مقالة معرّبة من كتاب «DE LA PAPAUTE» لـ«Wladimir Guttée»
بقلم نقولا أنطوان موسى
لم يمتلك يومًا أسقف روما، خلال القرون الثّمانية الأولى، سلطة «الحقّ الإلهيّ» الّتي أراد ممارستها منذ ذلك الحين. كانت ادّعاءات أسقف روما للسّيادة بالحقّ الإلهيّ على كلّ الكنيسة، السّبب الحقيقيّ للانشقاق. سوف نعرض البراهين والحجج الّتي تدعم هذه الخلاصة. ولكن قبل البدء بعرضها، نعتقد أنّه من المهمّ الاستعانة بالكتاب المقدّس، والتّحقيق ما إذا كانت ادّعاءات أسقف روما بالسّيادة الشّاملة على الكنيسة مرتكزة على كلام الله، كما يدّعي.
الكنيسة بحسب القدّيس بولس الرّسول هي هيكل، هي بناء روحيّ، حيث جميع المؤمنين هم حجارتها. يخاطب بولس الرّسول المؤمنين في أفسس قائلًا إنّهم «مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ، فَلَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ، الَّذِي فِيهِ كُلُّ الْبِنَاءِ مُرَكَّبًا مَعًا، يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّسًا فِي الرَّبِّ. الَّذِي فِيهِ أَنْتُمْ أَيْضًا مَبْنِيُّونَ مَعًا، مَسْكَنًا ِللهِ فِي الرُّوحِ» (أف 2: 19- 21).
بحسب بولس الرسول، الكنيسة هي مجتمع كلّ المؤمنين، مبنيّة على الأنبياء في العهد القديم، وعلى الرّسل في العهد الجديد، الذين يشكّلون معًا بناءً روحيًا قاعدته يسوع المسيح، الذي ينتظره بعضهم كمسيح، ويعبده بعضهم الآخر على أنّه الكلمة الإلهيّة لابسًا البشريّة. يشكّل الأنبياء والرسل الأسس الأولى للبناء الأسراريّ (الميستيكيّ)، كما ينشأ المؤمنون على هذه القوانين ليشكّلوا، بأنفسهم، هذا البناء الروحيّ عينه. المسيح هو الحجر الرّئيس، هو حجر الزّاوية الّذي يعطي الثّبات لهذا البناء.
ليس هناك من حجر رئيس أو أساسيّ سوى يسوع المسيح. يكتب بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: «فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَضَعَ أَسَاسًا آخَرَ غَيْرَ الَّذِي وُضِعَ، الَّذِي هُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ» (1 كو: 3: 11). يعطي بولس الرسول هذا التعليم إلى الكورنثيّين، لأنّ من بينهم من كانوا متعلّقين بدعاة الإنجيل كما لو كانوا صخرة الكنيسة: يقول لهم «لأَنِّي أُخْبِرْتُ عَنْكُمْ يَا إِخْوَتِي مِنْ أَهْلِ خُلُوِي أَنَّ بَيْنَكُمْ خُصُومَاتٍ. فَأَنَا أَعْنِي هذَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يَقُولُ: «أَنَا لِبُولُسَ»، و«َأَنَا لأَبُلُّوسَ»، وَ«أَنَا لِصَفَا»، وَ«أَنَا لِلْمَسِيحِ» .. هَلِ انْقَسَمَ الْمَسِيحُ؟ أَلَعَلَّ بُولُسَ صُلِبَ لأَجْلِكُمْ» (1كو 11- 13).
بحسب بولس الرسول، لا يستطيع بطرسُ الرسول بنفسه أن يكون الصخرة الجوهريّة للكنيسة، أو الكاهن الأوّل ليسوع المسيح، وهذا الأمر ينطبق عليه أيضًا (بولس الرسول) كما لأبولوس. لم يكن بطرس وسائر الرّسل سوى سفراء، والأساسات الأولى للبناء الأسراريّ.
يقارن أيضًا بطرس الرسول الكنيسة لجسدٍ رأسُه يسوع المسيح وأعضاؤه الرعاة والمؤمنين.
يقول بولس الرسول إنّ المسيح «أعطى البعض أن يكونوا رسلاً، والبعض أنبياء والبعض مبشّرين والبعض رعاةً ومعلّمين لأجل تكميل القدّيسين لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانيّة الإيمان، ومعرفة ابن الله إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملء المسيح. كي لا نكون فيما بعد أطفالاً مضطربين ومحمولين بكلّ ريح تعليمٍ بحيلة الناس بمكرٍ إلى مكيدة الضّلال. بل صادقين في المحبّة ننمو في كلّ شيء إلى ذاك الذي هو الرأس: المسيح، الذي منه كلّ الجسد مركّبًا معًا ومقترنًا بمؤازرة كلّ مفصلٍ حسب عملٍ على قياس كلّ جزءٍ يحصّل نموّ الجسد لبنيانه في المحبّة» (أف 4: 11- 16).
