البرلعاميَّة في اللاهوت المعاصر (الجزء الثاني)

المطران ايروثاوس فلاخوس

تعريب: نديم سلّوم

 

 

2) آراء برلعام المختلفة عن القديس غريغوريوس بالاماس

 

تَظهَر الحُجَج اللاهوتيَّة للقديس غريغوريوس بالاماس ضدَّ برلعام بقوَّة في عَمَلِه "ثلاثيَّة الدفاع عن الذين يمارسون الهدوئيَّة المقدَّسة". أجاب في الثلاثيَّة الأولى على حجج برلعام بناءً على أسئلة طُرحِت عليه من راهبٍ معيَّنٍ، ولكن عندما حصل على نصوص برلعام التي كانت مُعَمَّىً عليها بعناية، عندها أجاب عليها تحديدًا في الثلاثيَّة الثانية. وعندما قرأ برلعام كتابات القديس غريغوريوس بالاماس واتَّهمه بِرَدٍّ عنوانه "ضدَّ المصلِّين (messalians)"، عندها أجاب القديس غريغوريوس بالاماس بالثلاثيَّة الثالثة، وبهذه الطريقة قَلَبَ كلِّيًّا آراء برلعام التي لو انتصرت لأصبحنا اليوم اتِّحاديين في النظريَّة والتطبيق. هكذا ظهر عمل "ثلاثيَّة الدفاع عن الذين يمارسون الهدوئيَّة المقدَّسة".

 

مع ذلك على الرغم من الرَّد المَتين للقديس غريغوريوس بالاماس على آراء برلعام لا يزال هناك لاهوتيُّون أرثوذكس في "نظامهم اللاهوتي" يوافقون على آراء برلعام، عن معرفة أو غير معرفة، أو على الأقل يستخدمون مَنهَجِيَّتَه. لكي نرى ما زَعَمَه برلعام، سنقدِّم فِكَرَه الذي واجهه القديس غريغوريوس بالاماس في الثلاثيَّة الثانية والثالثة.

 

ترد عناوين أعمال برلعام ومُحتَواها بشكلٍ أساسيٍّ في الثلاثيَّة الثانية حيث يستشهد القديس غريغوريوس بالاماس بمقاطع كاملة من برلعام، بالإضافة إلى أفكارٍ أخرى له سَجَّلها القديس غريغوريوس بالاماس بوضوحٍ. وقد أدان القديس الآثوسي هذه الآراء البرلعاميَّة بقوة كبيرة في الكلام والحياة. تظهر "روح" حجج برلعام بأكملها في أسئلة طَرَحَها راهب على القديس غريغوريوس وفي الإجابات المقدَّمة الموجودة في الثلاثيَّة الأولى. بناءً على هذه يمكننا تَبيين محتوى البرلعاميَّة. سَنُسَلِّط الضوء بشكلٍ أساسيٍّ على ثلاث نقاط:

 

(1

أولاً، يُشير برلعام إلى المعرفة ويَستبعِد الحكمة الإلهيَّة مقابل الحكمة البشريَّة. من المُفتَرَض أن يكون عمل برلعام في هذا الموضوع بعنوان "في الأفكار" أو "في المعرفة" أو "في خلق الحكمة".

 

يبدو أنَّ آراء برلعام في هذه المسألة كانت كالتالي: يعطي أولويَّة "للحكمة الخارجيَّة" أو الفلسفة، التي يجب حتَّى الرهبان أن يَسعَوا إليها، لأنَّه فقط من خلال الحكمة البشريَّة يمكننا بُلوغ اللاهوى ونقترب من الكمال والقداسة. هذا لأنَّه يعتبر الثقافة الهلِّينيَّة هِبة من الله وشَبيهة للإعلان المعطى للأنبياء والرسل. كما يمكننا أن نجد "معرفة الكائنات" في الذهن الإلهي والأوَّلي والخلَّاق، وقد وُضِعت صُوَر هذه الأفكار في روح الإنسان التي يجب أن نعرفها لكي نتخلَّص من الجهل والأساليب التحليليَّة والقِياسيَّة، وبهذه الطريقة سنصبح على مثال الله وسنحيا بعد الموت.

 

يرى المرء في هذه الآراء التقليد الأفلاطوني القديم والميتافيزيقيا الكلاسيكيَّة واللاهوت السكولاستيكي حيث المنطق ومقاييسه الأولويَّة في الوصول لمعرفة الله وشركة الإنسان مع الله من خلال النماذج الأولى.

 

(2

ثانيًا، تُشير آراء برلعام إلى طريقة الصلاة وعلاقتها مع الذهن والجسد. لا بدَّ أنَّ هذا العمل لبرلعام كان بعنوان "في الصلاة" أو في "الكمال البشري" أو "في الصلاة والكمال البشري".

 

بحسب آرائه، على ذهن الإنسان أثناء الصلاة أن ينأى بنفسه عن الجسد ولا ينحصر فيه. تُبطِل هذه الآراء تعاليمَ الرسل والآباء عن حلول نعمة الله على الجسد من خلال النوس.

 

عبر هذه الآراء، رفض بوضوحٍ الصلاة النوسيَّة، لم يعد هناك من تمييز بين النوس والعقل، وهَيْمَنَ المنهج الفلسفي للخلاص أي معرفة الكائنات المطابقة للأصل من خلال التفكير الفلسفي والجدلي. علاوة على ذلك، لا يُشَكِّك فقط بالتقليد الهدوئي الذي اختبره الرهبان في جبل آثوس، بل يرفضه باعتباره أمرًا غريبًا كليًّا عن التعليم المسيحي. نرى هنا بوضوح تأثير الميتافيزيقيا الكلاسيكيَّة على برلعام.

