الصليب كوسيلة لتقديس العالم وتغييره

الأب ديمتري ستانيلواي

تعريب نديم سلُّوم

 

من خلال الصليب، قدَّس المسيح جسده – صِلةُ الوَصل بينه وبين العالم. لقد رذل إغراءات العالم أي تذوُّق الملذَّات وإشباع احتياجاته بإفراط أو تجنُّب الألم والموت. إذا أردنا بالطريقة نفسها صَدّ إغراءات الخطيئة وعانَيْنا بصبرٍ من ألم الموت، يمكن أن تمتدّ القداسة من جسد المسيح إلى جميع الأجساد وسائر أنحاء العالم.

لا تقول الكنيسة الأرثوذكسيَّة إنَّ المسيح من خلال الصليب ترك الخليقة لكنَّه أعادها إلى الفردوس – فردوس الفضيلة لأولئك الذين يحبُّونه ويقبلون صليبه. إذًا الصليب هو قوَّة المسيح الذي إذا تبنَّيناه يمكن أن يأتي بالعالم إلى الفردوس. لهذه الغاية المسيح باقٍ معنا إلى نهاية الزمان. لا شك بأنَّ الفردوس الحقيقيّ سيأتي فقط بعد قيامة العالم.

تحوَّلت الخليقة إلى ساحة صراع بين الناس بسبب أهواء الجشع والأنانيَّة بشكلٍ عام. ولكن يمكن إعادتها إلى حالتها الفردوسيَّة من خلال الصليب. تنشد الكنيسة الأرثوذكسيَّة في عيد رفع الصليب الكريم في 14 أيلول: "إنَّ العود قد عرَّاني قديمًا في الفردوس. الذي بمذاقته جلب العدوُّ موتًا. أمَّا عود الصليب فقد انغرس في الأرض. فأتى الناس بسربال الحياة. والعالم أجمع امتلأ فرحًا كليًّا. فإذ نشاهده أيها الشعوب مرفوعًا. فلنصرخ إلى الله بأصوات متَّفقة قائلين بإيمان. إنَّ بيتك مملوءٌ مجدًا." (كاثسما قانون صلاة السحر). لهذا السبب فُتِح الفردوس مرة أخرى لأنَّ "السيف الملتهب المتقلّب" (تكوين3: 24) الذي مَنَعَ الدخولَ إليه بسبب طمع الانسان، لم يتمكَّن من إبقاء الفردوس مغلقًا. لأنَّ المسيح دخل الآن إلى الفردوس، بعد أن فتحه، بهيئة بشريَّة حاملاً خشبة الصليب الذي من خلاله انتصر على الطمع وآثَرَ على إنكار ذاته. كل من يفعل الأمر نفسه سيدخل إلى الفردوس أيضًا.

من المؤكَّد أنَّ هناك فردوسًا تدخله نفوس المؤمنين بعد المَمات. ولكن قد يكون هناك فردوسًا متجدِّدًا هنا على الأرض، استعادةٌ للفردوس الأصليّ. قد يتجدَّد من خلال الصليب الذي رُفِع في وسط الأرض والذي يقبله الناس كقاعدة لحياتهم. إنَّ فردوس نفوس المؤمنين بعد الممات موجودٌ بالفعل بفضل حياتهم الأرضيَّة التي تتبع روح الصليب. في النهاية، سيصبح الفردوس الأرضيّ المتجدِّد هو الفردوس الكامل والأبديّ بعد قيامة الأجساد.

ولكن من دون جهدٍ لجعل الأرض فردوسًا إلى حدٍّ ما، فلن تتقدَّم أبدًا نحو الفردوس الآخر. ولهذه الغاية يبقى المسيح معنا حتَّى نهاية العالم.

لدينا بالفعل على الأرض تقديرًا عن الفردوس الأُخرَويّ (الإسخاتولوجي). في ترنيمة أخرى، تنشد الكنيسة الأرثوذكسيَّة: "يا له من عجبٍ مستغربٍ أنَّ الغرس الحامل الحياة، الصليب الكلي قدسه، يظهر اليوم مرفوعًا إلى العُلى، فتُمَجِّدُه الأقطار جميعها، وترتعد منه الشياطين قاطبةً، فيا لها من موهبة مُنِحت للبشر، فبها أيها المسيح خلِّص نفوسنا بما أنَّك متحنِّنٌ وحدك." (قطعة الإينوس الأولى).

