عظة في يوم الجمعة العظيم والمقدّس

القديس لوقا أسقف سيمفيروبول

تعريب جنيفر سعد

 

«وَكَانَ نَحْوُ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ، فَكَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى الأَرْضِ كُلّهَا إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ» (لو 23:44).

 

التَحفَت الشّمس بالقَتام رَهبةً لما فَعَله القَتلة، الذين قتلوا ابن الله على الأرض، حاجبةً رؤية أشنع الجرائم التي ارتُكبت. وجرّاء الخوف والذّعر، أُسْكِتَت شّفاه الذين قتلوا مخلّص العالم الملعونة وهزئوا به عند قولهم: «خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا! إِنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ فَلْيَنْزِلِ الآنَ عَنِ الصَّلِيب فَنُؤْمِنَ بِهِ!» (متى 27:42).

 

أتت السّاعة التي بَلغَت فيها آلامُ ربّنا يسوع المسيح ذروتَها. أَتعلَمون لماذا الذّين أُعْدِموا على الصّليب صمدوا لأيّام قُبيل وفاتهم، بينما موت ربّنا كان أسرع بكثير، بعد ستّ ساعات فقط؟ أتعلمون أنّ الألم الشّديد المستمرّ لفترة طويلة كفيلٌ وحده بالتسبّب بالموت؟ هذا تمامًا ما حصل مع الرّب يسوع المسيح. رهيبة كانت معاناته وعذاباته إذ غمره هذا العبء الذي لا يوصف المُثقل بخطايا العالم أجمع، والتي ضحّى طوعًا من أجلها وفداها بدمه الذي لا عيب فيه.

 

خارت قواه لدرجة أنّه استطاع أن يتلفّظ فقط بكلماته الأخيرة: «أنا عطشان» (يو 19:28)، «يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي» (لو 23:46). تزلزلت الأرض وانشقّ حجاب الهيكل إلى اثنين، من فوق إلى أسفل. ورجع المشكّكون الذّين لم يقبلوا المسيح وهم يقرعون صدورهم. ماذا كان يفتكر هؤلاء المتعصّبون الأغبياء الذّين صرخوا لبيلاطس قَائِلِينَ:«اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ!» (لو 23:21)، «دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا» (متى 27:25). أتُراهم أدركوا أن الشّيطان نفسه كان يصرخ من أفواههم بتلك الكلمات الفظيعة؟

 

قبل ذلك بقليل، أولئكَ النّاس عينهم، خرجوا للقاء يسوع المسيح وفرشوا ثيابهم في الطّرقات وحملوا سُعُوفَ النَّخْيلِ وَكَانُوا يَصْرُخُونَ: «أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» (يو 12:13). هذا أمر فظيع جدًّا وهو يوضح عُمقَ توغُّل الرّوح الشّريرة في قلب الإنسان.

 

ولكن فلنَدَع جانبًا التّعصُّب الأعمى لأعداء المسيح، الذّين اعتقدوا أنّ شفاء المرضى والمشلولين يوم السّبت والمرضى والمثقلين بالأمراض والممسوسين بالشياطين والعميان، هو خطيئة كبيرة وإلغاءٌ للناموس الموسويّ. فلنفكّر بنوعٍ آخر من التعصُّب إن وُجِد في تاريخ الجنس البشريّ. لنتذكّر الهراطقة المتوهّمين الذّين ماتوا في لهيب محاكم التفتيش في إسبانيا. لنتذكّر ليلة القدّيس بارثلماوس التي ذُبح خلالها آلاف البروتستانت الفرنسيّون بسبب هرطقاتهم. لنتذكّر أنهار الدّماء التي أُهرقت في الحرب، عندما واجه المسيحيّون بعضهم لمدّة ثلاث سنوات كاملة. 

 

لننظُر حولنا. نرى الكثير من النّاس الذين هم غير هرطوقيّين ولكنّهم لا يؤمنون بالمسيح إطلاقًا. وهناك الكثير ممّن ذَكَرَهم بولس الرّسول: «مَنْ خَالَفَ نَامُوسَ مُوسَى فَعَلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ يَمُوتُ بِدُونِ رَأْفَةٍ. فَكَمْ عِقَابًا أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقًّا مَنْ دَاسَ ابْنَ اللهِ، وَحَسِبَ دَمَ الْعَهْدِ الَّذِي قُدِّسَ بِهِ دَنِسًا، وَازْدَرَى بِرُوحِ النِّعْمَةِ؟» (عب 28:10-29).

 

ما من شيء يُمكن فعله لمُساعدة هؤلاء المساكين. لَسْنا سوى قطيع المسيح الصّغير، ولا يمكننا أن ننسى كلمات مخلّصنا الرّهيبة: «مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟» (لو 18:8). نقف جميعنا حاليًّا أمام النّعش. وفي هذه اللحظة الرّهيبة، يتمّ إنزال الذّبيحة عن الصّليب، الذّي صُلب بسبب خطايانا وخطايا العالم.  نرى في النّعش جسده الرّاقد مليئًا بالجروح المفتوحة. لتشتعل محبة الله في قلوبنا من هذا المنظر الرّهيب فالمسيح عانى كثيرًا من أجل البشر الذين أتى ليُخلّصهم لكنّهم لم يقبلوه.

تعالوا يا جميع أولاد المسيح المؤمنين لتكريم النّعش، وتقبيله بشفاهنا، ولمسه بقلوبنا، وتبليله بدموعنا. آمين.

 

https://www.johnsanidopoulos.com/2020/04/homily-for-holy-and-great-friday-st.html