوّل. وإلى هذا اليومِ مفهومُ المحبّةِ لدى العالَمِ هو بشريٌّ لا إلهيّ، والفرق بينهما عظيم. المحبّةُ الإلهيّةُ كاملةٌ ومُطْلَقَة، لا تتغيّرُ أبدًا. 

المحبّةُ البشريّةُ جُزئيّةٌ ومحدودة، يمارِسُها الناسُ على صعيدٍ أخلاقيٍّ اجتماعيّ؛ وَهِيَ، في أَصْدَقِ أحوالِها محبّةٌ عاطفيّةٌ ممتزجةٌ بأهواءٍ مخفيّةٍ من الأنانيّةِ والمنفعةِ الشخصيّة، على مثالِ محبّةِ يَهُوذا للمسيح. المسيحُ دَعانا إلى محبّتِهِ الإلهيّة، ولأجلِ محبّةِ اللهِ نَتَخلّى عن محبّةِ العالَمِ وَكُلِّ ما هو أرضيّ.

المحبّةُ الإلهيّةُ هِيَ هِبَةٌ من الله، عطيّة، لا يَذُوقُها إلّا الساجدونَ لله "بالروحِ والحقّ". الثمرةُ الحقيقيّةُ لِلجِهاد "بالروح" هي اللاهوى؛ حالةُ اللاهوى هيَ شَرْطٌ رئيسيّ، وَهِيَ تَسبِقُ اقتناءَ المحبّةِ الإلهيّة. وهذا يفترض جهادًا قوّيًّا لِتَنقيةِ القلبِ الداخليّ مِن جميعِ الأهواء. لا يستطيعُ أحدٌ أن يُحبَّ اللهَ ولو قليلًا ما دامَت نفسُه تَمِيلُ بِشدّةٍ إلى الخطيئةِ والأهواء. لهذا، المحبّة الحقيقيّة لله تُقتنى بالتوبة والنُّسْك. وكلُّ كلامٍ عن المحبّة لا يَسبِقُهُ كلامٌ عن النُّسْكِ والتحرُّرِ مِنَ الأهواء، يَبقى نظريًّا، يُروِّجُ لِمَحبّةٍ بشريّةٍ فقط.

المحبّةُ الإلهيّةُ مرتبطةٌ أيضًا "بالحقّ". فمحبّةُ اللهِ تَنسَكِبُ في القلوبِ النقيّةِ حقًّا، لا فقط التي تنقّت بالنُّسْك، لكن أيضًا التي طهَّرَها الحقُّ مِن دَنَسِ التعاليمِ المُلْتَوِية. 

فحينَ طلبَ الإنجيليُّ يوحنّا من المسيحيّين تمييزَ الأرواح: "أيّها الأحبّاء، لا تصدّقوا كلَّ روحٍ، بل امتحِنوا الأرواح: هل هي من الله؟ لأنّ أنبياءَ كذبةً كثيرين قد خرجوا إلى العالَم" (1يو1:4)، ذلك لأنّ الإيمانَ المجرّدَ لا يَكفي، بل ينبغي أن يُمتحَنَ على قاعدةِ الحقيقة. فالأنبياءُ الكَذَبَةُ هُم مُعلِّمُو كُلِّ الهرطقاتِ والعقائدِ الفاسدةِ منذُ بَدْءِ الكنيسة، لا بل مِن بَدْءِ الخليقة، إلى اليوم، والّذين يتبعونهم يُصبحون أدواتٍ في يَدِ إبليس، مُوحِي جميعِ الهرطقات.

لم يأتِ المسيحُ إلى العالَمِ لِيَرعى حاجاتِ الناسِ الأرضيّةِ فقط، ويُسايِرَهُم في اعتقاداتِهم، إنّما أوّلًا لِيَكشِفَ لَهُمُ الحقّ. يقول: "لهذا قد وُلِدْتُ أنا، ولهذا قد أتيتُ إلى العالَمِ لأشهَدَ لِلحَقّ"؛ وقد شَهِدَ لِهذا الحقِّ في كَلامِهِ معَ السامريّةِ ومَعَ نيقوديموس ومع قيافا وبيلاطس. 