وتاليًا، لا يوجد إلاّ كنيسة واحدة رأسها يسوع المسيح، مؤلّفة من المؤمنين، وكذلك الرّعاة الّذين يعملون فيها، بهدف تطوير الحياة المسيحيّة أو الجماعة المؤمنة الّتي تمثّلها، بمختلف الإدارات الّتي ائتُمنوا عليها.
هل نرى في هذه المفاهيم للكنيسة تراتبيّة محكومة من الحبر الأعظم بطريقة مطلقة ومعصومة؟
إنّها الكنيسة المعروفة بوحدتها وعالميّتها الّتي رآها القدّيس بولس كحافظة للتّعليم الإلهيّ، وهي الّتي يسمّيها عمود الحقيقة وأساسها.
لم يكن للقدّيس بطرس، الّذي أراده اللاهوتيّون الغربيّون أن تكون له السّيادة المطلقة على الكنيسة، أدنى فكرة عن الصّلاحيّات الفائقة التي كوفئ بها من قبلهم، والّتي يمنحونها بحريّة لأساقفة روما وخلفائهم. يعبّر في مخاطبته لقادة الكنيسة: «أطلب إلى الشّيوخ الّذين بينكم، أنا الشّيخ رفيقهم، والشّاهد لآلام المسيح، وشريك المجد العتيد أن يُعلن، اُرعوا رعيّة الله الّتي بينكم نُظّارًا، لا عن اضطرارٍ بل بالإختيار، ولا لربحٍ قبيحٍ بل بنشاطٍ، ولا كمن يسودُ على الأنصبة، بل صائرين أمثلةً للرعيّة. ومتى ظهر رئيس الرّعاة تنالون إكليل المجد الّذي لا يبلى» (1 بط 5 : 1-4).
لم يعرف القدّيس بطرس إلاّ معلّمًا واحدًا للرّسل وهو يسوع المسيح. بالنّسبة له، وبحكم كهنوته، كان زميلاً للكهنة؛ لم يتكلّم أبدًا عن أوّليّته ولا عن سيادته. لم يعتبر نفسه فوق الجميع، فوق أساقفة الكنيسة، في حديثه معهم، بل بالعكس اعتبرهم إخوةً له متساويين. لم يعتمد في إعطائهم النّصائح إلاّ على لقبه كشاهدٍ لآلام المسيح ومجده المستقبليّ الّذي أُعلن له على ثابور.
لم نشهد في الكتابات المقدّسة أيّ نصّ يتعلّق بموضوعنا هذا، بأنّ المسيح ليس رأس الكنيسة، وأنّ الكنيسة ليست الكلّ الواحدة والمطابقة، المؤلّفة من المؤمنين وأيضًا من الأساقفة.
استلم هؤلاء الأساقفة من يسوع المسيح القدرات الأساسيّة من أجل بناءٍ أفضل للكنيسة، بحيث لا يمكننا الاعتراض عليه ولا يمكننا استثناء خلفائهم، لأنّ الكنيسة وجماعة الأساقفة في فكر المسيح، يتوجّب عليها الاستمرار عبر العصور. قال المسيح لتلاميذه قبل صعوده: «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدّهر» (متّى 28: 19-20).
وتاليًا، يسوع المسيح هو بشكلٍ دائمٍ مع جماعة أساقفة الكنيسة. إذ قال لهم، على لسان الرسل: «الّذين يسمعونكم يسمعونني، والّذين يحتقرونكم يحتقرونني» (لو 10: 16). وقال لهم أيضًا: «إقبلوا الرّوح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له. ومن أمسكتم خطاياه أمسكت» (يو 20: 22-23).
هذه القدرات المعطاة للرّسل بشكلٍ عام، وعد بها يسوع المسيح بطرسَ بشكلٍ خاص، و بالشّروط نفسها. هذه إحدى الحجج الّتي يستخدمها البابوات للتّشديد على نظريّتهم القائلة إنّ بطرسَ تلقّى قدراتٍ مميّزةً ومتفوّقةً من يسوع المسيح، وأنّه سينقلها إليهم. لكنّهم لا يلاحظون أنّ هذه القدرات أُعطيت للجميع، وأنّ المسيح لم يَعِدْ بطرسَ شخصيًا بل كلّ الرسل بشخص بطرس: هذه هي نظرة القدّيس كبريانوس ومعظم آباء الكنيسة.
يستشهد (البابوات) أيضًا بنصوصٍ أخرى للتّأكيد على نظريّتهم، وسنناقشها على النّحو التّالي:
«وأنا أقول لك أيضًا أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (متى 16: 18).
يؤكّد لنا هذا النصّ، إذا صدّقنا البابوات، أنّ القدّيس بطرس وأساقفة روما خلفاءه، عُيّنوا من قِبَل يسوع المسيح كالصّخرة الأساسيّة للكنيسة، وأنّ الخطيئة المجسّدة في عبارة «أبواب الجحيم»، لن تقوى على الصخرة. من هنا، يستخرجون هذه الخلاصة: أنّهم القادة المسيطيرون على الكنيسة.
لكي يكون هذا التّحليل صحيحًا دقيقًا، كان يجب على القدّيس بطرس أن يكون معيّنًا الصّخرة الأساسيّة للكنيسة، بمعزل عن باقي الرّسل، وألّا يكون هذا الامتياز له شخصيًا، بل كان سيسلَّم إلى أساقفة روما.
