القدّيس غريغوريوس بالاماس والتقليد الهدوئيّ

 للأرشمندريت غريغوريوس اسطفان - رئيس دير رقاد والدة الإله - بكفتين

عن نشرة الكرمة - عدد 13

في 28 آذار 2021

الأحد الثّاني من الصّوم - أحد القديس غريغوريوس بالاماس

 

من الهدوئيّة وحياة السكون والصلاة غير المنقطعة، دُعي القدّيس غريغوريوس بالاماس للدفاع عن إيمان الكنيسة وخبرة حياتها الإلهيّة. من الهدوئيّة وسكون الأهواء نشأ لاهوت الكنيسة، لاهوتًا مكتوبًا بالنعمة لا بمنطق البحث والفلسفة. 

 

العقلانيّون والباحثون بتعظّم الفكر يُصبحون بسهولة مبتدعين، لأنّ أفكارهم الخاصّة، التي توحي إليهم بها أهواؤهم، تصير ناموس إيمانهم. المجاهدون في الحياة الروحيّة، في تعب الجسد والصوم والسهر وصلاة الذهن، متى جاهدوا بتواضع، يمتلئون من النعمة الإلهيّة، ويستطيعون التمييز بوضوح بين الخبرة الروحيّة التي تقود إلى الخلاص وبين الخبرات الكاذبة التي تقود إلى الضلال. 

 

عبّر عن هذه الخبرات الفاسدة شخص يُدعى برلعام، مثّل خبرة دنيويّة آتية من تيّارات فكر عصر النهضة الغربيّ، التي حاولت أن تُجدّد حياة الإنسان، بتركيزها على الإنسان وقدراته النفسيّة والعقليّة، لتجعل منه إلهًا، يُقاوم كُلَّ عمل الإله الحقيقيّ. كل الّذين خرجوا من الأرثوذكسيّة تحوّلوا تلقائيًّا إلى هذه الروح الإنسانويّة. 

 

فالنعمة المخلوقة التي شاء الغرب أن تكون صلة وصلهم مع الله، تلد مثل هذا الإنسان الدنيويّ. ليست المعرفة ولا المحاولات لعيش حياة أخلاقيّة حسنة كافية لخلاص الإنسان، إنّما تطهير القلب الداخليّ بالنسك وبنعمة الله هي الطريق الوحيد إلى ملكوت السماوات. القدّيس بالاماس دافع عن النعمة غير المخلوقة التي تؤلّه الإنسان، وتُعدّه لملكوت سماويّ ليس من هذا العالم. 

 

لم يتجسّد ابن الله لنحسّن تصرّفاتنا على الأرض إنّما لنتألّه، لنشترك مع إلهنا في كلّ ما له. هذا التألّه، يقولها بالاماس بوضوح، "هو هدف خلقنا"، هو الّذي يُحقّق لنا غاية وجودنا.

 

التألّه يعني الاتّحاد بالله في نور الله غير المخلوق. وهذا يُشكّل جوهر الحياة الروحيّة الأرثوذكسيّة. تحقيق هذا الهدف يحتاج إلى طريقة حياة هدوئيّة. 

 

هذا لا يعني أن الحياة الرهبانيّة الهدوئيّة هي المكان الوحيد لبلوغ هذا الهدف، إنّما هي المكان الأمثل. لهذا كان القدّيس بالاماس، في إقامته سنة كاملة في مدينة تسالونيكيّ، يعقد حلقات للعلمانيّين لتدريبهم على صلاة يسوع وعيشها في أجواء هدوئيّة ضمن عائلاتهم ذاتها. 

 

فالهدوئيّة ليست هربًا من العالم، إنّما هي الحالة التي يبلغ إليها الإنسان الّذي يُحبّ الله فوق كل شيء آخر في العالم، ويكون مستعدًّا لكل صراع ضدّ العالم والشياطين حفظًا لوصايا المسيح. فالهدوئيّة الحقيقيّة لا يُبلغ إليها من دون سعي وثيق لحفظ وصايا المسيح. 

 

"ناموس الخطيئة"، بحسب قدّيسنا، لا بدّ من أن يُستبدل بناموس الله؛ لقد وعد المسيح بأنّه يسكن في الّذين يحفظون وصاياه. تكشف لنا الوصايا سرّ المسيح وتقودنا إلى الكمال. هذه الوصايا لا يمكن أن تُمارس إلا بالنسك وغصب الطبيعة. لأنّ طبيعتنا في حالة السقوط تشتهي ضدّ وصايا المسيح.

 

يتكلّم القدّيس بالاماس عن انفصال الذهن عن القلب، وتحطيم الوحدة التي كانت تجمع قوى النفس. هدوء حواس الجسد يقود إلى هدوء قوى النفس الداخليّة، وتستعيد قوى النفس وحدتها من خلال الحياة الهدوئيّة. أساس الحياة الهدوئيّة يقوم على التوبة والصمت والصلاة الداخليّة. 

