مهمّة الكنيسة الشِّفائيّة

المتروبوليت أثناسيوس ليماسول

تعريب جورج لقيس

 

المهمّة الرئيسة للكنيسة هي شفاء الإنسان. بكلام آخر، عندما يصبح الإنسان عضوًا في الكنيسة، يُشفى في حال اتّبع النِّظام العِلاجيّ الذي يهدف إلى مُساعَدَتِه على العودة إلى الحالة الطبيعيّة التي أعطاها الله إيّاها عندما خَلَقَهُ.

بعد سقوط جَدَّينا الأوَّلَين، أصبحت طبيعتُنا فاسدة. عندما قطع الإنسانُ علاقتَه بالربّ بعد عِصيان وصيّته، فَسُدَت كلّ قُدراته العقليّة والجسديّة على الفور وتشوّهت؛ ابتعد عقله عن تَواصُلِه المَنيع مع الربّ، الذي كان حالتَه الطبيعية، نحو الخليقة والمادّة والأهواء والخطيئة. منذ تلك اللحظة دخل المرضُ والفسادُ طبيعةَ الإنسان.

هذه هي حقيقة السقوط، خطيئة الجَدَّين الأوَّلَين، وهي المرض الوراثيّ الذي ينتقل من جيل إلى آخر لأنّنا أحفاد بالطبيعة لأجدادنا. وهكذا فقد ورث كلّ إنسان هذه الحالة من المرض الروحيّ وفساد طبيعته.

يُدعى يسوع المسيح "آدم الجديد"، لأنّه يدخل التاريخ في وقت مُحَدَّد ويُتَمِّم مهمّة. لم تكن مهمّة المسيح إلى حدٍ كبير تسليم الإنجيل، وتحديدًا تعاليمه، ولا إعطاءنا كتابًا يسمّى "الإنجيل"، بل إعطاءنا ذاته. وبعبارة أخرى، كما ورثنا مرض طبيعتنا من خلال آدم الأول، يقدّم لنا يسوع ذاته، بحيث نتّحد معه من خلال المعموديّة، ونصبح واحدًا معه، ومن خلال الإفخارستيا المقدّسة نكتسب القدرة على الاتّحاد به واقعيًّا. هذا يعني أنّ الاتّحاد الفِعليّ بجسد المسيح ودمه يتدفّق داخل كياننا، ونفسنا وجسدنا. هذا هو السّبب الذي يجعلنا أبناء الله وهو سبب وجود الكنيسة. لا حاجة للكنيسة إذا كانت لا تمنح الأسرار المقدّسة، ولاسيّما سرّ الإفخارستيا.

ليست الكنيسة مؤسّسة تهدف إلى زيادة أتباعِها لأسباب مختلفة. إنّها المكان الذي يُشفى فيه الإنسان روحيًّا ويُمنَح فرصة الاتّحاد بيسوع المسيح. ومع ذلك، يحتاج الإنسان إلى اتّباع علاج معيّن يُسَمّى "العِلاج النُّسكيّ". يستتبع ذلك طاعة كلّ وصايا الربّ التي سَلَّمَها إلينا يسوع في الإنجيل. وصايا يسوع هي الدواء الذي يُعالِج مرضنا. في الواقع، بما أنّ الربّ خلقنا على صورته، لا ينبغي أن يُعطينا أيّة وصية؛ أوامره مُتأصِّلة في طبيعتنا ويُذّكِّرُنا ضميرُنا بها. ومع ذلك، كما يقول الآباء القديسون، أعطانا الربّ الدواء المناسب لإلغاء الشر.

يذهب رجل مريض إلى الطبيب ويتلقّى علاجًا معيّنًا، ليس لأنّ الطبيب يُعيق حريّته أو كرامته، ولكن لأنّ نصيحته قد تُعالجه إذا أخذَها بعين الاعتبار. إذا لم يتبع تعليمات الطبيب، فسيستمرّ مَرَضُه وقد يتسبّب في وفاته. بنفس الطريقة تعمل وصايا الربّ كعلاج للشفاء.