ولكنّه ليس كذلك أبدًا.
بدايةً، لم يُسمَّ القدّيس بطرس «صخرة الكنيسة» مستبعدًا عن باقي الرّسل. لم يعيّن الرأس المطلق. نجد دليلاً في نصّ القدّيس بولس المذكور سابقًا، الّذي فيه يؤكّد-إيجابًا- أنّ صخور الكنيسة الأساسيّة هم الأنبياء والرّسل مجتمعين حول حجر الزّاوية، ألا وهو يسوع المسيح.
لا يمكننا أن نعطي للقدّيس بطرس منصب صخرة الكنيسة، بدون ضرب مفهوم الكتابات المقدّسة وتدمير تدبير الكنيسة والتخلّي عن التقليد الجامع. أعلن يسوعُ المسيح أنّه هو نفسه هذه الصّخرة، المعيّنة من الأنبياء (متّى 21: 42؛ لوقا 20: 17-18). يقول بولس الرّسول إنّ يسوع المسيح هو الصخرة (1 كو 10: 4). يعلّم أيضًا القدّيس بطرس الحقيقة ذاتها (1 بط 2: 7-8).
وبذلك، لم يقبل معظم آباء الكنيسة بلعبة الكلام هذه الّتي نسبها مؤيدو سلطة البابا ليسوع المسيح، ولم يطبّقوا للقدّيس بطرس هذه الكلمات: «وعلى هذه الصخرة سوف أبني كنيستي»[1]. لكي يُقتنعَ بأنّ شرحهم هو الحقيقة، يجب فقط تذكّر الظروف الّتي بها وجّه يسوع المسيح الكلمات الّتي يرفضها اللّاهوتيون الغربيّون. لقد قال لرسله: «من يقول النّاس إنّي أنا ابن الإنسان»، وكان ردّ الرّسل: «قومٌ يوحنّا المعمدان. وآخرون إيليا. وآخرون إرميا أو واحدٌ من الأنبياء». فردّ يسوع «وأنتم من تقولون إنّي أنا». فأخذ سمعان بطرس الكلام وقال: «أنت هو المسيح ابن الله الحيّ». فأجاب يسوع وقال له «طوبى لك يا سمعان ابن يونى. إنّ لحمًا ودمًا لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات. وأنا أقول لك أيضًا أنت بطرس وعلى هذه الصّخرة أبني كنيستي ...»
هذه العبارات لا تعني كلامًا غير هذا: أقول لكَ إذًا، لقّبتك بطرس بسبب ثبات إيمانك، وإنّ الحقيقة التي اعترفتَ بها هي الصخرة الأساسيّة للكنيسة، وأنّ الخطيئة لن تقوى أبدًا عليها.
كما يظهر لنا المغبوط أغسطينوس، لم يُقال لسمعان ابن يونا: أنت الصخرة بل أنت صخر. تستحقّ عبارات المغبوط أغوسطينوس أن نركّز عليها الإنتباه: يقول: ليس لأهميتك أنت صخرة، لكن لأهميّة اعترافك أنت صخرة، وعلى هذه الصخرة التي اعترفت بها، وعلى هذا الإيمان الذي عرفته بقولك: أنت المسيح ابن الله الحيّ. وعلى هذه الصخرة (أي على هذا الإيمان) أبني كنيستي. سأبنيك عليّ، ولن أكون مبنيًا عليك. يقول أولئك الذين يريدون أن يكونوا مبنيين على الإنسان: أنا لبولس، أنا لأبولوس، أنا للصخرة أي لبطرس؛ أمّا الذين لا يريدون أن يكونوا مبنيين على «بطرس» بل على الصخرة فيقولون «أنا للمسيح». في اللّغة الفرنسيّة، الإسم الذي يطلق على الإنسان ينتهي بالطريقة نفسها التي ينتهي بها الإسم المطلق على الشيء، هذه التركيبة اللغويّة غير موجودة في اليونانيّة واللاتينيّة. في هاتين اللغتين، ينتهي إسم الإنسان بصيغة المذكّر بينما ينتهي إسم الشيء بصيغة المؤنث، ما يجعل التمييز في الموضوعين أسهل كما كان في فكر يسوع المسيح؛ من السهل أن نلحظ أنّ في هاتين اللغتين، وبمساعدة الضمير وأداة التعريف المؤنّثة الذين يسبقان كلمة «الصخرة»، لا تتعلّق هذه الكلمات إطلاقًا بالإسم المذكّر الذي يعني الإنسان، بل تتعلّقان بشيء آخر. لم نلحظ كفايةً، إضافةً إلى كلمة «ὅτι» اليونانيّة، أنّ اللاتينيّة «quia» أعادت وبشكلٍ أدقّ وأقوى المعنى إلى «لأنّ». عندئذٍ، وبترجمته إلى الفرنسيّة، نتجنّب التركيبة اللغويّة التي تبنى عليها كلّ استنتاجات البابوات ومؤيّديهم.
