البرلعاميَّة في اللاهوت المعاصر (الجزء الثالث والأخير)

المطران إيروثاوس فلاخوس

تعريب: نديم سلّوم

 

3) آراء برلعاميَّة لافِتة

عندما يقرأ المرء انتقادات القديس غريغوريوس بالاماس اللاهوتيَّة تجاه برلعام، نلاحظ بعض النقاط المثيرة للاهتمام التي تشير إلى التَّشابُه بين مختلف اللاهوتيين المعاصرين وبرلعام.

 

دحض القديس غريغوريوس بالاماس برلعام ونسب إليه عدَّة أوصاف كان إحداها "راهبًا كاذبًا" أي بمعنى أنَّ برلعام لم يصبح راهبًا بِخُضوعِه القانوني لأبٍ روحيٍّ تعلَّم منه الحياة الرهبانيَّة واللاهوت الأرثوذكسي. يتجلَّى هذا في آرائه التي تختلف عن التقليد الأرثوذكسي. سنشير إلى بعض النقاط المهمَّة.

 

أولاً، لم يكن برلعام يجهل بالتَّحديد طريق الهدوئيَّة الأرثوذكسيَّة فحسب، بل كان ضدَّ الهدوئيَّة المقدَّسة كما اختبرها الأنبياء والرسل والآباء ورهبان جبل آثوس المعاصرون. لهذا انقلب ضدَّ الهدوئيين وخاصةً ضدَّ نيكيفوروس المعترف الذي كان معلِّم الهدوئيَّة المقدَّسة والصلاة الذهنيَّة.

 

دافع القديس غريغوريوس بالاماس عن الهدوئيَّة المقدَّسة التي عرفها في جبل آثوس ونالها من الآباء الروحيين والنُّسَّاك ومارَسَها في حياته الشخصيَّة. يشير كامل مُحتَوى الثلاثيَّات إلى الهدوئيَّة المقدَّسة ولهذا أعطى عنوانًا لِعَمَلِه "ثلاثيَّة الدفاع عن الذين يمارسون الهدوئيَّة المقدَّسة". ترتبط الهدوئيَّة المقدَّسة بجوهرها بتطهير القلب من الأهواء واستنارة النوس والتألُّه، كما ناقشها القديس غريغوريوس بالاماس بالتفصيل. إنَّ الموافقة الكاملة على تعاليم الآباء القديسين ولا على نظريَّات الفلاسفة، وعودة النوس إلى القلب وقيمة الجسد البشريّ الذي يشترك في النعمة الإلهيَّة، واستنارة النوس بنعمة الله وليس معرفة الكائنات، ورؤية النور غير المخلوق الذي هو مجد الألوهة، هم جوهر الهدوئيَّة الأرثوذكسيَّة.

 

يقول القديس غريغوريوس بالاماس مُشيرًا بكلامه إلى الراهب نيكيفوروس إنَّه بعد إدانته من الهراطقة الإيطاليين (البابَويِّين)، جاء إلى الكنيسة الأرثوذكسيَّة وقبِل تعليمها وأسلوب حياتها بالكامل. ذهب إلى جبل آثوس الذي حدوده "هذا العالم وما فوق" وهو "مسكن الفضيلة"، وهناك أخضع نفسه للآباء البارزين. بعدما مَنَحَهُم لفترة طويلة خبرةَ تواضعه، نال منهم في المقابل "فن السلام التي هي الخبرة الهدوئيَّة". يصف القديس غريغوريوس الهدوئيَّة بأنَّها "فن السلام" لأنَّه بهذه الطريقة يهدأ العالم الداخليُّ للإنسان من استبداد الأفكار والخيالات والأهواء. ولكن هذه الهدوئيَّة تُعلَّم، أو بالأحرى تُلقَّن على نحوٍ سرِّيٍّ، من الآباء المتمرِّسين لأولئك الذين يتدرَّبون عندهم لفترة طويلة.

 

هكذا اكتسب القديس نيكيفوروس الهدوئيَّة المقدَّسة وأصبح "قائدًا" لأولئك الذين يجاهدون ضدَّ العالم العقلاني الذين هم أرواح الشر أي الشياطين. لهذا السبب جمع بنفسه العديد من المقاطع الآبائيَّة للآباء الصَّحَوِيّين حيث توجد جهاداتهم الروحيَّة ونتائجها. في الواقع، نظرًا لأنَّ العديد من المبتدئين لا يمكنهم أن يُسَيطروا على "عدم استقراريَّة النوس"، ولا حتَّى باعتدال، فقد وضع منهجًا يمكن من خلاله أن يَحصُرَ "خيالاتهم الشاردة المتعدِّدة"، وكان هذا المنهج يتألَّف من الأساليب النفسيَّة – التقنيَّة.

