الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان
عن نشرة كنيستي العدد 34، في 29 آب 2021
أمران يميّزان القدّيس يوحنّا المعمدان: أوّلاً، ربطه لملكوت السماوات بالتوبة؛ ثانيًا، شهادته للحقّ حتّى الموت.
لقد تنبّأ إشعياء عن رسالة يوحنّا هكذا: "صوت صارخ في البريّة، أعدّوا طريق الربّ، اصنعوا سبله مستقيمة"؛ وكان يوحنّا يُعدّ طريق الربّ بكرازة التوبة، التوبة التي تهيّأ الإنسان لسرّ التدبير الّذي سيتمّمه الربّ بموته وقيامته؛ وسبل الربّ تصير مستقيمة بحفظ استقامة الإيمان وحفظ الوصايا؛ بدء الإيمان هو اكتشاف النفس للحقيقة، وثقة غير متزعزعة بعناية الله؛ وحفظ الوصايا هو بلوغ حالة مقت الخطيئة. يقول الذهبيّ الفم، "ما أعظم قدرة مجيء النبيّ، كيف حرّك الشعب كلّه وقاده إلى التفكير بخطاياه". فكما أنّ الله، الّذي يريد خلاص جميع البشر، لا يأتي إلى إنسان قبل توبة ذلك الإنسان، هكذا مجيء الله إلى شعبه كان لا بدّ من أن يسبقه تحضير الشعب بالإيمان والتوبة.
التوبة الحقيقيّة تتفعّل بالصوم والمسوح؛ المسوح تعني هذا الانكار الكامل للعالم وكل شهواته ومغرياته. الصوم في هذا اليوم هو عودة إلى الذات، وقفة يتأمّل فيها المؤمنون هذا السرّ الإلهيّ لخلاص البشر الّذي تمّمه ابن الله وأنبيائه وتلاميذه وسط الاضطهادات والموت. فالمعمدان هو صورة عن الكنيسة الشاهدة للحقّ وسط اضطهاد العالم. "الأعظم بين مواليد النساء"، يُصبح الأعظم بين مواليد الشهداء. ففي قطْع رأس السابق ظهر وكأنّ الشرّ قد انتصر. والشرّ هو دائمًا منتصر في هذا العالم، منتصر ظاهريًّا وإلى حين؛ أمّا الحقيقة التي أتى المسيح ليكشفها ويشهد لها فهي الحقيقةّ الأزليّة، وهي منتصرة دائمًا داخل نفوس المؤمنين بالمسيح. انتصارهم هو ثباتهم في المسيح وسط اضطهاد العالم؛ صلاتهم ومحبّتهم لأعدائهم تغلب جذور الشرّ داخل نفوسهم. هذا ما يجعل لهم مهمّة كالمعمدان يؤدّونها في هذا العالم. وكان المعمدان قد تهيّأ لهذه المهمّة التي أوكلت إليه، لا بالأساليب الدنيويّة والعالميّة، إنّما بالنسك وإنكار الذات. لأجل ماذا كان كل هذا النسك الّذي عاشه يوحنّا في البريّة؟ ألم يكن لأسمى مهمّة أوكلت إلى إنسان، "إعداد طريق الربّ"؟ وبمقدار عظم المهمّة المطلوبة من المسيحيّ، بهذا المقدار ينبغي أن يعظم نُسكه: صلاته، أصوامه، أسهاره، تواضعه، نقاوة ذهنه وتوبته. بمقدار ما تعظم التوبة تعظم المحبّة. وبمقدار ما تعظم المحبّة تعظم الرغبة في الشهادة للحقّ. فالمحبّة الحقيقيّة من الحقّ تنبت، لهذا قليلون جدًّا، كقلّة الّذين يبحثون عن الحقّ، هم الّذين يبلغون إليها.
إنّ الخطيئة الصغرى تقود إلى خطيئة أعظم عند المأخوذين بمحبّة السلطة والمجد الباطل. فهيرودس لكي لا يظهر ناكثًا بوعده ويخسر كرامته أمام عظمائه، قتل يوحنّا رغم أنّه، كما يقول الإنجيل، "كان يَهَاب يوحنّا عالِمًا أنّه رَجُلٌ بارٌّ وقدّيسٌ" (مر20:6). ولم يكن قسمه وحده الدافع إلى القتل، لكنّ عشقه غير الشرعيّ لامرأة أخيه أجبره من البداية على ارتكاب إثم إلقاء يوحنّا في السجن. لقد تعلّق بزانية ولأجل شهوته منها أغلق فم نبيّ بسجنه. فلو امتلك هيرودس حسًّا أخلاقيًّا حسنًا لكان حنث بقسمه، وكما يقول له الذهبيّ الفم، ماذا لو طلبت رأسك يا هيرودوس؟ فماذا لو طلبت كلّ مملكتك؟ إنّ داوود الّذي أقسم بقتل نابال الشرّير وأن يُدمّر كلّ ماله، تراجع عن قسمه عندما التمست أبيجايل، الزوجة المتعقّلة، العفو من داوود، ولم يشعر داوود أنّه أثِمَ عندما نكث بيمينه. أمّا هيرودس فقد ظنّ أنّه ليس لائقًا بهيبة سلطته أن يتراجع، فأوفى عاهرة قسمه.
لقد حزن هيرودس لكنّ حزنه لم يقوده إلى التوبة ووعي شرّ القسم الّذي أقسمه، إنّما قاده إلى دينونة عظيمة، حين ضحّى بنبيّ لأجل راقصة وأمّها الزانية.
وهكذا تتكرّر، إلى اليوم، خطيئة حبّ السلطة والمجد الباطل والاستسلام للشهوات، في قتل الأنبياء وكل من يقول لنا "لا يحقّ لك". لكنّ هيرودس، كما يقول الذهبيّ الفم، أخفق في إسكات فم يوحنّا، فالنبيّ فتح فاه وفتح أفواهًا أخرى لا عدّ لها. وظلّ يوحنّا بعد قتله، يُثير مخاوف هيرودس وهواجس ضميره إلى درجة أنّه اعتقد أن يوحنّا نفسه قد قام من الأموات. وهكذا يظلّ يوحنّا، في كلّ وقت وفي كلّ العالم، يُبكّت هيرودس وأمثاله المأخوذون بحبّ العظمة، الّذين يتعدّون ناموس الله ولا يرضون كلمة "لا"؛ فكلّ من يُطالع الإنجيل بتكرار، بحسب الذهبيّ الفم، سيسمع القول: "لا يحلّ لك"؛ يُقرّع كل عاتية وكلّ مستبدّ، من دون أن يكون لأحد سلطة على إسكات تقريعه الّذي لا يخفت مع الزمن.