هناك العديد من الوصايا، وفي البداية يبدو من الصَّعب على أيّ شخص أن يتذكّرها ويُطيعها كلّها. ومع ذلك، فإنّ الوصيّة الأكثر أهمّية هي واحدة وتتعلّق بكياننا بأكمله. وهي: "أن تُحِبّ الربّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ قدرتك ومن كلّ فكرك". وأيضًا "أن تحبّ قريبَك كنفسك". هذا الجزء هو نتيجة وإثبات حُبِّنا الحقيقيّ للربّ. بمعنى آخر، لا يمكن لشخص لا يُحِبّ الله أن يُحِبّ نفسه أو جاره أو الطبيعة أو بقيّة الخليقة. لذلك، كلّ الوصايا لها مهمّة مشتركة؛ كلّها تتلاقى على الحبّ نحو الربّ. هذه هي الحالة الطبيعيّة للإنسان. هكذا خَلَقَهُ الربّ، أي أن يتحرّك نَحوَه بقوّة المحبة. هذا سهل الفهم لأنّ الكتاب المقدّس يقول "اَللهُ محبة". ولكن يجب أن ندرك أنّنا لا نتحرّك نحو فكرة، وهي "المحبة"، بل نحو شخص.

تدفع الكنيسة الإنسان نحو لقاء شَخصيّ مع الإله الشَّخصي. بعبارة أخرى، الكنيسة هي المكان الذي ينمو فيه الإنسان كشخص وليس كَفَرد ("الفرد" يعني الشخص المُنغَمِس في نفسه). أي أنّها تُحَطِّم فَردِيَّتَه، وتُطَوِّرُه كشخص وتُحَوِّلُه إلى إنسان له علاقة شخصيّة مع الربّ. هذا هو أيضًا الاختلاف الرئيسي بين الكنيسة الأرثوذكسيّة والأديان الشرقيّة التي تتحدّث عن إله غامض لا وجه له. هذا هو سبب اختلاف الصلاة عن التأمُّل. الصلاة هي حركة شخصيّة تجاه إله خاص؛ التأمل هو حركة غير شخصيّة من رجل إلى آخر من خلال استدعاء إله غامض.

تقتضي الحركة الشخصيّة نحو الربّ أن يتحرّك الربّ أيضًا نحو الإنسان. وبما أنّ الله محبّة، فإنّ ذلك يعني أنّ الإنسان، المخلوق على صورة الله، هو أيضًا محبّة. تُمَكِّن هذه الحركة (حركة المحبّة) الإنسان من الخروج من ذاته وتقديم ذاته إلى شخص آخر، تمامًا كما فعل يسوع عندما "أخلى ذاته".

عندما يُخلي الإنسان ذاته، يلتقي بالربّ في اتّحادٍ ذي محبة شخصيّة ومُرضيّة تمامًا للإنسان. إنّ اتّحاد الإنسان مع الربّ لا يتمّ فقط على المستوى العقليّ أو الفلسفيّ أو الغَيبيّ أو النفسيّ. إنّه اتّحاد مثاليّ على جميع المستويات. يجب أن نفهم هذه الأشياء إذا أرَدْنا أن نُقَدِّر قيمة مهمّتنا الحقيقيّة في هذا العالم. لذلك، من خلال فهم الوصايا العديدة، نفهم أيضًا الهدف من طاعَتِها.

بكلام آخر، الكنيسة ليست مجموعة من الوصايا والقوانين، لكنّها مكانٌ له مهمّة مُحَدَّدة. يُثبِت قِدّيسو كنيستنا، جميعُ أبناء الكنيسة الذين هم في الواقع أبناء الله والكنيسة، أنّ ما تقوله الكنيسة وتَعِد به هو صحيح. اتّبع هؤلاء الناس العلاج الذي قَدَّمَته الكنيسة وأصبحوا هيكلًا للروح القدس وسفينة الربّ المختارة. أي أنّ الروح القدس موجود في داخلهم. في الواقع، هناك العديد من هؤلاء الأشخاص الذين يختبرون حضور الروح القدس في داخلهم ويعرفون ما هي "النعمة".

