عظة في أحد السجود للصليب

للقدّيس يوحنّا كرونشتادت
تعريب نقولا انطوان موسى

 

«مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي» (مرقس 8: 34)

 

يُدعى يوم الأحد الحاضر من الصوم الكبير أحد إكرام الصليب، لأنّنا نُكَرِّم اليوم الصليب وآلام ربّ المجد، المصلوب من أجلنا، وأيضًا لأنّ الكنيسةَ عَيَّنت في هذا الأحد المقطعَ الإنجيليّ المُختَصّ في كيفيّة تَحَمُّل كلّ شخصٍ صليبَه ومعاناتِه وأحزانَه والتي هي غير مُنفَصِلة عن طريق اتّباع المسيح في هذا العالم. يقول الربّ للشعب ولِرُسُلِه: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ (أي أنه يُميت أهواءه وشهواتِه) مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ ٱلْإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا. لِأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلْإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي ٱلْإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ لِأَنَّ مَنِ ٱسْتَحَى بِي وَبِكَلَامِي فِي هَذَا ٱلْجِيلِ ٱلْفَاسِقِ ٱلْخَاطِئِ، فَإِنَّ ٱبْنَ ٱلْإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ ٱلْمَلَائِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ». (مرقس 8: 34-38). يأمرنا الربّ يسوع المسيح أن ننكر ذَواتِنا بالكليّة، وأن ننكر الشيطان الذي يعمل فينا وكلّ أعماله وكلّ خدمة له وكلّ كبريائه، وأن نحمل صليبنا ونُكابِد الحرمان وضعفنا والمعاناة والأحزان، المُرسَلة إلينا لتَطهيرِنا وتوبيخِنا وتَحصينِنا في الفضائل كي نتحمّل الإغراءات الحاصلة عبر الشياطين والبشر. نحن مُتَعَلِّقون بشدّة بحياتنا الجسديّة، ننمو مُتَعَلِّقين بخطايانا مُتَشَبِّثين بها، ونخشى إعلان حرب حاسمة ضدّها قاطعين كلّ العلاقات معها، نتّخذ نصف التدابير ضدّها فقط كأنّنا نحمي أنفسنا معها، كما لو أنّها أصبحت جزءًا من سِماتنا الطبيعيّة، تاليًا نبقى فيها دائمًا. تتجذّر فينا أكثر فأكثر، ويصبح شَنّ الحرب عليها أكثر صعوبة، وغالبًا ما نفقد أنفسنا أمام الله ونصبح أرضًا للعدوّ وفريسة له يوميًّا.

    

كلمات الربّ: «من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها» تتحقّق فينا يوميًّا. نُسَلِّم ذواتنا للعدوّ يوميًّا عبر كلّ أشكال الخطيئة التي تعيش وتعمل فينا، نموت يوميًا روحيًا، ولَيتَنا نقوم أيضًا مرّة أخرى كلّ يوم ونرجع إلى الحياة مع الله عبر توبة الدموع! «آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلَهِكُمْ» (إشعيا 59: 2). يمكنها أيضًا فَصلَنا إلى الأبد إذا لم نرجع ونَتُب من أعماق قلبنا. ومع ذلك، لِنَنظر إلى بعض الخطأة الذين أصبحوا قدّيسين مثل بطرس والعَشّار ومريم المصريّة وإفذوكيّا وغيرهم. أنظروا إلى القدّيسين الذين شَنّوا حربًا حاسمة لا رجوع فيها ضدّ الخطيئة وضدّ الأهواء وضدّ الشيطان، كم أحبّوا الله وحقيقته بِصِدق مُتَخَلّين عن حياتهم الجسديّة من أجل المسيح والإنجيل، لقد خلّصوا نفوسَهم إلى الأبد. لماذا لا نختار أن نكافح بشكل حاسم ضدّ الخطيئة؟ نحبّ حياتنا المؤقّتة كثيرًا، نخشى أن نُحزِنَ الجسدَ، نخشى من الإغراءات الكبيرة، نحبّ العالمَ وما يتعلّق به كثيرًا مُتناسين حَتمِيّة الموت والعبور إلى حياتنا الجديدة. نعتمد على أن نعيش سنوات طويلة في ازدهار مستمرّ، في سَعيِنا وراء المَلذّات الحِسّية وننسى سُموّ نفوسنا الإلهيّة ومصيرها في عدم الموت والبركة. ننسى أنّها أثمن بكثير من العالم بكلّ كُنوزه والتي ستزول مثل الظلّ. يقول الربّ مُستَنكِرًا سُلوكَنا الأحمق هذا: «لِأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلْإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي ٱلْإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟» (مرقس 8: 36-37).