 

على مرِّ القرون، لم يقبل البرلعاميُّون الممارسةَ الهدوئيَّة، المنهجَ المقدَّس للهدوئيَّة الأرثوذكسيَّة، لأنَّهم يميِّزونها بوضوح عن المبادئ الفلسفيَّة ويعطون أهميَّة كبيرة للتحليل المنطقي والتفكير الجَدَليّ. لا يقبلون الهدوئيَّة المقدَّسة فحسب بل ينكرون المنهج بأكمله، وغالبًا ما يسخرون من الذين يمارسونه. لذلك يُعَرِّضون اللاهوت الأرثوذكسي بكامله للخطر. من خاصيَّة الفيلسوف برلعام، كما يقول القديس غريغوريوس بالاماس، إنَّه يستخدم "أفكاره المُتَقَلِّبة الكثيرة" مثل النار ليحرق أيَّة معارضة. يفعل الأمر نفسه اللاهوتيُّون المتفلسفون الذين يُعارِضون الهدوئيين "بأفكارهم المتقلِّبة الكثيرة" ومعرفتهم التي هي نتيجة خيالاتهم ومنطقهم.

 

ثانيًا، لا يتَّفق برلعام مع التقليد الأرثوذكسي في مسألة الصلاة المستمرَّة.

ترتبط الهدوئيَّة المقدَّسة بجوهرها بالصلاة الذهنيَّة لأنَّ المنهج الذي تُمارس به الهدوئيَّة المقدَّسة تُطهِّر الحواس وخاصةً القلب أي الجزء الأهوائي من النفس، ويتحرَّر الإنسان من الأفكار الأهوائيَّة ويتحرَّر النوس من عبوديَّة الحواس والمنطق والأهواء والمحيط، وعندها يصبح المرء قادرًا أن يصلِّي إلى الله بنقاءٍ ومن دون عناءٍ. هذه هي الصلاة الذهنيَّة وهذه هي الطريقة التي تُقام بها الصلاة المستمرَّة التي تحدَّث عنها بولس الرسول: "صلُّوا بلا انقطاع" (1تسالونيكي 5: 17).

 

لم يستطع برلعام أن ينكر دعوة بولس الرسول للصلاة بلا انقطاع لكنَّه فسَّرها بشكلٍ سطحيٍّ للغاية وخارجيٍّ ومعاكسٍ. يجادل أنَّ "صلُّوا بلا انقطاع" لا تعني "ممارسة الصلاة بل أن نكون في حالة صلاة". فالصلاة بلا انقطاع بحسب برلعام ليس التكرار المتواصل لاسم المسيح، كما يفعل الهدوئيُّون، بل هو الاعتقاد أنَّ المرء لا يستطيع أن يعمل أو ينجز أي شيء إلاَّ بمشيئة الله. بكلام آخرٍ، إنَّه إيمانً نظريٌّ بوجود الله وحضوره.

 

دحض القديس غريغوريوس بالاماس مثل هذا التفسير فيما يتعلَّق بالصلاة بلا انقطاع، خاصةً وأنَّ برلعام، كما كتب، فيلسوف "يصلِّي بلا انقطاع ولا يصلِّي أبدًا". لم يعرف برلعام الصلاة بلا انقطاع، ولا حتَّى "مع استراحات" أي صلاة متقطِّعة. بحسب القديس غريغوريوس، هكذا صلاة، كما فسَّرها برلعام، ليست غائبة حتَّى عن الشيطان الذي كان يعلم أنَّه لا يملك حتَّى سلطةً على الخنازير ما لم يسمح له الله بذلك.