إنَّ دور الصليب في تقديس العالم وتغييره جَلِيٌّ في جميع ترانيم الكنيسة الأرثوذكسيَّة. كما أنَّ جسد الربِّ تقدَّس بالصليب، كذلك تتقدَّس أجسادنا وكذلك علاقتنا مع العالم وكذلك العالم نفسه. نتلقَّى القداسة بقوَّة المسيح، حيث يحتفظ الصليب بحضوره وامتداده لفهمه وصبره وسلوكه المُنَزَّه عن الخطيئة تجاه العالم ويصبح ترنيمةً لتمجيد الآب.

لهذا السبب، كل الأشخاص والأمور في الكنيسة الأرثوذكسيَّة تُقدَّم كتضحية من خلال الصليب. يصنع المسيحيُّون علامة الصليب ويطلبون القوَّة للسلوك بنقاء تجاه العالم. يعلنون أيضًا عن رغبتهم في الارتقاء بأنفسهم عبر جهودهم؛ لتمجيد الله من خلال أعمالهم وآلامهم في العالم، حتَّى من خلال موتهم؛ أن يعيشوا ويموتوا من أجل الله، ليبرهنوا بكلِّ الطرق أنَّهم يضحُّون بأنفسهم من أجله. من خلال الصليب تقدِّس الكنيسة كلَّ شيء: المياه التي يُرَشُّ بها المؤمنون، الطعام والمنازل والحدائق والحقول مع غلاَّتهم والهبات التي تُقدَّم لله. الصليب يقدِّسهم جميعًا، وينقِّيهم بقدر ما هم أنقياء وبقدر ما يجعلون الله ربَّهم مُتَجَلِّيًا في حياتهم. يضعهم الصليب من بين كلِّ الأشياء الأخرى في تواصل مع الله. تبدأ وتنتهي جميع الخدم الكنسيَّة بعلامة الصليب. ترتبط جميع إشارات العبادة الرئيسيَّة بعلامة الصليب، لأنَّ قوَّة المسيح ذاتها تنتقل من خلال علامة الصليب إلى الذي يصنعها. من خلال هذه العلامة، يلتقي المؤمنون بقوَّة المسيح واعدين أنَّهم سيقدِّمون ذبيحة نقيَّة لله وسيعملون بنقاء في كلِّ عملٍ في حياتهم. هذا هو السبب في أنَّ علامة الصليب دائمًا ما تكون مصحوبة بالتضرُّع إلى الثالوث القدُّوس. لأنَّ الثالوث هو الذي يحرِّك خلاصنا ومنه تأتي القوَّة الإلهيَّة التي تنشط في العالم من أجل تقديسه وتغييره. يتجلَّى هذا من خلال الصليب في العالم.

لا تنقِّي قوَّة الصليب المؤمنين وعلاقتهم بالعالم فحسب بل تنقِّي العالم أيضًا. يطرد الصليب أولئك الشياطين التي تسبِّب الشرَّ وتطلق الإغراءات من خلال الماء والنبيذ والفاكهة والكائنات البشريَّة.

يؤمن المؤمنون أنَّه من خلال رسم علامة الصليب في جميع أفعالهم ومسارات حياتهم وكلِّ تواصلٍ مع الطبيعة والناس، فَهُم مدعومون من الروح القدس. هناك علاقة خاصَّة بين الروح القدس والصليب لأنَّ الأخير هو الجهد الإنسانيّ للتطهُّر بينما الروح القدس هو القوَّة الإلهيَّة المطهِّرة. يجب أن يكون كلاهما مترادفيْن.

الصليب هو القوَّة المطهِّرة للكون. وعندما نرسم العلامة بإيمانٍ وعَزمٍ، من أجل حياةٍ نقيَّةٍ في العالم، تأتي قوَّة روح المسيح، الذي كان نقيًّا في العالم. ونتجنَّب الخطيئة ونترقَّب الموت. يعطينا الصليب قوَّة المسيح هذه لأنَّه إذ نحمله في ذهننا نريد أن نقتدي بمثاله ونتصرَّف في العالم من دون أهواء الأنانيَّة وبروح ضبط نفس راشدة وبسلامٍ واتِّفاقٍ مع الآخرين.