    

هناك سبب آخر لعدم اختيارنا التَّخَلّي عن طريقتنا الخاطئة بحزم وأن نبقى مُستعبَدين للعالم وعاداته وتقاليده وكلّ ما يتعلّق في هذه الدنيا، الحياة الباطلة. هذا لأنّنا نخجل سِرًّا بإيماننا، نخجل بالاعتراف بالربّ والعيش بحسب وصاياه وإنجيله ونخجل أن نتبعه، وذلك لكي لا نخسر الاحترام والشرف في هذا العالم الخاطئ الفاسق. وهكذا نسمح لأنفسنا بالابتعاد عن الله فَيَجرُفُنا جَرَيان هذه الحياة الخاطئة الفاسدة. نحن على يقينٍ أنّنا نمضي وقتنا، الثمين جدًا، على حسابنا بِتَهَوُّر، نعلم أيضًا ما هو هدف حياة الإنسان الأسمى على الأرض، نعرف ذبيحة الفداء المُقَدَّمة إلينا على الصليب، ولكن طريقة الحياة السائدة، مَفهومَنا للنور، وُجهات نَظَرِنا الغريبة عن الحياة والإيمان والكنيسة، لا تسمح لنا بأن نبتعد عن مُفتَرَق الطرق الذي وضعنا أنفسنا فيه، ولا تسمح لنا باستعادة الوعي والعودة إلى الصَّواب لنفكّر في مصيرنا. نحن عبيد بائسون لِمُحيطِنا، عبيد للعالم الخاطئ الذي يعيش في الشرّ. ومع ذلك، إذا أنتم المسيحيون تريدون أن تتبعوا المسيح وأن تدخلوا في مجده فَعَلَيكم أن تتبعوه بدون كَلَل وأن تتمّموا وصاياه وأن تتواضعوا وأن تُصَلّوا وأن تحبّوه وأن تجاهِدوا وتتحلّوا بالصبر. «بِصَبْرِكُمُ ٱقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ» (لو 21: 19).

      

عقابٌ رهيبٌ ينتظر المسيحيين غير المؤمنين لأنّهم رفضوا رعاية الربّ العظمى التي أظهرها لهم وتضحية الربّ يسوع المسيح المعطاة أيضًا لهم على الصليب. لقد استحوا به وبإنجيله وبالعيش حياةً بحسب الإنجيل. سوف يستحي هو بهم أيضًا عندما سيأتي بمجد أبيه ليدين العالم. لن يعترف بهم كأخِصّائه، سوف يطرحهم عن وجهه إلى الأبد. «لأنّ من استحى بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ فإنّ ابن الإنسان يستحي به متى جاء بمجد أبيه مع الملائكة القدّيسين» (مرقس 8: 38). يا له من مصير رهيب! هكذا، بينما لا يزال أمامنا وقت، دعونا نتخلّى عن الأهواء وشهوات الجسد وكبرياء الحياة وأن لا نخاف من الصليب الذي يقودنا إلى المجد الأزليّ وأن نتبع المسيح على الدوام حيثما يوصينا: «وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضًا يَكُونُ خَادِمِي» (يوحنا 12: 26). آمين.