الأرشمندريت باسيليوس بابافاسيليو
إعداد وتعريب: ماهر سلّوم (بِتَصَرُّف)
مقدّمة
كم سَهلٌ علينا، نحن الأرثوذكس، أن نتبنّى لغة اللاهوت الغربيّ! إنّها تجربةٌ عظيمةٌ دائمًا عند المُهتَدين إلى الأرثوذكسيّة من الطّوائف المسيحيّة الغربيّة أن يجلبوا معهم أدوات اعتقاداتهم السابقة بدلاً من اعتناق الأرثوذكسيّة كشيء مختلف كُلِّيًّا عَمّا تركوا.
يَرَون العالمَ المسيحيَّ الغربيَّ اليوم غريبًا عن آباء الكنيسة، لكنّهم يُمانِعون أحيانًا أن يقبلوا بحقيقة أن ليس كلّ شيء قبل الإنشقاق هو جزء من الإيمان الأرثوذكسيّ. رغم ذلك، إنّ تأثير اللاهوت الغربيّ حاضرٌ، ليس فقط بين المُهتَدين إلى الأرثوذكسيّة من الغرب فحسب، بل أيضًا بين الذين نشأوا في الإيمان الأرثوذكسيّ في بلاد أرثوذكسيّة كاليونان وروسيا. للأسف، نحن الأرثوذكس نتسرّع بافتراض أنّ الآراء «المُتَشَدِّدة» عند المسيحيّين الغربيّين يجب أن تكون الآراء الأرثوذكسيّة «الأصَحّ». لكن نادِرًا ما يكون هذا صحيحًا. إن نَزعَة الهرطقات هي الجُنوح نحو أقصى الأقطاب المُضادّة. ليس غريبًا أن تظهر هرطقةٌ كَرَدّة فِعل على هرطقة أخرى. تدّعي هرطقةٌ أن المسيح ليس إلهًا، وأخرى تدّعي أنّه ليس إنسانًا. تُدين هرطقةٌ تَكريمَ العذراء مريم، وأخرى تقول إنّه حُبِل بها بلا دنس. أحدهم يدّعي أن الإنسان يَخلُص بالنعمة فقط، وآخر يدّعي أنّه يَخلُص فقط بالأعمال. الأرثوذكسيّة لا تحتوي بسهولة تَطَرُّفًا كهذا. الأرثوذكسيّة الحقيقيّة تَميلُ لتكون في الوسط بين حَدَّين.
«الخطيئة الأصليّة» هي إحدى المسائل التي يُساء فَهمُها بين الأرثوذكس، وقد حصلت بسببها جِدالات كثيرة وحُرومات في الغرب على مَرّ القُرون حيث جَنَح كثيرون إلى أقطاب مُتناقِضة في تعاليمهم. فقد يَحتَجّ أحدُهم قائلاً: «مَهلاً! الكنيسة الأرثوذكسيّة تؤمن بالخطيئة الأصليّة!» إنّني أتردّد بِقَولِ هذا، على الأقلّ إذا كنتُ لا أملك الكَفاءة اللازِمة. أفضّل القول إنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة تؤمن بـ«الخطيئة الجَدِّيّة» (πρωπατορικό ἁμάρτημα). هل هذا مُجَرَّد دَلالة لَفظيّة؟ أبدًا! لأنّ كلّ مَن يقول «الخطيئة الأصليّة» يجد نفسه مُتَعَلِّقًا بالتعليم الذي قدّمَه المَغبوط أغسطينوس ومن بعده اللاتين، فيما لم يتحدّث عنه أيّ أحد من آباء الكنيسة الأرثوذكسيّة الشرقيّة. أودّ أن أعرض باختصار أن الفَهمَ الأرثوذكسيّ للخطيئة الجَدِّيّة بعيدٌ عن فكر المَغبوط أغسطينوس[1]، وأنّه رغم أن تعليم الخطيئة الأصليّة اللاتينيّ لم تتمّ إدانَتُه رسميًّا في الشَّرق كهرطقة، فهو ليس عقيدةً في الكنيسة الأرثوذكسيّة[2].
