إعلان كنيسة روما لعقيدة الحبل بلا دنس وعقيدة انتقال والدة الإله بالجسد

الأب ميخائيل بومازانسكي

تعريب شادي مخّول

 

أُعلِنَت عقيدة الحبل بلا دنس عبر مَرسومٍ بابويّ أصدَرَهُ البابا بيوس التاسع سنة 1854. تَنُصّ هذه العقيدة على أنَّ العذراء مريم الكليَّة القداسة، تطهَّرت من الخطيئة الجديَّة لحظة الحبل بها. جوهريًّا، إنَّ هذه العقيده تُعتَبَر استنتاجًا مباشَرًا من التعليم الكاثوليكي عن الخطيئة الأصليّة[1]. إنَّ عِبء خطيئة الجَدَّين الأوَّلين، بالنسبة للتعليم الكاثوليكي، يتمثَّل بحرمان الجنس البشريّ من عطيَّة النعمة الفائقة الطبيعة. لكن، انطلاقًا من هنا، يُطرَح تساؤل لاهوتي: إن حُرِمَ الجنس البشريّ من عطايا النعمة، فكيف يُمكننا أن نفهم كلمات رئيس الملائكة المُوَجَّهة إلى مريم: «إفرحي أَيَّتُهَا الْمُمْتَلِئَة نِعْمَةً! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ... قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ» (لو1: 28-30)؟ لا يُمكننا إلَّا أن نستنتج من هذا أنَّ مريم العذراء الكليَّة القداسة قد تمَّ استثناؤها من القانون المُطلَق لـ«الحرمان من النعمة» ومن معصيَة خطيئة آدم. وبما أنَّ حياتها كانت مقدَّسةً منذ الولادة، فقد نالت بشكلٍ استثنائي، عطيَّةً فائقةً للطبيعة، نعمة التَّقديس، حتى قبل ولادتها، أي لحظة الحَبَل بها. كان هذا الاستنتاج هو صَنيع اللَّاهوتيّين اللَّاتين. وقد دعوا هذا الفصل «امتياز» والدة الإله. علينا أن نعي أن إقرار هذه العقيدة قد سَبَقَهُ في الغرب فترة طويلة من النّزاع اللَّاهوتي الذي امتدَّ من القرن الثاني عشر، أي الفترة التي ظهر فيها هذا التعليم، إلى القرن السابع عشر، أي حين نشر اليسوعيُّون هذا التعليم في العالم الكاثوليكيّ.

سنة 1950، المعروفة بسنة اليوبيل، أعلن بابا روما بيوس الثاني عشر عقيدةً ثانية، وهي عقيدة انتقال والدة الإله إلى السموات بالجسد. عقائديًّا، إنَّ هذا التعليم قد تمّ استنتاجه من اللَّاهوت الكاثوليكي، من عقيدة الحبل بلا دنس الكاثوليكيَّة، وهو استنتاج منطقيّ من التعليم الكاثوليكيّ عن الخطيئة الأصليّة. إن استثناء والدة الإله من قانون الخطيئة الأصليّة المطلَق، يُشير إلى اقتنائها عطايا فائقة للطبيعة منذ الحبل بها: الطَّهارة والخلود، أي كما كان الجدَّان الأوَّلَان قبل سقوطهما في الخطيئة، وأنَّه لا ينبغي أن تخضع لقانون الموت الجسدي. بالتالي، إنَّ رقاد والدة الإله، يكون، من منظار اللَّاهوتيّين الكاثوليك، قُبولُها للموت طوعًا لتتشبَّه بابنها، لكن لا سُلْطَة للموت عليها.

ينسجم إعلان هاتين العقيدتين مع نظريَّة «تطوُّر العقيدة» الكاثوليكيَّة. ترفض الكنيسة الأرثوذكسيَّة منهج الحُجَج الكاثوليكيَّة في ما يختصُّ بالخطيئة الأصليّة. تعترف الكنيسة الأرثوذكسيَّة، على وجه الخصوص، بكمالِ طهارة والدة الإله وكمال قداستها، فربّنا يسوع المسيح، بميلاده منها، جَعَلَها أكرم من الشيروفيم وأرفع مجدًا بغير قياسٍ من السيرافيم. لم ترَ الكنيسة الأرثوذكسيَّة، ولا ترى، أي أُسُس لإقرار عقيدة الحبل بلا دنس بالمعنى الذي يتبنَّاه الكاثوليك، رغم أنَّها تكرّم ميلاد والدة الإله، كما تكرّم ميلاد النبي السابق المجيد يوحنا.

من جهةٍ، نرى أنَّ الله لم يحرم الجنس البشريَّ من نعمته المانحة العطايا، حتَّى بعد السقوط. كلمات المزمور 50 هي خير مثالٍ لذلك، «روحك القدُّوس لا تَنزَعْهُ منّي...وبروحٍ رئاسيٍّ اعضدني»، أو كلمات المزمور 70 «عليك اعتمدتُ من الحشا، من بطن أمّي أنت سِتري».