يُكلَّمُ عدّة مرات في الكتب المقدّسة عن «الصخرة» بطريقة رمزيّة. تعني هذه الكلمة دائمًا «يسوع المسيح»، ولا تعني مطلقًا «القدّيس بطرس». المفسّر الأفضل لهذه الكتابة هي الكتابة بحدّ ذاتها. لذلك ليس عبثًا أنّ الأغلبيّة الساحقة من الآباء وحكماء الكنيسة القدامى، أعطوا المقطع المتناقش عليه الشرحَ الذي أعطيناه، وأعادوا عبارة «صخرة» التي استخدمها المخلّص، إمّا ليسوع المسيح تارةً، وإمّا للإيمان بألوهيّته. هذا التفسير يحظى بأفضليّة تتخطّى ثلاث مرّات ما قيل، ليكون متطابقًا مع النصّ، ومتوافقًا أكثر مع النصوص الأخرى للكتاب المقدّس، وألّا ننسب أبدًا ليسوع المسيح لعبة الكلام التي لا يستحقها[2].
أمّا بالنسبة للقليل من الكّتاب الذين يعترفون أو يقبلون بلعبة الكلام هذه، يجب معرفة أنّ لا أحد منهم شرح النصّ بطريقة محبّذة بالنسبة للسيادة البابويّة، ولم يستخلصوا النتائج المبالغ بها لهذا النظام. هذه النتائج هي معاكسة بالكليّة لعقيدتهم.
صحيحٌ أنّ يسوع المسيح توجّه إلى بطرس مباشرةً، لكن قراءة النصّ بالكامل تكفي لنرى أنّ المسيح لم يعطه منصبًا بمعزلٍ عن الرسل. في الواقع، بعد التفوّه بالعبارات المذكورة أعلاه، يتوجّه يسوع المسيح دائمًا إلى بطرس قائلاً: «وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات. فكلّ ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السموات». في الشقّين من النصّ لا يعطي يسوعُ بطرسَ إلاّ الوعود: الأول، أنّ الكنيسة ستكون راسخةً على الإيمان بألوهيّة شخصه (أي يسوع المسيح) وأنّ الخطيئة لن تقوى أبدًا على هذه الحقيقة، والثاني بأنّه سيعطي بطرسَ مكانةً (خدمةً) مهمّةً في الكنيسة.
لا يمكننا أن ندعم سلطة المفاتيح التي مُنحت إلى بطرس بمعزلٍ عن باقي الرسل، لأنّ يسوع المسيح أعطاه للجميع في الوقت عينه، وبوضعه العبارات نفسها التي استخدمها في وعده لبطرس (متّى 18: 18)؛ إضافة إلى ذلك، لقد وعد جميع الرسل وليس بطرس فحسب، بأن يكون معهم إلى انقضاء الدهر.
يقول القدّيس متّى إنّ يسوع يتوجّه لرسله قائلًا: «دفع إليّ كلّ سلطانٍ في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدهر» (متّى 28: 18-20).
نقرأ عند القدّيس يوحنّا: «كما أرسلني الآب أرسلكم أنا. ولمّا قال هذا نفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تُغفر له. ومن أمسكتم خطاياه أُمسكت» (يو 20: 21-23).
بالتأكيد، أعطى يسوعُ المسيح رسلَه الامتيازات التي وعد بها بطرسَ. الوعد الموجّه إلى بطرس كان موجّهًا إلى كلّ الرعاة، ما يبرهن أنّ يسوع المسيح لم يُكلّم بطرس إلاّ كممثّلٍ لزملائه، كونه الصورة التي تمثّل كلّ الجسم الرسوليّ (كلّ مجمع الرسل)[3].
لكن ألا نستنتج ممّا توجّه به يسوع المسيح إلى بطرس بمفرده بطريقةٍ علنيّة، أنّه أعطاه امتيازات بطريقةٍ مميّزة ومتفوّقة؟
يجب ملاحظة أنّنا لا نرى في الإنجيل الذي حقّقه المسيح، أنّه أعطى هذا الوعد إلى القدّيس بطرس بمفرده. لم يتلقّ بطرس هذا الإمتياز بمعزل عن باقي الرسل. ومع ذلك، إذا كان ذلك من أهداف يسوع المسيح، أن يكون لكنيسته رئيسٌ أعلى، لكان يجب أن يُذكر في مكانٍ معيّنٍ في الكتاب المقدّس عن الموقف الذي فيه أعلن يسوع المسيح هذا «الرأس الأعلى» الذي يملك الإمتيازات المتفوّقة. نرى، على العكس، أنّ المساعدة الخاصّة لحفظ الحقيقة المكشوفة وأيضًا «امتياز المفاتيح» لم يُعطوا لبطرس إلاّ بحضور شركائه في الرسوليّة (كلّ مجمع الرسل).