 

من هذه الجهادات تتولّد الدموع مع الصبر والاتّضاع. يُعطي القدّيس بالاماس أهميّة عظيمة للصلاة الذهنيّة، التي هي أساس كل طريقة الحياة الهدوئيّة. الصلاة الحقيقيّة تولد من الاتّضاع والتوبة والبكاء على الخطايا. 

 

التوبة هي موت الإنسان عن هذا العالم. 

 

ولا يتحقّق هذا الموت من دون نسك. فالصوم والتقشف والصمت وكل ابتعاد اختياريّ عن التنعّم وراحة الجسد هي الوسائل للموت عن هذا العالم. 

 

ينبغي أن تموت فينا كل رغبة بشهوات هذا العالم، وازدراء كل غنى وخيرات هذا العالم، والتحرّر من كل سعي للتكريم واقتناء أمجاد هذا العالم. 

 

"كلّ هذه الحياة الوقتيّة، بالنسبة لبالاماس، ليست للتنعّم، إنّما "منحنا إياها الله كمكان للتوبة". فالتوبة لا تعني أننا لن نخطئ بعد إنما اننا سنقاوم الخطيئة بكلّ قوّتنا. لهذا، الروح "يستقرّ مع أولئك الّذين يحيون في التوبة، ويهجر أولئك الّذين يخطئون ولا يتوبون". 

 

التوبة هي تحويل الذهن إلى المسيح. هذا الذهن الضال، كما يُسمّيه بالاماس، ينبغي أن يعود إلى أبيه الراعي الصالح، حيث يجد وحدة الحقّ الّذي مزقته وجزّأته أنانيّة محبّة الذات، وكانت النتيجة الموت.

 

كل مأساة الإنسان بعد السقوط توجد في هذا الذهن الّذي أظلم. في رسالة إلى الراهبة كساني، يشرح فيها بالاماس صعود الذهن نحو الله في النور، يقول إنّ الصعود الروحيّ يبدأ بتطهير الذهن من كُلِّ الأهواء الأثيمة وفي عودته إلى ذاته. 

 

عمل الهدوئيّ الأوّل هو رصد الأفكار والتحرّر من كلّ الصور الواردة إلى الذهن. 

 

فالهدوئيّة هي اليقظة الداخليّة على حركة الأفكار والإيحاءات الشيطانيّة التي تسعى لإظلام الذهن. 

 

وهذا يتطلّب من الهدوئيّ أن يرتفع فوق كل الأفكار والمعرفة البشريّة ذاتها. لهذا، تستدعي الحياة الهدوئيّة نسيان العالم والتجرّد من كُلّ ما هو أرضيّ. يضع القدّيس بالاماس العذراء مريم والدة الإله نموذجًا للهدوء العقليّ وصمت الذهن وتطهير الحواسّ.

 

وهكذا، الهدوئيّة هي السلام الداخليّ وحفظ الذهن من التيهان، في راحة عدم التأثّر بالأهواء. إنّها المكان الأمثل لتطهير الحواسّ وقطع كلّ الأفكار من اليمين واليسار. 

 

هذه هي الوسيلة الكاملة لكي يصل الذهن إلى صفاء لا يوجد فيه إلّا صورة يسوع المسيح. النفس والجسد خُلقا معًا ليخلصا معًا، لهذا نقاوة الذهن تُحقّق نقاوة القلب، تُقدّس النفس كلّها وتنتقل إلى الجسد وتُطهّره. 

 

شدّد قدّيسنا على أنّ نور التجلّي هو نور إلهيّ غير مخلوق، ليس من هذا الدهر؛ يُعاينه القدّيسون في هذه الحياة الحاضرة، وفي هذا النور عينه سيعاينون المسيح آتيًا بمجده الأزليّ في اليوم الأخير. 

 

وهذا هو النور الّذي سيسكن فيه القدّيسون في الحياة الأبديّة. إنّه اشتراك في مجد الله وفي حياته الأبديّة. 

 

هذه الدعوة للشركة في النور الإلهيّ تنقض تلك الروح الفاسدة التي يسعى كثيرون لنشرها، من آريوس إلى برلعام وحتّى عصرنا الحاضر، أوّلاً عبر تهميش عقائد الإيمان الأرثوذكسيّ؛ وثانيًا عبر ازدراء خبرة النسك والجهاد الروحيّ الهدوئيّ. 

 

بحسب القدّيس بالاماس، في عظته عن حياة القدّيس بطرس الآثوسيّ، إنّ أولئك الّذين يُحاربون الهدوئيّة مروِّجين لحياة مسيحيّة تقوم على نشاطات وخدمات رعائيّة للمجتمع، يضلّون مستوحين أفكارهم من عدوّ خلاصنا إبليس. 

 

تهدأ النفس الداخليّة ويستنير الذهن بطريقة الحياة الهدوئيّة، ويتلقّيان النعمة الإلهيّة بوفرة، التي هي عربون ميراث القدّيسين. النعمة الإلهيّة تُعطى لأولئك الّذين أحبّوا الله الخالق أكثر من هذا العالم الزائل، لا بل أكثر من ذواتهم نفسها، فبلغوا إلى الهدوء المقدّس.