في بهجة أن نكون أرثوذكسيّين - عظة في الأحد الأوّل من الصَّوم (أحد الأرثوذكسيَّة)

القدّيس يوحنّا كرونشتادت

تعريب ميشال بو صعب

كان أبونا الجليل يوحنّا كرونشتادت متقدّمًا في الكهنة في الكنيسة الرّوسيّة الأرثوذكسيّة. ولدَ عام 1829 ومنذ العام 1855، خَدَمَ ككاهن في كاتدرائيّة القدّيس أندراوس في كرونشتادت حيث بَذَلَ نفسه لأعمال الخير خاصَّةً للذين كانوا بعيدين عن الكنيسة وسافر لهذه الغاية كثيرًا ضمن الأمبراطوريَّة الرّوسيّة. كُرِّمَ عند رقاده. تُعَيِّد له الكنيسة في 20 كانون الأوّل و19 تشرين الأوّل.

 

«هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقًّا لاَ غِشَّ فِيهِ» (يو1: 47).

قال ربُّنا يسوع المسيح هذا الكلام لشخصٍ يدعى نَثَنائيل، إسرائيليٌّ كان يتجوّل في الجليل في مدينة قانا، وبحسب نصيحة صديقه فيلبّس ذهب ليلتقي بيسوع ليتيَقَّنَ إن كان هو المسيّا المُنتَظَر لإسرائيل. قال فيلبّس لنثنائيل:

            «وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ يَسُوعَ ابْنَ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ».

 لكنَّ نَثَنائيل قالَ لَهُ:

«أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟»

فقَالَ لَهُ فيلبّس:

«تَعَالَ وَانْظُرْ».

وعندما رَأَى يَسُوعُ نَثَنَائِيلَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، قَالَ عَنْهُ:

«هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقًّا لاَ غِشَّ فِيهِ».

قَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ:

«مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟»

فأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:

«قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ التِّينَةِ، رَأَيْتُكَ».

بمعنى آخر، قال له يسوع إنَّه قد عرف جميع أفكاره وإيمانه ورجاءه بالمسيّا وخدمته المستقبليّة. لمس الرَّب، العارف ما في قلوب البشر، قلب نَثَنائيل وأفكاره العميقة ورغباته وتَوقَه. لقد كشف له جليًّا معرفته الإلهيّة غير المحدودة. ولذلك جُذِب نَثَنائيل إلى الإيمان بالمسيح وصرخ:

«يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ابْنُ اللهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!». ومن حينها صار تلميذه.

لماذا رُتِّبَ لنا أن نقرأَ هذا الفصل الإنجيليّ تحديدًا في الصّوم الكبير وفي الأحد المدعو «أحد الأرثوذكسيّة»؟ لأنَّ كلمات الرَّب لنَثَنائيل تكشف شخصيَّة المسيحيّ الأرثوذكسيّ الحقيقي، وبشكلٍ عام تكشف طابع كنيسة المسيح الحقيقيّة.

«هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقًّا لاَ غِشَّ فِيهِ» هذا ما قاله الرَّب عن نَثَنائيل. بكلامٍ آخر، يقول الرَّب إنَّه رَجُلٌ يفكّر بشكلٍ صحيح وجَدّي وصارِم ومنطقي، يؤمن ويرجو ويتكلّم ويتصرَّف بشكلٍ صحيحٍ أيضًا لأنَّ نَثَنائيل آمن مباشرةً أنَّ يسوع المسيح هو ابن الله ولم يتزعزع إيمانه بعد ذلك في ما يختصُّ بشخص المسيح الإلهيّ. أليس على المسيحيّ الحقيقيّ أن يكون مثله؟ أليس على المجتمع الإلهيّ للمسيحيين الأرثوذكسيين أن يكونوا كذلك؟ أليست الكنيسة الأرثوذكسيّة كذلك؟ أليس الوضع هكذا؟

ما هو الثّناء الكبير الذي مَنَحَهُ فاحِصُ القلوب لنَثَنائيل بكلماته: «هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقًّا لاَ غِشَّ فِيهِ»؟ أيُّ ثناءٍ عظيم للمسيحيّ الذي سيقول له الربّ: «هُوَذَا مَسِيحِيٌّ حَقًّا لاَ غِشَّ فِيهِ»؟ وللكنيسة التي سيقول عنها الرَّب «هذه كَنيسةٌ حقيقيّة، لا غِشّ ولا اختراعات بشريّة فيها» بمعنى آخر هي كنيسة حقيقيّة بِجُملَتِها وبكل عقائدها وأسرارها وخِدَمِها الإلهيّة وإرشادها وكامل تنظيمها.