لم يعرف القدّيس بولس، أكثر من الإنجيليين، الإمتيازات التي قد أعطيت لبطرس. إضافةً إلى النصوص التي ذكرناها، نقرأ في رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية (غلا 6: 7-9)، أنّ بولس ينسب لنفسه، بين الأمم، الإمتياز نفسه الذي لبطرس بين اليهود، وأنّه لم ينظر لبطرس كأعلى من يعقوب ويوحنّا، الذين يسميّهم مع نفسه «أعمدةً للكنيسة». يسمّي حتّى يعقوب أسقف أورشليم قبل بطرس عندما يعطيهم لقب «أعمدة الكنيسة». لم يكن يؤمن كثيرًا بسلطة بطرس، وواجَهَهُ وقال إنّه ملامٌ (غلا 2: 11).
عندما اجتمع الرسل في أورشليم، لم يتكلّم بطرس في المجمع إلاّ كأحد الأعضاء، ولم يكن الأوّل في الكلام ولكن بعد عدد من الرسل. اعتقد أنّه كان مجبرًا أن يتخلّى علنًا وبحضور باقي الرسل، الشيوخ والمؤمنين، عن فكرته بضرورة الختان والاحتفالات اليهوديّة[4]. لخّص يعقوب، أسقف أورشليم، المناقشة وأصدر القرار الذي تمّ اعتماده، وتصرّف كمتقدّمٍ حقيقيّ للمجموعة (أع 15: 7 ...).
لم يعتبر أبدًا الرسلُ القدّيسَ بطرس كصخرة أساسيّة للكنيسة. لذلك، التفسير البابويّ لهذا النصّ الشهير: «أنت بطرس» هو أيضًا عكس الكتاب المقدّس بقدر ما هو عكس التقليد الكاثوليكيّ.
لا نرى أيّ اعتراضٍ جدّيٍ على الطريقة التي سمعناها. ينبع تحليلنا بالضرورة من مقارنة مختلف النصوص المتعلّقة بالموضوع ذاته. من وجهة النظر الكاثوليكيّة أو التقليديّة، يقدّم هذا التحليل كلّ الضمانات؛ أخيرًا لا يمكن للنصّ بحدّ ذاته أن يتلقّى شرعيّة أخرى. نستنتج، من القراءة البسيطة لهذا النصّ، أنّ هدف المخلّص الأساسيّ، كان أن يركّز حوله وحول مهمّته المقدّسة كلّ انتباه رسله؛ ألوهيّته هي الفكرة التي تتعلّق بها أسئلته وجواب بطرس. يجب إذًا أن تتعلّق الخلاصة بهذه الفكرة. لا يمكننا أن نطبّق على بطرس الرسول «رئيس الكنيسة»، من دون الأخذ بعين الاعتبار كلام يسوع المسيح عن ألوهيّته، فنستنتج منها السلطة البابويّة التي هي فكرة مختلفة كليًا.
لنرى الآن إذا كانت النصوص الأخرى المذكورة من اللاهوتيين الغربيين لصالح السلطة البابويّة تؤكّد أنّ يسوع المسيح أسّس حقًا هذه السلطة في كنيسته.
يعتمدون على هذا المقطع من الإنجيل بحسب القدّيس لوقا: «وقال الربُّ سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة. ولكنّي طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك. وأنت متى رجعت ثبّت إخوتك» (لو 22: 31-32)[5].
يتوّجه يسوع المسيح إلى الرسل بشخص سمعان المسمّى بطرس. يقول إنّ الشيطان طلب الإذن ليغربلهم، ما يعني أن يُخضع إيمانهم لإختباراتٍ شديدة. يجب ملاحظة عبارة "أنتم" في النصّ، في الفرنسيّة «vous» وفي اللاتينيّة «vos» وفي اليونانيّة «υμάς». لم يحصل الشيطان على الإذن لطلبه. لن يفقدَ الرسلُ الإيمانَ بوجود التجارب التي ستجعلهم يختبرون المعاناة والموت المخزي لسيّدهم؛ بطرس بمفرده وكعقاب على افتراضه (أفكاره المسبقة) سوف يستسلم وسوف ينكر معلّمه ثلاث مرّات. ولكن بفضل صلاة مميّزة من المخلّص سيعود عن خطيئته، وسيكون عليه واجبٌ أمام إخوانه المتعثرين بسبب سقوطه، لتقويتهم وأن يصلح بحماسه وإيمانه الخطأ الذي ارتكبه.
نحن حقًا لا نفهم كيف استخدم البابوات هذا المقطع للقدّيس لوقا لتأسيس نظامهم. يجب ملاحظة أنّ الكلام المذكور هو موجّه من يسوع المسيح إلى القدّيس بطرس في اليوم نفسه الذي سينكره فيه، وأنّها لا تحتوي إلاّ على التنبؤّ بسقوطه. هكذا فَهِمَ القدّيسُ بطرس ما قاله له يسوع، لأنّه أجاب فورًا: «يا ربّ إنّي مستعدّ أن أمضي معك حتّى إلى السجن وإلى الموت». لكن يسوع أضاف: «يا بطرس لا يصيح الديك اليوم قبل أن تنكر ثلاث مرّات أنّك تعرفني» (لو 22: 33-34).
