عيد رؤساء الكهنة أعمدة الإيمان الأرثوذكسيّ القدّيس فوتيوس الكبير والقدّيس غريغوريوس بالاماس والقدّيس مرقس الأفسسيّ

عظة الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان (رئيس دير رقاد والدة الإله – بكفتين)

 الأحد الأوّل من تشرين الثاني

1 تشرين الثاني 2020

 

تعيّد الكنيسة دائمًا في الأحد الأوّل من شهر تشرين الثاني لثلاثة قدّيسين سويّةً وتطلق عليهم «أعمدة الكنيسة الارثوذكسيّة»، الذين لعبوا دورًا كبيرًا في تاريخ الكنيسة بتثبيت الإيمان الأرثوذكسيّ – إيمان الرسل – وحافظوا عليه ودافعوا عنه واستطاعوا نقله إلينا.

عاش القدّيسون الثلاثة في ثلاثة أزمنة مختلفة، وهم القدّيس فوتيوس الكبير الذي عاش في القرن التاسع والقدّيس غريغوريوس بالاماس الذي عاش في القرن الرابع عشر والقدّيس مرقس أسقف أفسس الذي عاش في القرن الخامس عشر. كان لهم دورٌ مهمٌّ في تاريخ الكنيسة. نعرف نحن أنّه لكي نصل إلى الإيمان الأرثوذكسيّ – إيمان الرسل – الإيمان الذي سلّمه المسيحُ للرسل، والرسل سلّموه للكنيسة، لم يصل الإيمان إلينا بهذه البساطة، جاهدت الكنيسةُ جهادًا مريرًا لتحفظه واستطاع الآباء القدّيسون الدفاع عنه بقوّة الروح القدس الساكن فيهم.

دافع القدّيس فوتيوس (القرن التاسع) عن أمورٍ كثيرة مهمّة في تثبيت إيماننا. وقد دافع قدّيسونا الثلاثة ضدّ ابتداعات كانت تأتي من الغرب المسيحيّ وتحديدًا من كنيسة روما وبابوات روما. بدأت تدخل في القرن التاسع عدّة عادات في الكنيسة الغربيّة وعقائد غريبة عن الإيمان أوّلها كان عندما أدخلوا على دستور الإيمان «عقيدة انبثاق الروح القدس من الإبن». نحن نعلم أنّه عندما وُضعَ دستور الإيمان في القرن الرابع في مجامعَ مسكونيّة كان الغرب ذاته مشاركًا، وقد وُضعَ أنّ الروح القدس منبثقٌ من الآب فقط، وهذه عقيدة أساسيّة في كنيستنا. في القرن التاسع بدأت روما تُدخل في عقائدها أنّ الروح القدس منبثق أيضًا من الإبن وهذه العقيدة تشوّه بالطبع عقيدة الثالوث بأكملها (لن نطيل شرحها هنا ولكن من يريد أن يبحث في هذا الموضوع سيرى مدى تشويه هذه العقيدة عل مفهوم الثالوث بأكمله). إضافة إلى ابتداعات أخرى منها أنّهم أخّروا سرَّي الميرون والإفخارستيا إلى عمر 8-9 سنين وهذا نتيجة الفكر العقلانيّ أن نترك الطفل يفهم إيمانه. نحن نعمّد الطفل وهو صغير لأنّنا نعلم أنّ النعمة الإلهيّة التي هي موجودة قبل نموّه بالمعرفة، وكما نعطيه نحن الطعام الجسديّ فالنعمة الإلهيّة تغذّيه بالطعام الروحيّ وهكذا ينمو بالنعمة. ومنعوا إعطاء الميرون عبر الكهنة وحصروه بالأسقف فقط، وأدخلوا الصوم نهار السبت علمًا أنّه لدينا قوانين في الكنيسة تقول إنّ السبت والأحد يومان يرمزان إلى الخلق لذلك لا نصوم فيهما، إضافةً إلى مواضيع أخرى مثل بتوليّة الكهنة ورفض زواجهم، وبدّلوا العديد من الأمور في الممارسات في تقليد الكنيسة. وهنا في القرن التاسع أي قبل الإنشقاق بعامين الذي تمّ في القرن الحادي عشر بدأ يتمّ الإنفصال.