نشوء تعليم «الخطيئة الأصليّة»: أغسطينوس وبيلاجيوس:
بدأ تعليم أغسطينوس حول الخطيئة الأصليّة، من مُحاوَلَتِه مُحارَبة الهرطقة البيلاجيّة (Pelagianism). بدأ الجِدال في روما حين عارَض راهبٌ بريطانيٌّ اسمه بيلاجيوس صلاة أغسطينوس: «هَب ما تأمُر به، ومُر بما تريد»[3] (Grant what you command, and command what you desire ). عارض بيلاجيوس فكرة أن عَطيّة النعمة الإلهيّة هي ضروريّة للعَمَل بمشيئة الله. آمن بيلاجيوس أنّه إن كان من واجِبِنا نحن أن نُطيع وصايا الله، فيجب أن نستطيع القيام بذلك بدون مؤازَرة إلهيّة. وبلغ به الأمر إلى نكران عقيدة الخطيئة الجَدِّيّة بِحُجَّة أنّ نتائج خطيئة آدم لا تنتقل إلى باقي البَشَريّة. خطيئة آدم أثّرت عليه وحده، لِذا فإنّ الأطفال يولَدون بحالة آدم نفسها قبل السُّقوط.
اتّخذ أغسطينوس نظرةً مختلفةً جدًّا عن السُّقوط، قائلاً إنّ البَشَريّة غارِقةٌ في الخطيئة كُلِّيًّا وعاجِزةٌ عن الصَّلاح. آمن أغسطينوس أنّ حالة الخطيئة الأصليّة تجعلنا غير قادِرين عن التوقُّف عن ارتكاب الخطيئة. لقد دُمِّرَت «صورة الله» في الإنسان (أي الإرادة الحُرّة) بسبب السُّقوط. لا يهمّ كم يمكننا اختيار فعل الخير، فإنّ نَزعَتَنا نحو الشِّر تشوّه إرادتَنا الحُرّة وتَدفعُنا إلى ارتكاب الشَّر. لِذا، فنحن خاضِعون بالكامل للنّعمة.
ومن ثمّ جادَل أغسطينوس أنّ الخطيئة الأصليّة لا تؤثّر على سائر ذُرِيّة آدم فحسب، بل إن كلّ شخص هو مُذنِبٌ بالخطيئة الأصليّة منذ ولادته (الذَّنْب الأصليّ). إذًا، الأطفال مُذنِبون بالخطيئة، وهكذا، يمكن الإفتراض أنّ الأطفال الذين يموتون قبل المعموديّة، التي (بحسب أغسطينوس) تُزيل ذَنبَ الخطيئة الأصليّة، هم مَحكومون بالهَلاك ولا يمكن أن يَخلُصوا. ولَمَّح أغسطينوس إلى عقيدة الإختيار المُسبَق (predestination) التي استرسل فيها كالفن (Calvin) البروتستانيّ مُدَّعِيًا أن الله سبق وحدّد مَن يَخلُص ومَن لا يَخلُص.
القدّيس يوحنّا الذّهبي الفم والقدّيس كيرلّس الإسكندريّ:
بين أغسطينوس وبيلاجيوس، بدا أنّه لا يوجد حلّ وَسَط في الغرب. لكنّ العديد من القدّيسين في الشّرق أبدوا نظرة أخرى. نورِد في هذا المقال بإيجاز تعليم القدّيس يوحنا الذّهبيّ الفم والقدّيس كيرلّس الإسكندريّ. كان القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم مُعاصِرًا لأغسطينوس في الشّرق. لم يكن الجِدال بين أغسطينوس وبيلاجيوس قد وصل إلى الشرق، فَتَعليم الذّهبي الفم لم يقع في نِقاشات حادّة. لو كان الذهبيّ الفم مُشارِكًا في الجِدال بين أغسطينوس وبيلاجيوس لربّما كان انتصر تعليمُه عن الخطيئة الجّدّية عليهما سَوِيّةً. في جميع الأحوال لم يَنَل تعليم الذّهبيّ الفم عن هذا الموضوع الإهتمام الذي يستحقّه، والنِّقاش الحادّ في الغرب كان يعني أنّ تعليم «الخطيئة الأصليّة»، كما طَرَحَه أغسطينوس، قد اعتُبِرَ الحماية الوحيدة ضدّ هرطقة البيلاجيّة[4].