 

ثمَّ يقوم القديس الهدوئيّ بتحليلٍ مشهورٍ عن مضمون الصلاة المستمرَّة ومِمَّا تتألَّف. أنا واثقٌ تمامًا من أنَّه في هذه النقطة كما في أماكن أخرى، يعبِّر القديس بقوَّةٍ عن خبرته الخاصة. على أيَّة حال، هذا هو الفارق الأساسي بينه وبين برلعام. استخدم كلاهما مقاطع آبائيَّة، ولكن فسَّرها برلعام فلسفيًّا/تأمليًّا وأساء تفسيرها بشكلٍ أساسيٍّ، بينما فسَّرها القديس غريغوريوس بالاماس من خلال خبرته الشخصيَّة. هذا المقطع عن الصلاة المستمرَّة مهمٌّ جدًّا لكنَّني سأقتبس منه فقط المحتوى الأساسي.

 

يفسِّر القديس غريغوريوس أنَّه عندما نتحدَّث عن الصلاة المستمرَّة، فإنَّ المقصود في الواقع هو "هبة روحيَّة سريَّة وميستيكيَّة" من الله، مُتاحة لأولئك المستحقِّين لِتَقَبُّل العشق الإلهي بغية الاتِّحاد مع ربِّ الكل، يُداوِمون على الصلاة وهم لا يأكلون ولا يتنفَّسون ويردُّون نُوسَهم إلى ذاتهم وهكذا يتَّحدون بالله. لاحقًا، تجذب هذه الهبةُ الروحيَّةُ للصلاة المعطاة من الله للإنسان النوسَ أحيانًا نحو الاتِّحاد الذي لا يوصف وتُنبِع فرحًا مقدَّسًا، وأحيانًا عندما يتَّجه النوس نحو الله تأتي مثل ترنيمة أو موسيقى؛ أي عندما يتواجد النوس في القلب يرتفع نحو الله وتأخذ العبادة الذهنيَّة مكانها. أولئك الذين يصبحون شُرَكاء في هذه النعمة المتحرِّكة على الدوام وعديمة الكَلَل تتجذَّر في قَلبِهم الصلاة غير المنقطعة، حتَّى أثناء قِيامِهِم بِعَمَلِهم اليوميّ، وحتَّى أثناء نَومِهم. كَشَهادةٍ على هذا التفسير للصلاة غير المنقطعة، يُقَدِّم القديس غريغوريوس بالاماس شهادات كتابيَّة وآبائيَّة مرتبطة بالموضوع.

 

بالتالي، فإنَّ الصلاة الذهنيَّة غير المنقطعة ليست إحساسًا بحضور الله، كما قال برلعام، بل فَعاليَّة مستمرَّة لنعمة الله غير المخلوقة في قلب الإنسان النقيّ المُعبَّر عنها بالصلوات كما يقول بولس الرسول: "ٱمْتَلِئُوا بِٱلرُّوحِ، مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ" (أفسس 5: 18 – 19).

 

يدعو القديس غريغوريوس بالاماس الصلاة الذهنيَّة بـ"العبادة العقليَّة" أو الأحرى "بالروحيَّة" التي يقوم بها أولئك الذين يُكَرِّمون ويدأبون على هذه "الحياة الهدوئيَّة طيلة العمر" ويساعدون المبتدئين على المشاركة في هذه "الليتورجيا الملائكيَّة الفائقة السموات". لذلك، فإنَّ الصلاة الذهنيَّة التي تتمُّ في جوِّ الهدوئيَّة المقدَّسة هي "عبادة روحيَّة" مرتبطة على نحوٍ وثيقٍ بـ"الليتورجيا الملائكيَّة الفائقة السموات".

 

إنَّ البرلعاميّين وأتباعهم (barlaamizers) ليسوا فقط جاهلين من ناحية الممارسة بهذه الليتورجيا الروحيَّة والملائكيَّة ولكن ينكرونها ويُهينونها ويسخرون منها. يُحدِّدون العبادة بالتراتيل والصلوات حصرًا، والتي يريدون أن تُفهَم بِمَنطِقِهم، وإلاَّ فلن يشعروا بأنَّهم يُصَلُّون. بكلامٍ آخرٍ، اعتمدوا كلِّيًّا على منطقهم وجعلوه مُطلَقًا. السؤال هو: إذا كانوا يفكِّرون ويرغبون بالصلاة هكذا، فكيف سيتعلَّمون الليتورجيا الأخرويَّة وكيف سيدخلون فيها بعد موتهم بما أنَّهم يجهلونها ويحاربونها الآن؟

 

ثالثًا، نأى برلعام بنفسه عن الكنيسة أولاً بفكره ثمَّ في الواقع، مما يدلُّ على أنَّه عندما يبتعد المرء عن لاهوت الكنيسة الأرثوذكسيَّة، يصبح الأمر مسألة وقتٍ قبل أن ينضمَّ إلى تقليد مسيحي هرطوقي آخر.