من جهةٍ أخرى، بحسب تعليم الكتاب المقدَّس، لقد ذاق الجنس البشريّ بجملته عبر آدم، الثَّمَرة المُحَرَّمة. فقط المسيح الإله-الإنسان، قد يبتدئُ بنفسه الجنسَ البشريَّ الجديد الذي أعتَقَهُ هو من خطيئة آدم. لذلك، يُدعى «بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ» (رو 8: 29)، هذا يعني أنَّه البكر في الجنس البشريّ الجديد؛ إنَّه «آدم الجديد». لقد وُلِدَت والدة الإله الكليَّة القداسة خاضعة لخطيئة آدم كسائر جِنسِها، وشاركَتْهُ الحاجة إلى الخلاص[2]. كانت حياةُ مريم العذراء النقيَّة والطاهرة إلى حين بشارة رئيس الملائكة لها، وتَحَرُّرِها من الخطايا الشخصيَّة، ثمرةَ اتّحاد جهادها الرُّوحي وفيض النعمة المُنسَكِبة عليها. قال لها رئيس الملائكة في تحيَّته لها: «لأنَّك وجدتِ نعمةً عند الله»،  تُشير عبارة «وجدتِ نعمة» إلى أنَّ هذه النعمة تُحقَّقُ وتُقتَنى وتُكتَسَب. إنَّ مريم العذراء الكليَّة القداسة قد تهيَّأت بأفضل ما يُمكن للجنس البشري لتكون إناءً مستحقًّا لتنازل الإله الكلمة إلى الأرض. حُلول الرُّوح القدس «الرُّوح القدس سيحلُّ عليك» قدَّس حشا مريم العذراء بالكليَّة ليحلَّ فيه الإله الكلمة.

يجب على المرء أن يعترف بأن مبدأ «الامتياز» لا يتوافق مع المفاهيم المسيحية، «لأَنْ لَيْسَ عِنْدَ اللهِ مُحَابَاةٌ» (رو 2: 11). أمّا بالنسبة للتقليد القائل بصعود والدة الإله بالجسد: أي الاعتقاد بصعود جسدها بعد دفنه، فهو موجودٌ في الكنيسة الأرثوذكسيَّة. ويُعبَّر عنه في محتوى خدمة عيد رُقاد والدة الإله، وفي اعتراف مجمع أورشليم للبطاركة الشرقيّين المنعقد سنة 1672. يروي القديس يوحنَّا الدمشقي في عظته الثانية عن الرُّقاد، أنَّ الإمبراطورة بوليخاريَّا (Pulcheria - القرن الخامس)، التي شيَّدت كنيسةً في القسطنطينيَّة، طلبت مرَّةً ذخائر والدة الإله من البطريرك الأورشليمي يوفناليوس (Juvenal)، الذي شارك في أعمال مجمع خلقيدونية، لِتَضَعَها في الكنيسة. فجاوبها يوفناليوس قائلًا إنَّ جسد والدة الإله، بحسب التقليد القديم، قد رُفِعَ إلى السموات، وأضاف إلى هذا الجواب الخبرَ المعروف حول التِآم الرُّسل بطريقةٍ عجائبيَّة ليشيِّعوا والدة الإله، وكيف فُتِحَ القبر بعد وصول توما الرَّسول ولم يكن جسدها هناك، وكيف انكشف للرُّسل خبر صعود جسدها إلى السموات. إنَّ الشهادات الكنسيَّة المكتوبة حول هذا الموضوع تعود بشكل عام إلى فترةٍ مُتَأخِّرة نسبيًا (بعد القرن السادس)، والكنيسة الأرثوذكسيَّة، مع فائق احترامها لهذه الشَّهادات، إلَّا أنَّها لا تُسنِد إليها أهميَّةَ المصادر العقائديَّة. وإن قَبِلت الكنيسة [الأرثوذكسية] تقليد صعود جسد والدة الإله، إلَّا أنَّها لم تعتبر ولا تعتبر هذا التقليد التّقوي إحدى عقائد الإيمان المسيحي وحقائقه الجوهريَّة.

 

Source:

Pomazansky, Protopresbyter Michael. Orthodox Dogmatic Theology. Translated by Hieromonk Seraphim Rose. Saint Herman of Alaska Brotherhood, 2009. Page 133.

 

[1] من أجل فهم الفرق بين مفهوم الخطيئة الأصليّة اللاتيني ومفهوم الخطيئة الجدّيّة الأرثوذكسي، الرّجاء قراءة المقال التالي: ’موقف الكنيسة الأرثوذكسيّة من موضوع «الخطيئة الأصليّة»’

https://www.saintgregorypalamas.org/blogPage/60098eaabfc6640a9e26f801

[2] بكلماتٍ أخرى، وُِلدت مريم العذراء وعندها ميلٌ إلى الخطيئة، كان هذا من نتائج سقوط الإنسان. يكتب القديس يوحنا مكسيموفيتش أسقف شانغهاي وسان فرانسيسكو: «لا يذكر أحد من الآباء القديسين القُدَماء أنَّ الله طهَّر مريم العذراء بطريقةٍ عجائبيَّة وهي بعد في الحشا. بينما يُشير الكثيرون بشكلٍ مباشَر أنَّها احتملت حربًا ضدَّ الخطيئة كسائر البشر، لكنَّها انتصرت على التجارب وقد خلَّصها ابنها القدُّوس» (The Orthodox Veneration of Mary the birth giver of God, p.51).