جاهد القدّيس فوتيوس، الذي عاش في القرن التاسع وكان بطريرك القسطنطنيّة، ليرفض كلّ هذه الابتداعات التي حاول البابوات أن يفرضوها على الكنيسة في الشرق، فواجههم وذكّرهم بكامل تقليد الكنيسة وبكلّ قوانين المجامع وأنّ الكنيسة هكذا عاشت طيلة تسعة قرون (من بدايتها إلى اليوم) على هذا التقليد وعلى هذه العقائد. جاهد وكتب ضدّ كلّ هذه الابتداعات وكان محطّةً مهمّةً في الكنيسة بدفاعه. وفي الوقت عينه حاول بابوات روما أن يفرضوا نفسهم على الكنيسة بكاملها وهذه بدعة إذ قالوا إنّ البابا ليس رئيسًا فقط على كنيسة روما بل عليه أن يكون رئيسًا على الكنيسة كلّها في العالم بأسره. لم تعش الكنيسة هذه الخبرة أبدًا في تاريخها، بل عاشت كنائس تُبنى عبر الأساقفة وكلّ أسقف على كنيسة وعندما يجتمع سائر الأساقفة يكوّنون مجمعًا مقدّسًا وإذا كان يعمل في الحقّ ويجتمع في الحقّ ويستند على الحقيقة وعلى الإيمان الحقّ يصير معصومًا عن الخطأ. هكذا عاشت الكنيسة أنّ الإيمانَ هو مجمعيٌّ وأنّ حياةَ الكنيسةِ هي حياةٌ مجمعيّةٌ. نرى لاحقًا أنّ البابوات لم يتمكّنوا من السيطرة على الشرق لأنّ آباءَنا القدّيسين واجهوهم ولكنّهم سيطروا على الغرب بأسره وصاروا يتحكّمون بمواضيع الإيمان وبكلّ مواضيع أمور الكنيسة الأخرى.

إذًا هذا هو أوّل أب «القدّيس فوتيوس الكبير» من القرن التاسع، أمّا قدّيسنا الثاني هو القدّيس غريغوريوس بالاماس الذي عاش في القرن الرابع عشر. كان هذا القرن أيضًا محطّةً مهمّةً في تاريخ الكنيسة، بسبب ظهور بعض التيّارات العلمانيّة في الغرب وهي تيّارات غير كنسيّة. في الشرق بقيت الحياة الكنسيّة وبقي الشعب يمارس إيمانه في الكنيسة وفي العبادة وفي الليتورجيا. بدأ في الغرب حتّى ضمن الكنيسة تيّارت علمانيّة، تيّارات عقلانيّة، وبدأ لاهوتهم يتثبّت بقوّة على الفلسفة ويستند على العقل والمنطق. نحن بالطبع لا نرفض العقل ولا نرفض المنطق لكنّه لا يستطيع أن يقودَنا إلى المسيح. ما يقودنا إلى المسيح هو الإيمان العامل بالنسك، العامل في مسيرة تطهير الإنسان، تطهير قلب الإنسان، لكي يستطيع أن يتّحد بالله. كان القدّيس غريغورس بالاماس ناسكًا كبيرًا، كان راهبًا في جبل آثوس وبعدها أصبح أسقفًا على تسالونيكي وكان مملوءًا من النعمة الإلهيّة، كان يعاين نور الله، النور الإلهيّ غير المخلوق، نور التجلّي الذي عاينه الرسل، عاينه هذا القدّيس بشهادات عدّة، لذلك كان ممتلئًا من المواهب ومن النعمة من الروح القدس. حاول الغربُ أن يُدخلَ التيّارات الإنسانويّة إلى الشرق وأن يفرضها عليهم ويغيّرَ حياة الكنيسة وحياة المؤمنين في الشرق، وهذه تيّارات علمانيّة تركّز بكاملها على المنطق والعقل. فبدأ القدّيس غريرغوريوس بالاماس بالكتابة دفاعًا عن حياة الكنيسة النسكيّة ودفاعًا عن اللاهوت المواهبيّ، اللاهوت الذي يستنير بنعمة الروح القدس ولا يعتمد فقط على البشر وعلى عقل الإنسان. نعرف أنّه منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، يُكتبُ اللاهوتُ في الغرب كدراسات وكأبحاث ولكن في الشرق لاهوتنا الحقيقيّ هو اللاهوت الذي يُكتبُ بالنعمة الإلهيّة، الذي يُكتبُ بنعمة الروح القدس، كما يقول في الكتاب: الروح القدس الذي يخضّ أقوال الله، يخضّها في قلوبنا أوّلًا ومن ثمّ تنتقل من قلوبنا إلى الورق. هذا هو لاهوتنا الأرثوذكسيّ الحقيقيّ. إذًا كلّ هذه التيارات التي حاولت أن تفرضَ ذاتها وتتغلغلَ في الشرق واستطاعت عبر البعض الذين أتوا من الغرب مثل برلعام. كلّهم مثل برلعام وأكينذينوس حاولوا أن ينشروا هذا الفكر في الشرق بين الكنيسة وبين المؤمنين الشرقيين. لذلك كتابات القدّيس غريغوريوس ومواجهاته ودفاعاته عن الخبرة الأرثوذكسيّة هي خبرة الإيمان الأرثوذكسيّ وخبرة الحياة النسكيّة الأرثوذكسيّة التي واجه بها كلّ هذه التيّارات التي تستند على قوى الإنسان البشريّة وانتصر عليها. وبقي لاهوتُنا في الشرق لاهوتًا مواهبيًا، لاهوتَ النعمة الإلهيّة، وليس لاهوت العقل البشريّ الساقط.