عندما نتعاطى مع واقع عِبادَتِنا، إلى جانب جميع الشروط المُسبَقة والأدِلّة التي قَدَّمَتها حياة قِدّيسينا، فإنّنا نُواجَه بِصِراع روحيّ على نطاق كامل. من ناحية أُخرى، نحن نفهم لماذا تَحدُث هذه الأمور كلّها، ولماذا أُعطِيَت الوصايا، ولماذا النُّسك والحياة الروحيّة ضَروريّان ونفهم ما يحدث بحضور يسوع ووجود الكنيسة. وهكذا نفهم ما سيحدث لنا. الأمر الوحيد الذي لا يزال بحاجة إلى حلّ هو كيف نبدأ علاقتَنا بالله عَمَليًّا، وكيف نَجِدُه وكيف نتذوّق كلّ ما وَعَدَت به الكنيسة.

الربّ لا يميِّز، لا يُقَدِّم رحمته لأحد دون الآخر، ولا يُعطي المواهب لأحد دون الآخر. لا يوجد "مختارون" عند الربّ. يعطي الربّ لكلّ واحد النعمة عينها والمحبّة عينها. الإنسان هو مَن يُقَرِّر علاقته بالربّ. الإنسان لديه الحريّة أن يحبّ الربّ. قد يحبّه البعضُ كثيرًا، والبعض الآخر قليلًا جدًا والبعض قد يكرهه.

ومع ذلك، يجب على الإنسان أن يدرك نَواياه؛ يجب أن يكون قادرًا على القول إنّه سيبقى ثابتًا في إيمانه على الرغم من أنّ الربّ يبدو أحيانًا وكأنّه تركه وحده في صِراعاتِه. يجب ألّا يفقد الإنسان عَزيمَتَه أبدًا وأن يدرك أنّ هذه المهمّة ليست بِيَدِه ولكنّها مهمّة أنجزَها الربّ. قال يسوع لتلاميذه: "ليس أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم" (يوحنا 15 : 16). قد يكون التلاميذ قَدّموا نواياهم الحسنة، ولكن ما لم يكن الربّ حاضرًا بنعمته لتقويتهم، لما استطاعوا تحقيق شيء واحد.

لا تنسوا أنّه بحضور الربّ لا بُدّ أن نَخوض جهادنا بشجاعة كبيرة. أحد الأسلحة التي يستخدمها العدوّ هي محاولة مَنعِنا من التعامل مع خطايانا وأهوائنا بشجاعة وحماسة.

يقدّم لنا الربّ دواءً لمساعدتنا في عمليّة جهادنا. هذا الدواء هو التوبة أمام الربّ. هذا يعني أنّه يجب على المرء أن يتوب وألاّ يشعر بالذنب، بل كإبن للربّ. لا يمكن لأيّ خطيئة ولأيّ شيطان أن ينتزع منّا ميزة البُنوّة للربّ. وهكذا نقف أمامه ونقول: "لقد أخطأت، لقد تمّ تَضليلي. ومع ذلك، لم أنكركَ وما زِلتُ أسعى لخلاصي".

يجب ألاّ يكون الناس بائسين داخل الكنيسة، لأنّ الربّ قد دعاهم ليصبحوا آلهةً بالنعمة. وهذا يعني أنّ الشخص الذي يعيش حياة الكنيسة يصبح ربًّا وليس إنسانًا بائسًا، بهذه الطريقة يصنعه الربّ. بدلًا من الشعور بالاكتئاب، شدّد القدّيسون على التوبة لأنّها جَعَلَتهُم يشعرون أنّهم أبناءَ الربّ. كانت التوبة بمثابة قوّة مانحة للحياة قادَتهم مباشرة إلى عرش أبيهم.

بِغَضّ النظر عمّا يحدث، لا يوجد في الكنيسة مكانًا للإحباط والتَّراجُع. ومع ذلك، عندما يبدأ إنسانٌ ما حياته الروحيّة، قد ينجح العدوّ في سَلب روحه وقلبه، ويجعله عبدًا للأمور الدنيويّة وبالتالي يجعله يتخلّى عن محبّته الأولى للربّ.

لذلك، على الرغم من جميع مسؤولياتنا وواجباتنا، يجب ألاّ نكون عبيدًا لأمور هذا العالم بل أن يتحرّك قلبُنا نحو الربّ فحسب.

 

 

المصدر: http://stjohntheforerunnerblog.blogspot.com/2019/05/the-healing-mission-of-church.html?m=1