عظة للميتروبوليت أغسطينوس كانديوتيس
تعريب ميشال بو صعب
يلوح يا أحبّاء عيد القدّيس نيقولاوس مرّةً جديدةً. ماذا عسانا نقول؟ هل نوقّر فضائله؟
أنمدح تقشّفه؟ لقد كان «معلّمًا للإمساك» كما تقول طروباريته. لأنّه كان، ليس في شيخوخته فحسب بل منذ صغره وحين كان طفلًا على ذراعي أمّه، ينقطع عن تناول الحليب والرضاعة (أيّام الأربعاء والجمعة).
أنقرّظ وداعته؟ ففي طروباريته نرتّل قائلين إنَّه «صورة للوداعة». وسط الإهانات والتعذيبات ومكائد الأعداء، برز مدافعًا بوداعةٍ. هو يعلّمنا أنّه مهما كثرت الإهانات والشدائد، علينا أن نبقى ودعاء. ما من قوّةٍ تغلب قوّة الوداعة التي تقهر الشّياطين.
أم نتحدّث عن إحسانه العظيم؟ فكان يزور منازل الفقراء ليلًا موزّعًا الذهب ومنقذًا إيّاهم من الرّذيلة والعوز.
أم نجود بالحديث عن إيمانه العظيم غير المتزعزع؟ عندما كانت الكنيسة تحت خطر هرطقة آريوس، أسرع إلى مدينة نيقيا وهناك، مع الآباء القدّيسين، عمل على انتصار الأرثوذكسيّة. لم تكن للقدّيس نيقولاوس موهبة الخطابة كالقدّيس أثناسيوس الكبير أو مهارة النقاش كالعديد من الآباء الآخرين، فقد كان غير متعلّم. ولكن ما الفرق في ذلك؟ عندما سمع آريوس يجدّف على المسيح، نهض هذا الوديع والمتواضع وضرب زعيم الهراطقة كما نقرأ في سيرته. وهذه الحادثة هي بمثابة درسٍ لنا في أنّه عندما يُجدَّف على الله علينا أن ننهض. ولكن بخلاف ذلك، عندما يسيء إلينا الآخرون عندما نُظلم ونُهان ونُدان، في الحال نمتلئ غيظًا، ونتحوّل إلى وحوشٍ ونؤذي كلّ ما هو من حولنا. ولكن عندما يُشنَّعُ ويُجدّفُ على المسيح عندها نُظهِرُ عدم مبالاتنا. لقد أظهر القدّيس عكس ذلك. ردّ على الإهانات بالوداعة ولكنّه بقوّةٍ شرسة انتفض عند التطاول على المسيح ولهذا السبب صفع آريوس. أمّا نحن فأنانيتنا طاغيةٌ على اسم المسيح فينا على خلاف القدّيس نيقولاوس.
بكلامٍ آخر، القدّيس نيقولاوس هو ملخّص كلّ الفضائل وهو التعبير عن تطويبات المسيح لأنّه فيه غُرست تلك التطويبات (متى ٥: ١-١٢).
ولكنّني، يا أحبّاء، أرغب أن أضيف على صورة القدّيس نيقولاوس كلمتين تظهران أنَّه لم يكن الرحيم والوديع والخادم الأمين للربّ وحسب، بل كان أيضًا حاميًا للضعفاء والمظلومين ومدافعًا عن المشجوبين من سلاطين تلك الأيام. سأذكر مثلًا أو إثنين وبعدها سأنهي كلامي.
المثل الأوّل، كانت في أبرشيّته نسوةٌ أتين إليه مسرعات ذات صباح تَنُحنَ وتبكينَ وشعرهنَّ يتطاير وراءهنَّ. ارتمَينَ عند قدمي القدّيس نيقولاوس وقلنَ له: «خلّصنا»! لقد توسَّلنَ إلى القدّيس ليخلصهنَّ لأنَّ أزواجهنَّ أُسِروا وقُيّدوا وأُخذوا إلى السجن وحكم عليهم بالموت وسيُعدمون بعد عدّة ساعات. وكانت زوجاتهم بحالة يرثى لها. حالما سمع القدّيس هذا الخبر المريب أسرع إلى السجن ليجده فارغًا لأنّ الرِّجال أُخذوا إلى الحقول ليُعدموا. لقد أدرك القدّيس الخطر المحدق بالرّجال وراح ذاك الشيخ يركض مثل طفلٍ صغير ووصل إلى مكان الإعدام. وحالما وصل أخذ السّيف من يد السيّاف المكلّف بقتل هؤلاء الرّجال الأبرياء. لم يكتفِ بذلك، بل انتهر حاكم تلك المدينة ووبّخه وهدّده بأنّه سيشتكيه إلى قسطنطين الكبير. عندها عاد الحاكم إلى رشده، اتّعظ واتّضع وتاب.