نصل إلى الأب الثالث وهو القدّيس مرقس إفجانيكوس الأفسسيّ، كان راهبًا وانتُخبَ أسقفًا بسبب جميع مواهبه على مدينة أفسس في القرن الخامس عشر، الذي سقطت فيه الامبراطوريّة البيزنطيّة، امبراطوريّة الروم، على أيادي الأتراك. كانت القسطنطنيّة عاصمة الامبراطوريّة وسقطت عام 1453م. رقد القدّيس مرقس قبل عشرة سنوات من سقوطها، ولكن قبل سقوطها بخمسة عشر عامًا عُقدَ مجمعٌ في الغرب في مدينة فلورنسا. كانت كنيسة الغرب منفصلةً عن الكنيسة الشرقيّة، إلاّ أنّ امبراطور الروم سعى إلى الوحدة مع الغرب لينال مساعدةً عسكريّةً منهم ليواجه بها الأتراك المسلمين الذين كانوا يضغطون على الامبراطوريّة لكي يحتلّوها، وكان الامبراطور يعلم أنّ لا قوّة له ليواجههم، فسعى أن يأخذ قوّةً عسكريّةً من الغرب ولكن كان الثمن أن تخضعَ الكنيسةُ في الشرق لسائر العقائد الغربيّة وبهذا يكون البابا مستعدًا لإرسال قوّةً عسكريّة إلى الشرق ليحاربوا الأتراك. كان على آبائنا أن يضحّوا بكلّ إيماننا الأرثوذكسيّ لينالوا المعونةَ من الغرب. عُقدَ هذا المجمع، مجمع فلورنسا في إيطاليا، من أجل هذه الوحدة، وكان القدّيس مرقس الأفسسيّ حاضرًا فيه، إضافةً إلى العديد من الأساقفة والبطريرك والإمبراطور بذاته. فرض البابا في هذا المجمع عقائده وصرّح لهم بإعطائهم المعونة العسكريّة مقابل أن يوقّعوا على سائر عقائد اللاتين، العقائد الكاثوليكيّة. وقّع الجميعُ باستثناء القدّيس مرقس الذي رفض قائلًا إنّه لا يوقّع على إيماننا الأرثوذكسيّ، لا أسلّمُ إيماننا الأرثوذكسيّ تحت أيّ ثمن. يقول: «فلتسقط الامبراطوريّة الأرضيّة، المملكة الأرضيّة، ولكن ليبقى الإيمانُ الأرثوذكسيّ منزهًا عن أيّ تسليمٍ أو مساومةٍ». وهكذا عاد إلى الشرق من فلورنسا والتفّ الشعبُ معه ورفضت أغلبيّة الشعب هذا الاتفاق وهذا المجمع لعدم كونه مجمعَ حوارٍ بل مجمع فرض عقيدة القوّة، إذ إنّ الأساقفة باعوا الإيمان ليحصلوا على المعونة العسكريّة. استطاع إذًا القدّيس مرقس أن يجمع هذا الشعب المحبّ المسيح والمحبّ لإيمانه الأرثوذكسيّ. وبسببه سقطت لاحقًا امبراطوريّة الروم ولكن بقيَ الإيمانُ الأرثوذكسيّ نقيًا وكاملًا. هكذا لعب دورًا أساسيًا ليصلنا الإيمان، تعرّض لاضطهادات كثيرة ولنفي كثير ولكن بقي مقاومًا إلى النهاية.