 

(3

ثالثًا، تشير آراء برلعام إلى نور الله وطبيعة النور الإلهي الذي ظهر على جبل ثابور. لا بدَّ أنَّ عمل برلعام في هذه المسألة كان بعنوان "في النور".

 

في هذا العمل يناقش أنَّ كل استنارة تُدرِكها الحواس هي إمَّا وَهم أو هي رمزيَّة. ضمن هذا المنظور شَمَلَ كل إعلانات الله للأنبياء والنور على ثابور في تجلِّي الرب وحلول الروح القدس في العنصرة. بالمقابل اعتبر أنَّ المعرفة البشريَّة فقط هي فوق الاستنارة، لهذا اعتبر أنَّ المعرفة البشريَّة المُكتَسَبة من البعض أفضل من النور والثاوريا.

 

من الواضح هنا أنَّه يفضِّل الفلسفة والتأمُّل والميتافيزيقيا والتَّحليل المنطقي على خبرة المعاينة الإلهيَّة والطريق المؤدِّي لذلك، أي الهدوئيَّة. كما يبدو، اعتبر برلعام أنَّ خبرة النور غير المخلوق التي تحصل مع الحواس المُتَجَلِّية هو ضلال، بينما يضع ثقلًا على الفلسفة التي بها استطاع معرفة الله من خلال نهجه المنطقيّ، بما أنَّ المنطق هو العنصر الأكثر نُبلاً في الوجود الإنسانيّ.

 

قُدِّمَت هذه الآراء الثلاثة لبرلعام بالكامل في الثلاثيَّة الثانية، حيث تمكَّن القديس غريغوريوس بالاماس من الإشارة إلى نصوص برلعام بالذات، والتي بالطبع أدانها القديس الآثوسي بِحُجَجٍ قويَّةٍ مأخوذةٍ من الكتاب المقدَّس والتقليد الآبائي والخبرة الهدوئيَّة المعاصرة وبالتأكيد خبرته أيضًا.

 

يتَّضِح مِمّا سبق أعلاه أنَّ برلعام بالغ في الحكمة الخارجيَّة، أي الفلسفة والفلاسفة، على حساب خبرات الكشف الإلهي للأنبياء والرسل والآباء، مُنتَقِدًا الصلاة القلبيَّة على أنَّها ضلال لأنَّه أيَّد التحليل القياسي والتصادُفيّ، ورفض مشاركة الجسد في التألُّه. بالغ أيضًا في تحليل رؤية النور غير المخلوق أو أساء تفسيره على أنَّه أمرٌ خطيرٌ، لأنَّه وفقًا له لا يأتي الكمال عبر تطهير القلب واستنارة النوس والتألُّه، ولكن من خلال منطق المعرفة، ومعرفة الكائنات، والمقارنات السكولاستيكيَّة والميتافيزيقيَّة. وهكذا يتخطَّى كل خبرات الإعلان للأنبياء والرسل والقديسين ويستخِفّ من الطريق المؤدِّي لرؤية الله وهي الهدوئيَّة المقدَّسة. لذلك يبالغ في "العبادة المنطقيَّة" ويضعها ضدَّ العبادة الذهنيَّة.

 

من المهم أيضًا الطريقة التي عمل بها برلعام والذين يفكِّرون مثله، كما يَظهَر في السؤال الثالث الذي طَرَحَهُ الرّاهب المجهول للقديس غريغوريوس بالاماس. كما يقول (القديس غريغوريوس بالاماس)، إنَّ برلعام وأولئك الذين يؤيِّدون آراءه جاهلون للكتابات الآبائيَّة وليس لديهم خبرة شخصيَّة مع الله ويتميَّزون بكبريائهم ويستخدمون ذهنَ جَسَدِهِم أي المنطق ويفترون علانيَّةً على الآباء. إذا عارض شخصٌ ما كلامَهم، يتجاوبون بعواطف مفرطة تُظهِر ضَلالهم. في الواقع، يهاجم البرلعاميُّون الذين لا يتَّفقون معهم عبر طُرُقٍ عدَّةٍ، مقلِّدين "إلتواء ومَكر الثعبان" مستخدمين حبكاتٍ وعِلَلٍ مُلتَوِيةٍ، وفي كلِّ مرَّةٍ يشرحون آراءهم بالتناقضات. لأنَّ ليس لديهم يقينٌ بالحقيقة لذلك هم عدائيُّون وعندما يوبِّخهم ضميرهم، يحاولون الاختباء كما فعل آدم بعد السقوط مُتَلَطِّين خلف أشكال وألغاز وغموض المعاني المتعدِّدَة لمنطقهم.

 

هذا ما أكَّده برلعام فيما يتعلَّق بالتقليد الهدوئي وخبرة الأنبياء والرسل والآباء في معاينة الله. هذه الآراء تُسمَّى البرلعاميَّة. يمكن وَصف الطريقة التي عمل بها برلعام والذين يفكِّرون مثله، كما تمَّ تحليلها أعلاه، بأنَّها برلعاميَّة.

 

https://www.johnsanidopoulos.com/2014/10/barlaamism-in-contemporary-theology-2.html