هؤلاء الأشخاص فقط هم القديسون المَحبوبون من الله؛ هكذا كانت كلّ الكنيسة الأرثوذكسيّة منذ البدء وإلى الآن، كما لو أنّها كابدت الشّهادة بتاريخ كنسيّ غير مُتَحَيِّز ومن خلال الله نفسه عبر آيات وعجائب مختلفة حصلت في الكنيسة. هي كما يقول الرَّسول:

«عَمُودُ الْحَقِّ وَقَاعِدَتُهُ» (1تيم 3: 15).

هي:

«كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذلِكَ». (أف ٥: ٢٧)

لقد فاضت أنهار دماء الرسل والأنبياء والشّهداء وكابد الآباء المُكَرَّمون العديد من التَّعذيبات للمحافظة على الإيمان الأرثوذكسيّ. ولكن ماذا عنّا نحن أبناء الكنيسة الأرثوذسيّة؟ هل نحافظ على هذه الوديعة الثمينة، وديعة الإيمان الأرثوذكسيّ؟ هل نتبع تعاليمه وقوانينه وأنظمته وإرشاداته؟ هل نرغب في أن نقدّم الخدمة لله؟ هل نجدّد أنفسنا؟ هل نقدّس ذواتنا كلَّ يوم؟ هل نضع أنفسنا في المسلك الصحيح؟ هل نتوق إلى الكمال الذي وصل إليه القدّيسون؟ هل نسير في طريق الكمال في محبّة الله والقريب؟ هل نثمّن إيماننا؟ هل نعتبر أن رحمة الله هي أعظم شيء في الوجود وأنَّه لنا الحظ المثاليّ أن ننتمي إلى الإيمان الأرثوذكسي وهذا كلّه هو الفرح الأول والأكبر في حياتنا؟ ما هي الأجوبة على تلك الأسئلة إن كنّا نودُّ أن نجيب بالنسبة إلى إدراكنا البشريّ؟

يا لِخِزْيِنا! علينا أن نقرّ أنَّه بالنسبة للكثير من الأرثوذكسيّين يغيب الإيمان الأرثوذكسي عن ألسنتهم وليس فقط من قلوبهم، وفيهم قد اضمحلَّ الإيمان بالكامل أو قد تحوَّل إلى عدم مبالاة بالمقارنة مع أيّ دينٍ آخر أكان كاثوليكيًّا أم لوثريًّا أم يهوديًّا أم محمَّديًّا أم حتّى وثنيًّا. نسمع أنَّ الإنسان يستطيع عبادة الله في أيّ ديانة. بكلامٍ آخر، إنَّ كلَّ ديانةٍ يفترض أنّها ترضي الله وأنَّ الحقَّ والباطل والبرّ والإثم هم أمورٌ لا يبالي بها الله.

إنَّ جهل الإيمان الأرثوذكسيّ وروحانيّة الكنيسة وتاريخها والتَّغَرُّب عن حياتها وخِدَمِها الإلهيّة قد أدّى بالكثيرين إلى «كُسوفٍ» في فهم الأرثوذكسيَّة وغير الأرثوذكسيّة وسائر الأديان الأخرى! يُحكى، ونتيجة تداعيات العصر الحديث، أنّه في مكانٍ ما في روسيا وفي أثناء امتحان تلاميذه استشهد أحد الأساتذة بحادثة تقدمة ابراهيم لابنه اسحق واصفًا إيّاها بالقصّة التافهة. هذه هي الظُّلمة والفوضى والجهل الخبيث.

على المؤمن، الذي هو عضو في الكنيسة، أن يعي إيمانه ويجاهد في عيشه وتحقيقه لينال الخلاص لأنَّ أعداء خلاصنا لا ينامون أبدًا فَهُم يترصّدون تدميرنا كلّ يومٍ وكلّ ساعة. لا يتجاهلنَّ المسيحيّ الأرثوذكسيّ إيمانه كبعض الناس ولا يعتبرنَّه كلعبة طفلٍ تُرمى في سلَّة المهملات بعد الاستعمال أو كأمرٍ يختصُّ فقط بغير المتعلّمين.