سيثبّت الإنجيل بحسب لوقا زعزعة إيمان القدّيس بطرس أكثر من صلابته. من باب أولى، لا يمكننا أن نستنتج/نستخلص أيّة نتيجة لصالح تفوّقه العقائديّ أو السلطويّ.
أيضًا، لم يعتقد أبدًا آباء الكنيسة وأفضل مترجمي الكتب المقدّسة بإعطائه شرحًا كهذا. بصرف النظر عن البابوات الحديثين ومؤيديهم الذين يريدون الحصول بأيّ ثمن على أدلّة جيّدة أو سيّئة، لم يرَ أحدٌ في العبارات المذكورة أعلاه إلاّ إنذارًا معطى لبطرس بإصلاح، عبر إيمانه، فضيحة سقوطه ولتقوية باقي الرسل التي لم تستطع هذه الفضيحة إلاّ هزّهم[6]. ينبع واجب التقوية من هذه الفضيحة؛ عبارة «تثبيت الإخوة» ليست إلاّ نتيجة عبارة «يغربل». إذا أردنا أن نعطي العبارة الأولى معنى عامًا لماذا لا نعطيه للثانية أيضًا؟ سينتج إذًا: إذا ورث أتباع بطرس الإمتياز أن يثبّتوا الإخوة بالإيمان، كانوا سيرثون أيضًا الحاجة إلى التوبة بعد نكران الربّ يسوع؛ لا نرى ماذا يمكن أن تربح السلطة البابويّة.
كان البابوات الذين وجدوا دليلاً واحدًا يدعم إدعاءاتهم في الآيات 31 و32 من الإصحاح الثاني والعشرين عند الإنجيليّ لوقا، حريصين جيدًا على عدم ذكر الآيات السابقة.
يخبر الإنجيليُّ بأنّ نقاشًا نشأ بين الرسل لمعرفة من منهم يجب أن يُعتبر الأكبر (الأوّل). الكلمات الشهيرة: «أنت بطرس» كانت قد نُطق بها، وهذا يؤكّد أنّ الرسل لم يفهموها أبدًا كما فهمها البابوات المعاصرون. في الليل الذي سبق موت يسوع المسيح، تجاهلوا أنّه اختار بطرس ليكون الأوّل بينهم والصخرة الأساسيّة للكنيسة. يتدخّل يسوع المسيح في النقاش، فكانت بالنسبة له فرصةً مميّزة ليرفع سلطة بطرس؛ كان الوقت ليفعل ذلك بما أنه كان ذاهبًا للموت. هل فعلها؟ ليس فقط أنّ المخلّص لم يعترف بالامتياز الذي وعد به بطرسَ، لكنّه أعطى رسله درسًا معاكسًا كليًا، قائلاً: «ملوك الأمم يسودونهم والمتسلّطون عليهم يدعون محسنين. وأمّأ أنتم فليس هكذا. بل الكبير فيكم ليكن كالأصغر. والمتقدّم كالخادم» (لو 22: 25-26).
إذا قاربنا نصّ الإنجيليّ بحسب لوقا من النصّ الإنجيليّ بحسب متّى، نجد أنّ النقاش المقام بين الرسل حدث نتيجة طلب أمّ الرسولين يعقوب ويوحنّا من يسوع المسيح لمصلحة أبنائها إذ التمست لهما المركزين الأولين في ملكوته. لم يجاوب يسوع المسيح إطلاقًا أنّ المركز الأوّل قد أعطاه لبطرس. كانت لتكون هذه الإجابة طبيعيّة وحتى ضروريّة، لو أنّ القدّيس بطرس تمتّع بالفعل بسطلة متفوّقة. كان الرسل العشرة الآخرون مغتاظين من الطلب الطموح الذي قام به يعقوب ويوحنّا بواسطة أمّهم؛ أثاروا فيما بينهم مسألة التفوّق؛ فأعطاهم إذًا يسوع المسيح الدرس التي تحدّثنا عنه والذي يسبق فورًا النصّ الذي يدّعي اللاهوتيون الغربيون اعتماده لتقوية نظامهم (متّى 20: 20-28).
يمكننا تقدير، من خلال السياق، قيمة أدلّتهم المزعومة.
يذكرون أيضًا لمصلحتهم هذا النصّ من الإنجيل بحسب القدّيس يوحنّا:
«فبعد ما تغدّوا قال يسوع لسمعان بطرس يا سمعان بن يونا أتحبّني أكثر من هؤلاء. قال نعم يا ربّ أنت تعلم أنّي أحبّك. قال له ارعَ خرافي. قال له ثانيةً يا سمعان بن يونا أتحبّني. قال له نعم يا ربّ أنت تعلم أنّي أحبّك. قال له ارعَ غنمي. قال له ثالثةً يا سمعان بن يونا أتحبّني. فحزن بطرس لأنّه قال له ثالثةً أتحبّني فقال له يا ربّ أنت تعلم كلّ شيءٍ. أنت تعرف أنّي أحبّك. قال له يسوع ارعَ غنمي» (يو 21: 15-17).