علّم القديس يوحنّا الذهبيّ الفم أنّ جميع البشر مَخلوقون على صورة الله، وآمن أنّ الخطيئة الجَدّية جَلَبَت الفساد والموت، ليس لآدم فحسب، بل لسائر ذُرِّيَتِه، وأضعفت قدرته على النُّموّ إلى مِثال المسيح، لكنّها لم تُهلِك صورة الله أبدًا (الإرادة الحرّة). كان تعليم الذّهبيّ الفم مُدَوِّيًا في إجماع الآباء الشَّرقيين الذين يفسّرون السقوط أنّه «تَوريث لِقابِلِيّة الموت لا للخطيئة، أمّا حالة الخطيئة فهي مُجَرّد نتيجةٍ للضّعف ولِقابِلِيّة الموت»[5]. يُلاقي موقف القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم صَدىً عند القدّيس أثناسيوس الكبير والقدّيس كيرلّس الإسكندريّ، على سبيل المِثال، اللذَين عَلّما أنّنا لسنا مُذنِبين بخطيئة آدم، رغم أنّنا نَرِث طبيعةً مائتةً؛ لكن إرادتنا الحرّة تبقى سَليمة. يرتكز هذا التعليم الآبائيّ الشّرقيّ على آية رومية 12:5 « كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهَكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ»[6]. يفسّر الأب يوحنّا مايندورف كيف ساهم سوء ترجمة هذه الآية إلى اللغة اللاتينيّة في زيادة الاختلاف في التّفسير اللاتينيّ للخطيئة الجَدّية:
«هناك مشكلة كبيرة في ترجمة هذه الآية. الكلمات الأربعة الأخيرة في النصّ اليونانيّ (ἐφ΄ ὧ πάντες ἥμαρτον) قد تُرجِمَت إلى اللاتينيّة كالتّالي in quo omnes peccaverunt ("الذي به [أي آدم] أخطأ جميع النّاس»)، واستُخدِمَت هذه التّرجمة في الغرب لِتَبرير الذَّنب المَوروث من آدم إلى سائر ذُرِّيته. لكن لا يمكن استخراج هذا المعنى من النص اليونانيّ[7].
لقد فسّر القدّيس كيرلّس الإسكندريّ هذه الآية كما يلي:
«كيف أصبح كثيرون خطأة بسبب آدم؟… كيف يمكن لنا، نحن الذين لم نولَد بعد، أن نكون مُدانين معه (أي مع آدم) فيما قال الله: «لَا يُقْتَلُ ٱلْآبَاءُ عَنِ ٱلْأَوْلَادِ، وَلَا يُقْتَلُ ٱلْأَوْلَادُ عَنِ ٱلْآبَاءِ. كُلُّ إِنْسَانٍ بِخَطِيَّتِهِ يُقْتَلُ» (تثنية 16:24)؟ ...لقد أصبحنا خطأة من خلال معصية آدم بالشكل التالي: لقد خُلِق آدم من أجل الحياة وعدم الفساد، وسبيل وجوده في فردوس النَّعيم كان مؤاتِيًا للقداسة. كان ذِهنُه يُعاين الله بلا انقطاع؛ كان جسده ساكِنًا وهادئًا، وكانت أحاسيسُه في سكون، إذ لم تُزَعزِعها أي اضطرابات خارجيّة. لكن وبسبب سقوطه في الخطيئة وجَنَحه إلى الفساد، استَولت الملذّات والأدناس على طبيعة الجسد وظهرت شريعة متوحّشة في أعضائنا. تاليًا، مَرِضَت طبيعتنا بالخطيئة من خلال معصية شخصٍ واحدٍ، أي معصية آدم. وهكذا، جُعِلَ الجميع خطأة، ليس لأنهم عَصَوا مع آدم، … لكن بِكَونِهِم من طبيعته ساقِطين تحت شريعة الخطيئة… أضحت الطبيعة البشريّة مريضة بآدم وخاضِعة للفساد من خلال المعصية، فدخلت فيها الأهواء»[8].