من الضروري أن نُذَكِّر في هذا السياق أنَّ الذين يعتقدون بأنّ إيماننا عتيقٌ ومكرّمٌ، وتمتدُّ جذوره إلى أصل جنسنا البشريّ وأصالته وارتباطه المُباشَر بالله، هم كُثر ولهم وظائف ومستويات عديدة وقد عاشوا وحصلوا على الخلاص في هذا الإيمان- الملوك المجيدون والفلاسفة الحكماء، مُشَرِّعو القوانين والولاة العِظام، النبلاء والبسطاء، الأغنياء والفقراء، الرجال والنساء، جمال ومجد الجنس البشريّ.

علينا، ومن أجل مجد الإيمان الأرثوذكسيّ، أن نقرّ بأنَّه يستحيل أن يوصل أي دين آخر الإنسانَ إلى حالة  الكمال الأخلاقيّ أو القداسة أو إرضاء الله مثل الإيمان الأرثوذكسيّ. ويظهر ذلك جليًّا في تاريخ الكنيسة وفي أصداء عجائب وأعمال قدّيسيها ورجالاتها المكرّمين غير البالية حيث بَلَغوا درجة قصوى في إرضائهم لله بِسيرتهم وأصبحوا رائين وصانعي العجائب حتى خلال حياتهم. وهكذا على العقل السليم أن يفكِّر أنَّه فقط الإيمان الكامل وكلّ قواه الإلهيّة مع كامل التأهّب لله قادرٌ أن يؤهّل المرء للكمال ضدَّ أهواء الجسد وضدَّ العالم والشيطان.

حتى وإن كان كثيرٌ من المسيحيّين الأرثوذكسيّين يعيشون في مسلكٍ حياتيٍّ سيّءٍ، فلا يمكن أن يؤخَذ هذا الأمر ضدَّ الإيمان الأرثوذكسيّ غير المهتزّ ومبادئ الحقِّ والقداسةِ التي فيه بالإرتباط بوعد المخلّص نفسه وشهادة التاريخ. هؤلاء، حتى وإن سبقونا ورقدوا، لم يكونوا يومًا منّا بالفعل! إنما بالإسم فقط...

نعم، يا إخوة، وحده الإيمان الأرثوذكسيّ ينقّي ويقدّس الطبيعة البشريّة التي فسدت بالخطيئة. هل ترغبون بالتأكد من ذلك؟ طالِعوا سِيَر القديسين وتاريخ الكنيسة وستلاحظون ذلك بأنفسكم. سترون ذئابًا تحوّلت إلى حملان وزناةً تحولوا إلى رجالٍ ونساء ذَوي سيرة ملائكيّةٍ مكرّمة وبخلاءً إلى رموزٍ في العطاء ومُحِبّي اللذّة إلى نسّاك. سترون أصحاب نفوذٍ وعظمة أرضيّة بأثوابِ رهبانٍ متواضعة... هؤلاء كانوا حقًا مسيحيِّين، كانوا ملائكة بالجسد ومواطني السماوات وهم بعد على الأرض... هذا ما يستطيع إيماننا الأرثوذكسي فعله مع الذين يتوقون إليه ويتبعون منهجه!

ولكن لماذا لا يفعل فينا هذا التغيير الخلاصيّ؟ هذا كلّه بسبب عدم إيماننا وفسقنا وفسادنا وعدم توبتنا القلبيّة وبسبب أهوائنا التي تكاثرت وطغت علينا جرّاء بُعدِنا عن الكنيسة، ولأنّ الكثيرين لا يتحلّون بروح الكنيسة وحياتها وهم مُتَّصِلون بها بشكلٍ خجول ورسميّ وغير جدّي. بالنسبة لنا، لكي نكون مسيحيّين أرثوذكسيين أصيلين، علينا بادئ ذي بدء أن نمتلك حياةً واتصالًا دائمًا بالكنيسة الأرثوذكسيّة أي أن نشارك في صلواتها وتعاليمها وأسرارها وأن ندرس بأمانة إيماننا وأن نحياه بروحانيّته ونقتدي بقوانينه ووصاياه ومفاهيمه. والأهمّ أن نعيد تجديد صورة المسيحيّ الأرثوذكسيّ بتوبة صحيحة وصادقة على حسب صورة القدّيسين السابقين والمعاصرين وعلى مثال ربّنا يسوع المسيح نفسه الذي يقول:

«لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا». (يو 13: 15)

حتى يقول الربّ لنا أيضًا كما قال لنَثَنائيل:

«هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقًّا لاَ غِشَّ فِيهِ».

آمين.

المرجع: https://preachersinstitute.com/2010/01/26/on-the-joy-of-being-orthodox-st-john-of-kronstadt/