هذه هي مسيرة الكنيسة. لو لم يقم في الكنيسة آباءٌ وشعبٌ يحبّ الإيمان والمسيح لما وصل الإيمان إلينا اليوم كما هو. نحن نركّز على إيماننا الأرثوذكسيّ ليس عن تعصّبٍ، لسنا متعصّببين أبدًا، ولا نكره الآخر بل نحبّ سائر الناس ونصلّي من أجل جميع الناس لكن هذا الإيمان هو إيمان الرسل. إذا اختفى هذا الإيمان الصافي، الإيمان المستقيم، الإيمان الأرثوذكسيّ، تأكّدوا أنّ نهايةَ العالم ستأتي قبل أن ينتهي آخر مؤمنٍ. لأنّ العالمَ لا يستطيع أن يحيا دون الحقّ ولا يستطيع أن يحيا دون الإيمان الأرثوذكسيّ الإيمان المستقيم. العالم مستمرٌ بسبب وجود هذه الحقيقة التي أتى المسيحُ ونشرها وأعطانا إيّاها على الصليب. هذه الحقيقة لازالت مستمرّةً وهناك العديد من المؤمنين يتمسّكون بهذا الإيمان.

هذا هو دورنا أيضًا، نحن الآن في عالمٍ يساوم وحتّى من داخل كنيستنا الأرثوذكسيّة كما ساوموا في مجمع فلورنسا. إلى الآن هناك العديد من الأساقفة والكهنة والشعب يساومون على الإيمان ولا مشكلة لديهم ببذل هذا الإيمان مع كلّ الإيمانات الأخرى الخارجة عن الحقيقة. هذا ما نسمّيه المسكونيّة التي تدمّر إيماننا الأرثوذكسيّ لأنّها تمزجه مع كلّ الاعتقادات الأخرى الموجودة في هذا العالم، لكي يذوب هذا إيماننا الأرثوذكسيّ الصافي ضمنها.

الكنيسة في مسيرة لا تتوقّف، ناس تسقط وناس تضعف وناس تُغرُّ بكلّ ما يعدونها فيه. جميع من يساوم على الإيمان غير واع على ما يحدث بسبب أمور أرضيّة. هذا هو دورنا أن نكون محبّين لإيماننا، إذ إنّنا كلّما اقتربنا من النهاية، من الزمن الأخير، سيقلّ العدد. اضطُهد قدّيسونا الثلاثة فوتيوس وغريغوريوس ومرقس من أجل الإيمان ولكن لم يقبلوا أبدًا أن يساوموا حتّى وهم في السجون والعذاب والنفي، ومن خلالهم حفظ ربّنا الإيمان ووصل إلينا.

نطلب من ربّنا أن يعطينا هذه النعمة لكي نستطيع أن نكون أمينين على إيماننا، علينا أن نقرأ ونبحث في إيماننا ونشهد له لأنّ الزمن الآتي زمنٌ صعبٌ، زمنٌ شريرٌ، كما يقول المسيح الأيّام شرّيرة. إذا لم نكن على صخرة الإيمان ثابتين سيجرفنا تيّار العالم الدنيويّ العلمانيّ الذي يقوده الشيطان ويجرف المؤمنين، لذلك علينا أن نبحثَ ونقرأَ ونصلّيَ ونعيشَ ونصومَ ونتوبَ لكي نستطيعَ أن نعيشَ هذا الإيمان الأرثوذكسيّ ونحفظَه ونوصلَهُ إلى الآخر. آمين.