يحلّل اللاهوتيّون الغربيون من خلال هذا النصّ:
أعطى يسوعُ المسيح القدّيسَ بطرس، بطريقةٍ عامّةٍ، رعايةَ الحملان والأغنام، إلاّ أنّ الحملان هم المؤمنون والأغنام هم الأساقفة؛ إذًا بطرس، وبشخصه خلفائه، تلقّوا سلطةً فائقةً على الأساقفة وعلى المؤمنين.
لكي يكون هذا التحليل صحيحًا، يجب برهنة: أولاً أنّ المهمّة الموكلة إلى بطرس لم تُعطَ أيضًا إلى باقي أساقفة الكنيسة، وثانيًا أنّ الحملان هم المؤمنون والأغنام هم الأساقفة.
إلاّ أنّ القدّيس بطرس يعلّمنا بنفسه أنّ جميع أساقفة الكنيسة تلقّوا مهمّة رعاية قطيع السيّد. لقد ذكرنا المقطع الوارد في رسالته الأولى الذي فيها يقول إلى جميع الذين كانوا رؤساء كنائس : «ارعوا رعيّة الله التي بينكم نظّارًا لا عن اضطرارٍ بل بالإختيار ولا لربحٍ قبيح بل بنشاط» (1 بط 5: 2).
ألا تعني العظمة التي بها أعطى يسوع المسيح هذه المهمّة لبطرس أنّه امتلكها بطريقةٍ فوقيّة؟ لا شيء يبرهن ذلك. لم يرَ أباء الكنيسة والمعلّقون الأكثر معرفة، في الشهادة الثلاثيّة للمحبّة التي طلبها يسوع المسيح من بطرس إلاّ تعويض (توبة) لإنكاره المسيح ثلاثًا. لم يرَ بطرسُ بنفسه شيئًا آخر لأنّه كان حزينًا. لو فهم بطرسُ أنّ يسوعَ المسيح أعطاه امتيازات متفوّقة، كان الأجدر به أن يكون سعيدًا من أن يكون حزينًا بالكلمات التي وجّهت إليه، لكنّه كان مقتنعًا بأنّ المخلّص طلب منه إعلانًا ثلاثيًا أمام الجميع بإخلاصه قبل إعادته إلى رعاة قطيعه، لأنّه سمح بالشكوك (المبرّرة) عند إنكاره سيّده. ما من داعٍ ليسوع المسيح ليتوجّه لغير بطرس لأنّه كان المذنب الوحيد في هذه الجريمة.
هل تشير الآن الحملان إلى المؤمنين والخراف إلى الأساقفة؟ هذا الشرح هو تعسفيّ تمامًا. لا نجد شيئًا في التقليد الكاثوليكيّ يستطيع تأكيده، بل على العكس، إنّ التقليد يعارضها رسميًا، ومن المستحيل أن نذكر أبًا من آباء الكنيسة يدعم هذا التفسير. بالإضافة هذا التفسير ليس مطابقًا للكتاب المقدّس. يتمّ استخدام كلمات «حملان» و«خراف» دون التفرقة في ما بينهم في الكتب المقدّسة للإشارة إلى الشيء نفسه.
هكذا نقرأ عند الإنجيليّ متّى: «ها أنا أرسلكم كغنمٍ في وسط ذئاب» (متّى 10: 16)، وعند الإنجيليّ لوقا: «اذهبوا. ها أنا أرسلكم كمثل حملان بين ذئاب» (لوقا 10: 3). تدلّ كلمة «خراف» في الكتاب المقدّس على المؤمنين. نقرأ أيضًا في سفر حزقيال النبيّ: «فتشتّت بلا راعٍ» (حز 34: 5). يعطي يسوع المسيح تسمية «خراف» إلى المؤمنين: «ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة» (يو 10: 16). يتوجّه القدّيس بطرس بالكلام إلى مؤمني بنطس وغلاطية وكبدوكية وآسيا وبيثينية قائلاً: «كنتم كخرافٍ ضالّة لكنّكم رجعتم الآن إلى راعي نفوسكم وأسقفها» (1 بط 2: 25). لا يمكننا أن نبني ولا أن نعطي معنى مختلفًا للكلمات «خرفان» و«حملان»، ولا أن نفسّر كلمة «خرفان» بمعنى أساقفة.
إذا أردنا أن نعطي العبارتين معنى مختلفًا، ألن يكون طبيعيًا أكثر أن نفهم «حملان» بـ«المؤمنين الشباب» الذين يحتاجون إلى مزيد من الرعاية، و«خراف» بـ«أولئك الذين بلغوا سنّ النضوج»، بحسب الإيمان؟
الشرح البابويّ لعبارتي حملان وخراف لا أساس له مطلقًا، حتّى إنّ معلّقًا على الأناجيل لا يمكن أن يشكّ فيه اللاهوتيون الغربيون يقول: لا داعي لنجادل بمهارة لكي نعرف لماذا يسوع المسيح استخدم كلمة «حملان» بدلاً من كلمة «خراف». والذي يريد فعل ذلك عليه التركيز بانتباهٍ كبير أنّها تثير فيه الاستهزاء بالرجال المتعلّمين، لأنّه ممّا لا جدال فيه أنّ ما يسمّيهم يسوع «حملان» هم نفسهم الذين يسمّهم «خراف» (في شرحه الإصحاح 21 من الإنجيل بحسب يوحنّا صفحة 30).