القدّيس يوحنّا كاسيانوس:
لقد أولى الشرق اهتمامًا قليلاً لأغسطينوس والسبب الأساسيّ هو العوائق اللغويّة. في الشَّرق المسيحيّ، كان اللاهوتيّون يستخدمون اللغة اليونانيّة بِكثافة، لذا فقد أولَوا اهتمامًا قليلاً للكُتّاب اللاتين[9]. المُعارَضة التي حصلت في الشَّرق أتت من لاهوتيّين أرثوذكس شرقيّين كانوا يعيشون في الغرب لسببٍ ما. كان القدّيس يوحنّا كاسيانوس من بين أهمّ هؤلاء اللاهوتيّين. صحّح القديس يوحنّا تعاليم أغسطينوس وأوضَحَها في أربعة نقاط أساسيّة:
1- هناك حالات واضحة حيث تَبِعَ أناسٌ اللهَ بإرادتهم. فإذ دعاهم المسيح وآزَرَتهُم النعمة الإلهيّة، إختاروا أن يغيّروا سُبُل حياتهم (مثلاً: متى وبولس وزَكّا). لذا، النعمة وَحدُها لا تُخَلِّصُنا، يجب أن تكون إرادة الإنسان بالتّوبة موجودة أيضًا.
2- بعد السُّقوط، حافظ آدم وذُرِّيتُه على معرفة الخير لكن ظهر بهم مُيولٌ أضعفَ سَعيَهُم للخير. لم يكن الإنسان، كما قال أغسطينوس، مَغلوبًا على أمرِه بالكُلِّيّة وغير قادرٍ على فعل الخير بعد السُّقوط.
3- صورة الله في الإنسان هي مريضة، لكنها ليست مَيتة. الصورة الإلهيّة بحاجة للشفاء، لكن هذا الشفاء يحتاج إلى تَفاعُل (synergy)، إلى العمل المشتَرَك بين إرادة الإنسان والنعمة الإلهيّة.
4- يشاء الله أن يَخلُص الجميع ويُقبِلوا إلى معرفة الحق، فأولئك الذين لا يَخلُصون يرفضون الخَلاص خِلافًا لمشيئته. يجب أن يُفهَم الإختيار المُسبّق (predestination) أنّه معرفة مُسبَقة لا تَعيين مُسبَق.
أدان اللاتين، بعد الإنشقاق، تعاليم القدّيس يوحنا كاسيانوس، وهم لا يعتبرونه قدّيسًا. لكن بالنسبة للأرثوذكس، القدّيس كاسيانوس هو من أهمّ مُؤَسِّسي عقيدة التأليه[10].
الخطيئة الجَدِّية والمعموديّة:
لقد استُخدِم تعليم أغسطينوس عن الخطيئة الأصليّة لِتَبرير معموديّة الأطفال. فَبِما أنّ الأطفال يولَدون مُذنِبين بالخطيئة، فقد أشار أنّ المعموديّة ضروريّةُ لخلاص الأطفال. لقد رأى براءة الأطفال فقط بأنّهم ضعفاء جسديًّا لارتكاب الخطيئة، لكنهم مُذنِبون كالكِبار بخطيئة آدم.
شرح الآباء الشرقيّون، الذين اتّبعوا نظرةً أخرى عن السقوط والخطيئة الجَدِّية، غاية معموديّة الأطفال بطريقة أخرى تختلف في نَواحٍ مهمّة عن شُروحات أغسطينوس والمُصلِحين في الغرب. آمن الآباء الشرقيّون أنّ الأطفال الحَديثي الولادة هم أبرياء ومن دون أيّة خطيئة. بينما يَرِث الأطفال طبيعةً بشريّةً مَجروحةً بالخطيئة الجَدِّية، التي تُضعِفُ الإرادة وتجعل كلّ شخصٍ مَيّالاً للخطيئة، لكنّهم أبرياء من الخطيئة. في العظة التَّعليميّة الرابعة عن المعموديّة، يقول القدّيس يوحنا الذّهبي الفم: «نحن نُعَمِّد الأطفال رغم أنهم ليسوا مُذنِبين بأيّة خطيئة». بالنسبة للآباء الشرقيّين، المعموديّة هي، قبل كلّ شيء، إستجابة الكنيسة ودخول الشخص المُعَمَّد في جسد المسيح المُقَدَّس، إنّها بداية حياة جهاد روحيّ وتعليم مقدَّس لِتَرسيخ المسيرة نحو ملكوت الله.