"الصليب سلاح ضدَّ الشيطان"، هكذا تنشد الكنيسة الأرثوذكسيَّة. إنَّه سلاحٌ ضدَّ كلِّ إغراءات ومكائد الشيطان، ضدَّ الأهواء التي تسبِّب الجدالات وضدَّ الاستعصاء. إنَّ الصليب سلاحٌ ضدَّ الشيطان لأنَّه يعزِّز فينا روح التضحية والشركة مع الله ومع بعضنا البعض.

وحده الصليب بترويضه لأهوائنا الأنانيَّة وفكِّ ارتباطنا المفرط بالعالم، الذي هو الواقع الوحيد، يمكنه أن يجلب السلام الدائم بين الشعوب والأمم.

أعلن الآباء القدِّيسون أنَّ رؤية الله في العالم، أو تجلّي الله في العالم، تعتمد على تطهيرنا من الأهواء. هذه الفكرة تطوَّرت من الناحية النظريَّة بطريقة خاصَّة من قبل القديس مكسيموس المعترف. وفقًا له، عندما ننظر إلى الأمور وقد تحرّرنا من الأهواء، فإنَّنا نستعيد معناها الحقيقيّ، أي تجلّي الله من خلالها: "المعنى يتأثَّر بالهوى؛ يتكوَّن التفكير المعقَّد من الهوى والمعنى. إذا فَصَلنا الهوى عن المعنى، فالذي يبقى هو التفكير الراقي" (القديس مكسيموس المعترف، 400 مقالة في المحبَّة). هذا لا يعني تدمير العالم بل إعادة اكتشاف حقائق معانيه – التي لم تشوِّشها الأهواء – وتَجَلّيه الإلهيّ.

عندما نحمل الصليب، نصبح بقوَّة صليب المسيح "خليقة جديدة" (2كور5: 1617) كما يقول بولس الرسول. في هذه الحالة نرى "كلَّ شيء من الله" (2كور5: 18). بهذه الطريقة نعدُّ الخليقة لبلوغ حالة التحرُّر التي سنصل إليها نحن أيضًا: كأبناء الله وليس كعبيد للعالم وللأهواء بعد الآن. لأنَّ العالم لا يفرح بحالة الانحدار التي نحن فيها بعد السقوط وأصبحنا عبيدًا له بدلاً أن نكون أسياده. إنَّ حالة الحريَّة التي سنصل إليها تتوافق مع حالة المجد التي يمكننا أن نجعل العالم شريكًا أيضًا (رو8: 30).

لا تزال الخليقة في مخاض الولادة فيما تتعلَّق بهذه الحالة الحقيقيَّة والجديدة لوجودها. إنَّها ألم الصليب التي تحمله بلا خطيئة. ثَبُتَ أنَّ الصليب هو الوسيلة الوحيدة الذي من خلاله ينتقل العالم إلى نوعٍ جديدٍ من الوجود حيث يصبح الله مرئيًّا باعتباره الكلَّ لجميع البشر. إنَّه الطريق الوحيد الذي يمكننا من خلاله أن نأتيَ إلى العشاء الرائع حيث تكثر المعرفة بالكلمة الإلهيَّة وحيث الخليقة تجعله جليًّا في كلِّ ملئه وندخل في حوارٍ مباشرٍ ونقيٍّ معه. لذلك سيظهر العالم كلُّه فيه وفينا كمحتوى مشترك للحوار وكجلاءٍ مضيءٍ من خلاله سيصبح معروفًا لنا في كلِّ الثروات التي أعطاها لنا (القديس مكسيموس المعترف).

كل هذا سيحصل بفضل صليب المسيح إذا قبلناه على أنَّه صليبنا. فقط من خلال نور الصليب وقوَّته الذي سيظهر في السماء، علامة ابن الإنسان عند مجيئه الرهيب (متَّى 24: 30) سيثبت العالم في النهاية "سماء جديدة وأرض جديدة" (رؤيا21: 1).

https://pemptousia.com/2019/04/the-cross-as-a-means-of-sanctification-and-transformation-of-the-world/