هكذا الرُّوحُ أيضًا، يَهُبُّ حيثُ يَشاء، لا لِيَترُكَ الإنسانَ في ضَلالِه، بل لِيَقُودَهُ إلى الحقيقةِ الإلهيّة. الشَّيطانُ "كذّابٌ وأبو الكذّاب"، على حَدِّ تعبيرِ الرَّبّ، لأنّه عدوُّ الحقيقة، هَمُّهُ الأساسيُّ إخفاءُ الحقيقةِ عَبْرَ مَزْجِ الحقِّ بِالضلال، واستقامةِ الإيمانِ بالتعليمِ الكاذب؛ همُّه الأوّلُ فَصْلُ المحبّةِ عن الإيمانِ الحقّ. 

حينَ تنفصلُ المحبّةُ عن الحقيقةِ تُصبحُ تلقائيًّا بشريّة؛ وهذه المحبّةُ البشريّةُ هي التي يُروِّجُ لها إبليسُ في زمنِنا الحاضر، مُرِيدًا أن يَجمَعَ بها كلَّ البَشَر، بِمَعزِلٍ عَنِ الحقِّ الّذي بالمسيح يسوع. هذه هي الهرطقةُ الأُولى التي تخضُّ الكنيسةَ في هذا الزمنِ الجديد. 

"اللهُ محبّة"، المسيحُ محبّة. المسيحُ هُوَ الحقّ. المحبّةُ والحقُّ هُما قُوَّتانِ مقدَّستانِ لِمَسيحٍ واحد. لا يمكن لأحدٍ أن يَبلُغَ إلى محبّةِ اللهِ إلّا عَبْرَ الإيمانِ الحقّ. هكذا أحبَّنا المسيح، وهكذا أحبَّنا تلاميذُه: 

"الشّيخُ، إلى كيرِيّة المُختارة، وإلى أولادها الّذين أنا أحبُّهُم بالحقّ، ولست أنا فقط، بل أيضًا جميعُ الّذين قد عَرَفُوا الحقّ. من أجل الحقّ الّذي يَثبُتُ فينا وسيكون معنا إلى الأبد" (2يو1:1-2).

ولكي لا تُصبحَ الحقيقةُ عُرْضَةً لِتَأويلاتِ البشر، تحدَّدَتِ الحقيقةُ المسيحيّةُ بِأُسُسٍ عقائديّةٍ ثابتةٍ تَكْفَلُها قوانينُ كنسيّةٌ محفوظةٌ في هذا التقليدِ المقدَّسِ الّذي تفتخرُ به الأرثوذكسيّة، كَضامِنٍ لِمَسيرتِها في الحقّ. يوجدُ مِعيار للحقيقة، وهو تعليمُ الكنيسةِ عَبْرَ الدُّهُور، عقائدُها وقوانينُها؛ لا يَحُقُّ لأيِّ أُسقُفٍ أو كاهنٍ أو لاهوتيٍّ مهما كان، أن يتكلّمَ مِن ذاتِه مهما كانت تبريراتُه، لأنّه بهذا يُنصِّبُ نفسَهُ مِعيارًا فوقَ الكنيسة. 

هذه كانت سقطةَ بابا روما القديمة. يقولُ القدّيسُ باسيليوسُ الكبيرُ إنَّ كُلَّ أُسقُفٍ أو كاهنٍ يُعلِّمُ عقيدةً مختلفةً عَمّا تُعلِّمُهُ الكنيسة، يُصبحُ "شاهدًا كاذبًا لله ومدَنِّسًا لِلقُدُسات".