هذه كانت إحدى الحوادث التي حصلت وخلّص فيها الرّجال. وهناك حادثةٌ أخرى حيث كان في زمن حكم القدّيس قسطنطين ثلاثة جنود شجعان ومتميّزين تغلّبوا على البرابرة في عدّة معارك وكانوا فخر الإمبراطوريّة البيزنطيّة، حدث أنَّه اعتدي عليهم وأدينوا من قبل رجال ماكرين وأشرار. لقد قُيِّدوا وسجنوا وحكم عليهم بالموت بعد وقت قصير. لم يكن لديهم ملجأ سوى حماية القدّيس نيقولاوس. ونقرأ في سيرة القدّيس أنَّه وفي تلك الليلة ابتهل الجنود وصلّوا إلى القدّيس نيقولاوس لينجّيهم وعندها حصلت المعجزة. أيّة معجزة؟ رأى الإمبراطور حلمًا يوبّخه فيه القدّيس ويقول له: «ما هذا الذي تنوي فعله؟ لماذا تشاء أن تلطّخ يديك بدم الأبرياء؟ هؤلاء الجنود الثلاثة الذين يستعدّون للإعدام هم أبرياء وعليك أن تطلق سراحهم. لا تقم بالذي تفكّر أن تقترفه». عندما استفاق الإمبراطور، استدعى حالًا قائد جنوده وأمره بإخلاء سبيل الجنود الثلاثة الذين بدورهم وبكلّ سرورٍ وامتنان هرعوا ليقدّموا الشكر للقدّيس الذي حرَّرهم.
إيه، ستقولون! هذه قصص قديمة وحصلت «في تلك الأيّام».
لا، يا أحبّاء! ليست «في تلك الأيّام». واليوم وغدًا وبعد الغد وإلى المنتهى حتّى ينطفئ نور النجوم وتتوقف الأنهار عن الجري ولا تعود الأشجار تورق وحتّى تنطفئ الشمس ويُظلم القمر، عجائب الله ستظلّ موجودة. هذه ليست أمور خرافيّة.
سأسرد عليكم قصّة أخيرة. ماذا حدث؟ كان في قازان عام ١٩٤٤، في تلك الحقبة الشنيعة من عبوديّة بلادنا، أن اقتاد رجالٌ أشرار وفاسدون ٣٠٠ رَجُل وزجّوهم في السّجن. وفي صباح اليوم التالي امتلأت المدينة من العويل. نساءٌ وأطفال ينوحون لأنّ نهاية الرّجال كانت حتميّة. وذلك الصباح في قازان، مدينة القدّيس نيقولاوس، التي توجد فيها كنيسة على اسم القدّيس، أشرق نهارٌ كئيبٌ جدًا. كانت أجراس الكنيسة تُقرع حزنًا كأنّها في يوم الجمعة العظيم. كنت حينها، كما يؤهّلني دائمًا الله أن أكون، واعظًا في قازان. اعتليت المنبر وعيناي مغرورقتان بالدّموع وقلت: «اليوم، القدّيس نيقولاوس لا يحتفل. خُرّوا على ركبكم، صغارًا وكبارًا، وتوسّلوا إليه ليصنع معجزته...» بالفعل صنع القدّيس معجزته! لقد حرّر الرّجال عشيّة ذلك اليوم!
نعم. إيماننا ليس كذبة، إنّه حيّ! حيٌّ بكليَّته. أمس واليوم وغدًا، ستبقى العجائب إلى الأبد. وإذا ذهبتم إلى جزر آبائنا المباركة، سترون هناك بحّارة كبار بلحى بيضاء مرّوا في محيطات وبحار وأبحروا في المحيط الأطلسي وحملوا البهجة في عيونهم، عندما صادفوا أمواجًا وحيتانًا ووحوشًا مخيفة، وعندما كانوا عرضة أن يُطرحوا ويمزّقوا إلى أشلاء على الصخور، في تلك اللحظات المميتة استنجدوا بالقدّيس الذي صنع عجائبه معهم ووجدوا أنفسهم على الأرض الجافّة من دون أن يعلموا كيف! أنا لا أكذب بل أخبركم الحقيقة.
لذلك، صحيحٌ أنَّ القدّيس كان وديعًا ورحيمًا ومؤمنًا وتقيًا، صحيحٌ أنَّه كان رجل الله، ولكنَّه صحيحٌ أيضًا أنَّ القدّيس نيقولاوس هو حامي المظلومين والضعفاء.
هذا هو القدّيس الذي نقرّظه اليوم. وكلّنا بقلبٍ واحدٍ وروحٍ واحدة متّحدين بالإيمان بالمسيح، إيماننا الأرثوذكسيّ، نتوسَّل إلى الله بشفاعات القدّيس نيقولاوس العجائبي أن يرحمنا ويخلّصنا جميعنا. آمين.
أُلقِيت هذه العظة في كنيسة القدّيس نيقولاوس في مدينة فلورينا في السّادس من كانون الأوّل من العام ١٩٧٨.
https://www.johnsanidopoulos.com/2018/12/saint-nicholas-protector-of-weak-homily.html?m=1