مَن هم القدّيسون

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان

رئيس دير رقاد والدة الإله - بكفتين

 

عن نشرة الكرمة

العدد 26

أحد جميع القديسين
 
بين القدّيسين والعنصرة توأمةٌ مقدّسة. فالقدّيسون هم أولئك الّذين انسكبت فيهم نعمة العنصرة، ومن خلالهم تستمرّ نعمةُ العنصرةِ فاعلةً في العالم. إنّهم يصيرون أسرارًا حيّةً ليسوع المسيح، يستمدّون مِن أسرار الكنيسة كلَّ نعمةٍ وحقّ. الحقيقة الإلهيّة أصبحت مختزَنةً في أعماق نقاوة قلوب القدّيسين، تلدُ لاهوتَ معرفةِ الله الحيّة. هكذا يولد القدّيسون حاملِينَ العنصرة. الصورة والمثال الإلهيّان لا يُستعادان إلّا بهذه الدرجة من القداسة. لهذا أوصانا المسيح "كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس".
 
ميزة القدّيسين هي سعيُهم الّذي لا يتوقّف إلى الكمال الإلهيّ، بمقدار ما هو مستطاع من بشر. لم يصيروا هكذا بفعل كمالِهم الأخلاقيّ أو الاجتماعيّ، إنّما بفعل تغيّرهم الّذي لا يتوقّف نحو الكمال؛ تغيّر الذهن والقلب في حركة عشق لا تتوقّف نحو المسيح الحقيقيّ وحده. لأجل محبّة المسيح زهدوا بهذا العالم وتخلّوا عن كلّ تعلّق أرضيّ وعن تنعّم الجسد، وانطلقوا في هجرة لا تتوقّف نحو الملكوت السماويّ. روّضوا أجسادهم بالنسك وإنكار الذات لتخضع للروح.
 
القدّيسون علموا أنّ القداسة تأتي من هذه الدقّة في حفظ وصايا المسيح، كلّ الوصايا حتّى أصغرها. لكن يستحيل حفظُ الوصايا قبل السيطرة على الأهواء. لهذا أحبّوا النسك، الأصوامَ الكثيرةَ والسّجدات، الصلوات المركّزة مع دموعٍ وسَهَرٍ بِلا كَلَل، الصبرِ الكثير والتواضع بلا حدود.
 
يُشدّدُ القدّيسُ أفرام السريانيّ على حركة النعمة في النفوس المجاهدة بِقَولِه: "يرمي الله بذارَه، لكن في الأجساد النسكيّة والتقشفيّة"، ويُكمل قدّيسُنا قائلاً: مِن دُونِ جهادٍ وتَعَبٍ "لا أحدَ سيُتوَّجُ لا في هذه الحياة ولا في الحياة الثانية". يستحيل العبور إلى القداسة من دون نُسْك، لأنّ هذا النُّسْكَ هو الّذي يقمع أهواء محبّة الذات الأنانيّة ويُحوّلها إلى محبّة المسيح. كمال القدّيسين الذّي لا يكتمل هو محبّة المسيح.
 
القدّيسون هم الّذين استطاعوا أن يُولَدوا ثانيةً مِن التوبةِ والروح. مسيرة القدّيسين هي مسيرة تائبين، قد يأتون من كافة أنواع الخطايا والأهواء والهرطقات.
 
القدّيسون هم الّذين عَرَفُوا ضعفَهم وفَقرَهُم الروحيّ، فأسلموا حياتَهم للمسيح في توبةٍ لا تتوقّف. لم ييأسوا من كثرة الأحزان وتجارب الشياطين ولا من كثرة السقطات، بل أخذوا من ضعفهم تواضعًا كثيرًا، لينهضوا ويُقاوموا الخطيئةَ حتّى الموت.
 
صبرُهم الكثيرُ اجتذبَ نعمةً كثيرة، شفى فيهم قساوةَ القلبِ وعلّمَهم الصلاةَ بِلا انقطاع. مِيزةُ القدّيسينَ أنّهم لا يشعرون بفضائلهم إنّما بخطاياهم بإحساسٍ داخليٍّ عميق، وبِحاجتِهم إلى رحمةِ الله.
 
هذا ما يُعطيهم أن يتوبوا ويَبكُوا خطاياهم، عالِمِينَ أنّهم يستحقّون الجحيمَ وكلَّ الدينونة. هذا هو سِرُّ عَمَلِ النعمةِ في تواضُعِ القدّيسين. توبة القدّيسين لا تتوقّف أبدًا، يتوبون ولا ييأسون، عالمين أنّ خطاياهم تُغفر بالتوبة، لكن يعلمون أيضًا أنّه إذا توقّفت التوبة تعود الخطايا أشرّ.
 
من جهة الإيمان المقدّس، رفض القدّيسون أن يُجارُوا روحَ العصر، بل قاوموا تأثيراتِه. واجهوا الهرطقاتِ بقوّة، كلَّ أنواعِ الهرطقات؛ عالمين أنّها تحمل روح إبليس. الهرطقة تُناقضُ القداسة. والهرطقةُ الحديثةُ لها أَوجُهٌ كثيرة: المسكونيّة، التوفيقيّة، العَصْرَنة... كُلُّها تُناقِضُ القداسة. لا يمكن أن يتقدّسَ مَن يُسلِمُ ذاتَه لهذه العولمة الدينيّة ولروح العصر والسعيِ إلى تجديد حياة الكنيسة بمقاييس الحياة العصريّة. كيف يمكن أن يتقدّس مَن يُشوّهُ إيمانَ القدّيسين النقيّ ويمزجُه بتعليمٍ آتٍ مِن شيطانِ المناقضةِ وتَعَظُّمِ الفِكر.
 