 

كان برلعام راهبًا إتِّحاديًّا أتى إلى الأمبراطوريَّة الرومانيَّة الشرقيَّة دون أن يعرف الهدوئيَّة الأرثوذكسيَّة لأنَّه كان يعرف السكولاستيكيَّة الغربيَّة ولهذا كانت ردَّة فعله شديدة الفظاظة عندما أُعلِم بالمنهج الذي كان الرهبان الآثوسيون يصلُّون به. ميَّز القديس غريغوريوس بالاماس هذا الواقع على الفور وبالفعل فسَّر كيف بدأت وانتهت حياة برلعام.

 

كتب القديس غريغوريوس بالاماس، رافضًا آراء برلعام الذي قال إنَّ الكمال يتحقَّق من خلال معرفة الدراسات الهللينيَّة والفلسفة، أنَّه سيحاول كشف "سبب المرض" وسيركِّب "دواءً حسب الله". يعبِّر القديس الآثوسي عن ألمه بسبب مرض برلعام الروحي عندما يستعمل عبارة "عضوًا حسنًا في الكنيسة" حيث يسعى إلى الحفاظ على بعض الجسور مع برلعام حتَّى لا ينفصل نهائيًّا عن الكنيسة. لكن برلعام كان قد انفصل عن الكنيسة "ذهنيًّا" لأنَّه لم يقبل تعاليم الكنيسة إذ أهان خبرة الأنبياء ومَدَحَ تعاليم الفلاسفة.

 

علاوة على ذلك، يُواجِه نَظرةَ برلعام القائلة بأنَّ نعمة الروح القدس المعطاة من الله هي مخلوقة – وهنا يَكمُن التعليم اللاتيني حول الكمال المطلق لله (actus purus)[1]. يكتب أنَّ برلعام بهذه الطريقة حاول أن يَقودَنا بـ"المكر والقوة" إلى ذهن اللاتين.

 

ثمَّ كتب القديس غريغوريوس أنَّ برلعام قَبِلَ البابا أخيرًا وطلب منه أن يصلِّيَ من أجل خلاصه وعانق ركبتيْه بلذَّةٍ وإجلال وحنى رأسه تحت يديِّ البابا وتقبَّل "منه البركة بفرحٍ".

 

يشير القديس غريغوريوس أنَّ وجود برلعام في الكنيسة الأرثوذكسيَّة الشرقيَّة كان بمثابة مسرحيَّة بما أنَّه سخر من ما هو لنا. يكتب أيضًا أنَّ برلعام لم يَستَلِم أي نوع من القداسة من الكنيسة ولم يَرَهُ أحد يتناول الأسرار الطاهرة ولا قصَّ شعره بشكلٍ دائريٍّ رهبانيٍّ[2] وفقًا لتقليد الكنيسة، لذلك كان "راهبًا كاذبًا وزائفًا".

 

المهم هو، كما يشير القديس غريغوريوس، أنَّ المرء يبتعد أولًا "ذهنيًّا" عن الكنيسة بما أنَّه لم يقبل جميع عقائدها وتقاليدها ثمَّ يحاول بـ"المكر والقوة" جعل الأرثوذكس يَقبَلون التقاليد اللاتينيَّة أو حتَّى أن يقبلوا ويسعوا للحصول على "بركة" البابا ومن ثمَّ يرتبطون بالهرطقة. هذه هي طريقة البرلعاميّين وأتباعهم (barlaamizers) الذين بعد أن يُغَيِّروا الإيمان الأرثوذكسي يجتمعون في العبادة مع البابَويِّين، وهكذا يَصِلون إلى ذُروة نهج زُمرتهم.

 

https://www.johnsanidopoulos.com/2014/10/barlaamism-in-contemporary-theology-3.html

 

[1]بتأثير من الفلسفة والعقلانيَّة السكولاستيكيَّة استنتج الغرب أنَّ الله فقط بجوهره كامل وغير مخلوق، وكل ما يصدر عنه ليس بكمال الجوهر وبالتالي النعمة والقوى هي مخلوقة.

[2]قص شعر الراهب بهذا الشكل كان جاريًا في القرن الرابع عشر.