ما أمرَّ الصراعَ لأجلِ الحقيقة، في عالَمٍ يَكرَهُ الحقيقة. والمأساةُ الكُبرى حين يَرضَخُ رجالُ الكنيسةِ لهذه الروح، ويُصبحون هم أنفسُهم لامبالين بالحقيقة. حقًّا إنّ المحبّة تتنافى معَ أهواءِ الحَسَدِ والنَّميمةِ والمجدِ الباطلِ والصراعِ على السُّلطة والحقد؛ المحبّة "لا تفرح بالإثمّ، بل"، يُكمل بولس الرسول، "تفرح بالحقّ"، لهذا المحبّةُ تَمقُتُ الهرطقةَ لأَنَّ الهرطقةَ كَذِبٌ على الله، وتكرَهُ الضلالَ والمُراوغةَ والمحاباةَ في الإيمان. المحبّةُ تريدُ أن تَجمَعَ الكُلَّ "ليكونوا واحدًا"، لكنْ فقط في وحدةِ الإيمان الحقِّ بيسوعَ المسيح. المحبّةُ لا ترتضي أن تتعايشَ مع التعاليمِ الملتوية، ولا تَسكُنُ في قلوبِ أولئك الّذين يُناقضون قوانين الكنيسةِ وتعليمَ آبائِها. 

"المحبّة لا تسقط أبدًا"، لسببٍ واحد، لأنّها قائمةٌ على الحقيقة. متى انهارت الحقيقة تنهار المحبّة الحقيقيّة وتُصبح مزيّفة، لها صورة المحبّة، لكنّها مِن داخلٍ مملوءةٌ مراءاةً وكَذِبًا. الّذين فَتَرَتْ فيهم الغيرةُ على الإيمان الأرثوذكسيّ، تَفتُرُ تلقائيًّا محبّتُهم للمسيح وملكوتِه؛ محبّتُنا للإيمانِ الأرثوذكسيّ وعقائدِهِ ليست هدفًا بحدّ ذاتها، إنّما هي سُلَّمٌ نَصعدُ به إلى محبّةِ المسيحِ الحقّة.

ما الفائدةُ مِن محبّةٍ يُروِّجُ لها الكثيرون، ويفرضونها على كنيسةِ المسيح، وهي لا تقومُ على الحقّ؟ كيف يَحتملُ البعضُ محبّةً منسوجةً مِن أهواءِ البَشَرِ الفاسدة، مِن كبريائِهم ومحبّتِهم للمجدِ الباطل، لا مِن نعمةِ اللهِ المُنسكِبةِ في نَقاوةِ قُلُوبِ المتواضعينَ والّذينَ يُطيعونَ الإيمان. 

يقول المسيح: "وتعرفون الحقَّ والحقُّ يُحرّرُكم"؛ لهذا السببِ بالتحديدِ يسعى العالَمُ لِقَتلِ الحقيقة، لأنّه يَعلَمُ أنّه يستعبدُ المسيحيّين ويتسلّطُ عليهم حين يَقتُلُ معرفةَ الحقِّ في نُفوسِهم. 

والكنيسةُ ذاتُها تبقى للمسيحِ طالما هي متمسّكةٌ بالحقيقةِ وتَشهَدُ لها، وتُقاوِمُ كُلَّ انحِرافٍ عن هذه الحقيقةِ مهما كان صغيرًا. 

الكنيسةُ موجودةٌ لِتَشهَدَ لِلحَقّ، والعالَمُ يُحاوِلُ أن يَقتُلَ هذا الحقّ. 

هذه هي حربُ الكنيسةِ، مُنذُ نَشأتِها، ضدَّ العالَم؛ وعملُها أن تُنشئَ شعبَها على الحقِّ لِتَحفظَهُ مِن عبوديّةِ فِكرِ إبليس. إذا تهاوَنَتِ الكنيسةُ في حفظِ هذه الحقيقةِ تَخسَرُ محبّةَ الله وكُلَّ عِلّةِ وجودِها، وتكونُ أوّلَ المستسلمين لهذه العبوديّةِ التي ينبغي أن يخضعَ لها الجميعُ عندَ مجيءِ دجّالِ الزمن الأخير.

"بدء المحبّة كثرة التواضع" (السلّميّ). هذا التواضع الّذي مِن دونِه يستحيلُ على أحدٍ أن يَبلُغَ إلى معرفة الحقّ.