نَظَرًا للفرق الشّاسِع بين عَقيدَتَي الخطيئة الأصليّة الأغسطينيّة والخطيئة الجَدِّية، والفهم المُختَلِف للمعموديّة بِحَسَبِهِما، أليس مُفاجئًا أنّ البعضَ يتكلّمون عن المعموديّة بِلُغة أغسطينيّة – أي عن مغفرة الخطيئة الأصليّة حَصْرًا – خاصّةً وأن خدمة المعموديّة الأرثوذكسيّة لا تُشير إليها البَتّة؟[11] إن أقرب إشارة للخطيئة الجَدّية هي في الصلاة الأولى من خدمة الصلاة على الموعوظ (التي كانت بالأصل منفصلة بالكامِل عن خدمة المعموديّة): «أبعِد منه تلك الضَّلالة القديمة» (παλαιά πλάνη). إن كان أحد غايات المعموديّة الأساسيّة هو مغفرة الخطيئة الأصليّة، فكان يَجدُر بكلّ تأكيد أن تُذكَر بوضوح في خدمة المعموديّة! الخطيئة الجَدّية هي حالة من الموت والفساد بشكل خاص، وهي بحاجة للشفاء، إنّها «مرض» موروث، ما يعني أنّ الإرادة الحرّة – أو «صورة الله» كما يفضّل الآباء الشرقيّون تَسمِيَتَها، قد تشوّهت واسوَدَّت، وهي بحاجة للنعمة الإلهيّة كي تسير في الطريق المُؤَدّي إلى «مِثال» الله، طريق التأليه.
خاتمة:
بعد أخذنا بعين الاعتبار الفروقات المهمّة بين التعليم الأرثوذكسيّ وآراء «الخطيئة الأصليّة» الأغسطينيّة، من الأفضل ألّا يتسرّع الأرثوذكس ويقولوا إنّ الكنيسة الأرثوذكسية تؤمن بعقيدة «الخطيئة الأصليّة» وتبريرها بِرَفض تعليم «الذَّنب الأصليّ». رغم أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة تعترف بأغسطينوس كقدّيس، إلاّ أنّها لم تقبل آراءه عن الخطيئة الأصليّة[12]. فقد أدّى التَّطَرُّف في فهم «الخطيئة الأصليّة» إلى عدّة هرطقات عند اللاتين كالإختيار المُسبَق والمَطهَر والليمبو (Limbo)[13] والحَبَل بلا دَنَس. من الأفضل لنا، نحن الأرثوذكس، أن نبتعد عن الموقف الغربي الشّائع من «الخطيئة الأصليّة» ونستخدم المُصطَلَح الأقلّ إلفَةً: «الخطيئة الجَدِّية»؛ إنّه ليس مُجَرّد دَلالة لَفظِيّة أخرى. إن أيّ فهم خاطئ لهذه العقيدة له تَرَدُّدات خطيرة في فَهمِنا للخطيئة والسُّقوط والنعمة والإرادة الحُرّة والمعموديّة والحال البشريّة وتأليه الإنسان. بإختصار، كيفيّة فَهمِنا للخطيئة الجَدِّية له نتائج مباشرة لكامل خلاصِنا وفهمنا خلاص الإنسان والعالم.