أولئك الّذين يُلْقُونَ عَثَراتٍ أمام المؤمنين، ويُشكّكون أبناء الله بالمقدّسات والقُدُسات، ويُشكّكونَ بِنُورِ القيامةِ وبالنعمةِ المتجلّيةِ في بقايا القدّيسين، يُسلّمون ذاتهم لروح الضلال. بدايةُ محبّةِ القريب هي أن تُزيلَ الشُّكُوكَ والعَثَراتِ مِن مسيرةِ خلاصِه، لأجل ثَباتِهِ في الإيمانِ ونُمُوِّهِ في الرجاء. القدّيسون مَقَتُوا العثراتِ وعلَّموا أنّ دينونتَها عظيمة.
 
القدّيسون لا يُصنعون بكثرة النظريّات والتبجّح والغرور، إنّما بإخضاع فكرهم ومشيئتهم للمسيح وكنيسته. القدّيسون يولدون من قانون الإيمان الأرثوذكسيّ، الّذي هو دستور الحياة الأبديّة. القدّيسون هم ثمرة الطاعة للإيمان الأرثوذكسيّ، ثمرة تسليم مشيئتهم الذاتيّة للخبرة الجامعة التي تُبنى بقوّة الإيمان أوّلاً، ثمّ بالتعب والأصوام والصلوات.
 
القدّيسون يولدون من تقليد الكنيسة، من إخضاع كلّ فكرٍ فيهم لطاعة تقليد الكنيسة. القدّيسون فهموا أنّ الطاعة تفرّغ النفس من أنانيّتها ومن اتّكالها على مفاهيمها الخاصّة، فتخضع بإرادتها الذاتيّة لفكر الكنيسة المقدّسة وعقائدها وقوانينها.
 
هكذا تستمرّ خبرة القدّيسين كاملة، وهي ذاتها من جيل إلى جيل، عبر الطاعة لتسليم الإيمان الأرثوذكسيّ. فقط هذه النفوس، التي بالإيمان والطاعة، اتّحدت مشيئتها بمشيئة الله، قادرة أن تتقدَّس وتُقدِّس، أن تستنير وتُنير وتُثبّت الكنيسة في مسيرة قدّيسيها.
 
هكذا تصير الكنيسة صانعة قدّيسين، وإلّا فإنّها تفقدُ كلَّ معنى وجودِها. أليس لأجل هذا أتى ابن الله إلى العالم؟ الكنيسة التي لا تُنتجُ نسّاكًا وقدّيسين انتقلوا من الإيمان العقليّ إلى خبرة معاينة الله، تصبح بسهولة كنيسة نواميس وأخلاقيّات؛ كنيسة دنيويّة فارغة من الروح، سائرة بسهولة إلى الزوال والاندثار.
 
القدّيسون هم صناعة النعمة الإلهيّة، النعمة المرتبطة حصرًا بالإيمان الحقّ المستقيم؛ وخارج هذا الحقّ لا توجد لا نعمة ولا قداسة. القداسة لا تبنيها حالاتٌ نفسيّةٌ عاطفيّة، أو سيرةٌ أخلاقيّة حميدة، أو خدمةٌ اجتماعيّةٌ بارزة، كما هو المعيار لدى غير الأرثوذكسيّين، إنّما هي اشتراكٌ كيانيٌّ في استقامة الإيمان وفي نور الله غير المخلوق، بعد التحرّرِ الكاملِ من الأهواء.
 
فالإنسان من دون النعمة ليس فقط لا يتقدّس، إنّما أيضًا لا يستطيع أن يقدّم عملاً مرضيًّا أمام الله. لهذا، يوصي القدّيس أفرام السريانيّ بأن لا تكونَ لكَ شركة مع الهراطقة، لأنّه لا توجد لديهم أعمالٌ صالحة، بما أنّهم خرجوا مِنَ النعمةِ الإلهيّة، نتيجةَ ابتعادِهم عن الإيمان المستقيم.
 
كل الّذين في التاريخ، جاهدوا لأجل الإيمان الأرثوذكسيّ، الّذين "عملوا وعلّموا"، تقدّسوا. في زمن الارتداد الّذي سيسود الزمن الأخير، سيتحوّل الكثيرون إلى صغارِ نفوس، لا يُساومون ويرتدّون عن الحقّ فقط، إنّما يضطهدون الّذين يتمسّكون بهذا الحقّ. لن يكونوا كثيرين أولئك الّذين سيقبلون أن يُضطهدوا لأجل صليب المسيح.
 
أو ليست الأرثوذكسيّة حاملة صليب المسيح في هذا العالم. مع هذا، لا يمكن أن يتوقّف وجود القدّيسين في هذا العالم. فهؤلاء بإيمانهم الحيّ وَبِنُسكِهم وصلاتِهم النقيّةِ وغَلَبَتِهم على الشياطين النجسة، يقدِّسون، لا فقط المكان الّذي يَنسَكُونَ فيه، إنّما يَنالُ العالَمُ كلُّه إشعاعاتٍ مِنَ النعمةِ الفاعلة فيهم. لهذا، لن تأتي دينونةُ هذا العالَمِ الحاضرِ طالما سيبقى هناك كفايةٌ من القدّيسين الأرثوذكسيّين الحقيقيّين، كخميرةٍ مقدَّسةٍ لهذا العالم البائس. القدّيسون الأرثوذكسيّون هم أساساتُ استمرارِ وجودِ العالم. وهؤلاء القدّيسون سيصبحون قليلين جدًّا كلّما تقدّم الزمن نحو النهاية، لكن قد يكونونَ مُشِعِّينَ أكثر، في زمن الارتداد الكبير.