https://pemptousia.com/2017/07/original-sin-orthodox-doctrine-or-heresy-2/
[1] لا يَهدُف هذا المقال إلى الإنتقاص من قداسة المَغبوط أغسطينوس، فقد عاش قبل الانشقاق والكنيسة الأرثوذكسيّة تعترف بقداسته. بل يهدف هذا المقال إلى توضيح الفهم الأرثوذكسي الصّحيح للخطيئة الجَدِّية والإشارة إلى خطورة الفهم الخاطئ لهذا التّعليم كما حصل عند اللاتين ونتج منه هرطقات عديدة. في كل الأحوال، لا يَجدُر بالأرثوذكس أن يتّخذوا من تعليم ’الخطيئة الأصليّة’ الخاطئ فرصةً للتَّهَجُّم على المَغبوط أغسطينوس ولَومِه وإلقاء المسؤوليّة عليه بكل ضَلالات اللاتين. (المُعَرِّب)
[2] موضوع الخطيئة الأصليّة والفكر الأغسطيني بشكل عام هو موضوع طويل ومُتَشَعِّب، وقد ناقشه العديد من اللاهوتيّين خاصّةً في الغرب على مرّ القرون. نودّ فقط في هذا المقال إعطاء لمحة مُختَصَرة وكافية عن هذا الموضوع وعن الفهم الأرثوذكسي الصّحيح للخطيئة الجَدّيّة. (المُعَرِّب)
[3] الإعترافات، الكتاب العاشر.
[4] أدانت الكنيسة الهرطقة البيلاجيّة في مجمع قرطاجة المَحلّي سنة 418 وفي المجمع المسكوني الثالث في أفسس سنة 431. (المُعَرِّب)
[5] John Meyendorff, Byzantine Theology: Historical Trends and Doctrinal Themes (New York: Fordham University Press, 1976), 144.
[6] Διὰ τοῦτο ὥσπερ δι’ ἑνὸς ἀνθρώπου ἡ ἁμαρτία εἰς τὸν κόσμον εἰσῆλθε καὶ τῆς ἁμαρτίας ὁ θάνατος, καὶ οὕτως εἰς πάντας ἀνθρωπους ὁ θάνατος διῆλθεν, ἐφ΄ ὧ πάντες ἥμαρτον
[7] Meyendorff, Byzantine Theology, 144
[8] Commentary on Romans, P.G. 74, 788-789
[9]عارَض العديد من اللاهوتيّين في الغرب الفكرَ الأغسطيني في الخطيئة الأصليّة، كان من بينهم القديس البار فوستوس أسقف رييز [Saint Faustus of Riez] (+495 م) والقديس فنسنت من ليرنز [Saint Vincent of Lerins] (+445 م). (المُعَرِّب)
[10] التأليه هو العقيدة القائلة أن الإنسان يَخلُص بِبُلوغِه مِثال الله من خلال ’تأليهِه’. يَتِمُّ هذا بواسطة التَّفاعُل، أي العمل المُشتَرَك بين الإرادة الحُرّة والنعمة الإلهيّة. تُدان هذه العقيدة أحيانًا من قِبَل لاهوتيّين بروتستانت لأنها توحي بأن الإنسان يُساهِم في خَلاص نفسه.
[11] لقد وردت العلاقة بين معموديّة الأطفال وبين الخطيئة الأصليّة والجدّية في البعض القليل من الكتابات الأرثوذكسية، مَثَلاً في إعترافات دوسيثاوس بطريرك أورشليم (1672). لكن حتى في هذه الكِتابات وُضِعَت معموديّة الأطفال في سياق التّعليم الأرثوذكسي الأساسي الذي يقول ان المعموديّة تُعطي الشخص حياةً جديدةً في الكنيسة، جسد المسيح المُقَدَّس، وتجعله هيكلاً لله. (المُعَرِّب)
[12] في الكنيسة الأرثوذكسيّة، تُنسَب إلى أغسطينوس صفة ’المَغبوط’ أو ’الجَليل’ (ἱερός) وليس ’القديس’ (Ἅγιος). لكن لا يجب أن يُعتَبَر هذا تَرَدُّدًا من قبل الكنيسة الأرثوذكسيّة من رَفع أغسطينوس إلى رتبة القَداسة. فهناك آباء قدّيسون آخرون في الكنيسة الأرثوذكسيّة يُعطَون صفات أخرى، مثلاً: يوحنا الذّهبي الفم الجَليل. تعيّد الكنيسة الأرثوذكسيّة للقدّيس أغسطينوس مع أمّه القدّيسة مونيكا في 15 حزيران.
[13] الليمبو (Limbo) هو ادّعاء لاتيني بوجود مكان خاص لِنفوس الأطفال الذين يموتون غير مُعَمَّدين (المُعَرِّب).