إذًا لم يعيّن القدّيسَ بطرس لا الصخرة الأساسيّة للكنيسة، ولا الأسقف الأسمى.
لا يمكننا إنكار أنّ ثمّة أولويّةً مُنحت لهذا الرسول. بالرغم من عدم كونه الأوّل، حسب التاريخ، بين التلاميذ الذين اختارهم يسوع المسيح رسلاً، سُمّي أولاً من قبل القدّيس متّى: هذا الإنجيليّ الذي أراد أن يسميّ الرسل الإثني عشر، عبّر هكذا: «سمعان الذي يقال له بطرس وأندراوس أخوه ...» (متّى 10: 2- 4). يسمّي أيضًا القدّيسان لوقا ومرقس القدّيسَ بطرس الأوّل مع أنّهم لا يتبعون الترتيب عينه في تسمية باقي الرسل (لو 6: 13- 16؛ مر 3: 16- 19). في عدّة مناسبات، يعطي يسوعُ المسيح بطرسَ علامات لإعتبارات خاصّة؛ بالمقابل «لقب بطرس» دون الأهميّة التي يرفقها به اللاهوتيون الغربيون، لم يعطَ له إلاّ للإشارة على صلابة إيمانه وبهدف تكريمه. كان بطرس عادةً الأوّل الذي يأخذ المبادرة ويسأل يسوع المسيح والأوّل الذي يجاوبه باسم الرسل. يستخدم الإنجيليون هذه العبارة: «بطرس والذين كانوا معه» للدلالة إلى الجسم الرسوليّ (مر 1: 36؛ لو 8: 45؛ لو 9: 32). هل يمكن أن نستنتج من هذه الحقائق، أنّ يسوعَ المسيح منح القدّيسَ بطرس، فوق كلّ الرسل أولويًة في السلطة في المجتمع الكنسيّ؟ هذه النتيجة غير منطقيّة: يمكننا أن نكون «الأوّل» في جسم ما دون الحاجة «للسلطة»؛ يمكننا أن نكون، كما يُقال «الأوّل بين المتساويين»[7]. لا يسمّى دائمًا القدّيس بطرس أولاً في الكتب المقدّسة، إذ إنّ القدّيس يوحنّا يسمّي أندراوس قبله (يو 1: 44)؛ يسمّيه القدّيس بولس بعد يعقوب (غلا 2: 9)؛ يسمّيه أيضًا حتّى بعد باقي الرسل وإخوة الربّ (1 كو 4: 5). «لم يكن، إذًا، بطرسُ أولاً بين الرسل إلاّ كما كان استفانوس بين الشمامسة» (خطبة 316 للمغبوط أوغسطينوس). يتوافق أوريجنّس (حول القدّيس يوحنّا) والقدّيس كبريانوس (رسالته الـ71 إلى كوينتوس) والمغبوط أوغسطينوس. يمكننا التأكيد أنّه لم يرَ أيّ أحدٍ من الأباء في أولويّة بطرس لقبًا للسلطة في المجتمع الكنسيّ. لم يكن باستطاعتهم استخلاص هذه النتيجة دون مناقضة الكتاب المقّدس نفسه.
منعَ يسوعُ المسيح رسلَه أن يأخذوا ألقاب «سيّد وحكيم وأب وبابا»؛ كلماته أساسيّة: «وأمّا أنتم فلا تُدعَوا سيّدي لأنّ معلّمكم واحدٌ المسيح وأنتم جميعًا إخوة. ولا تَدعوا لكم أبًا على الأرض لأنّ أباكم واحدٌ الذي في السموات. ولا تُدعَوا معلّمين لأنّ معلّمكم واحدٌ المسيح. وأكبركم يكون خادمًا لكم» (متّى 23: 8- 11).
لنقارن كلمات الإنجيل بما يفسّرها اللاهوتيون الغربيون حول امتيازات أسقف روما، وسنرى حتمًا أنّ هؤلاء اللاهوتيين هم خارج الحقيقة.
يخبرنا القدّيس متّى أنّ بطرسَ وفي حديثه مع يسوع المسيح ذاكرًا امتيازات الرسل، يجاوبه يسوع: «الحقّ أقول لكم إنّكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسيّ مجده تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر كرسيًّا تدينون اسباط إسرائيل الاثني عشر» (متّى 19: 28؛ لوقا 22: 30).
لو كان ينوي يسوع المسيح أن يخصّص لبطرسَ مركزًا أعلى من باقي الرسل، لو منحه قوّة متفوّقة، هل كان ليقول لبطرس بنفسه، إنّ الرسل الإثني عشر سيجلسون على اثني عشر كرسيًّا، دون تفرقة؟
خلاصة كلّ هذا أنّ داخل الكنيسة لا يوجد غير معلّم واحد، ربّ واحد، راع اسمى واحد.
«أنا هو الراعي الصالح» (يو 10: 11)؛ «لأنّ معلّمكم واحدٌ المسيح» (متّى 23: 10). يجلس بمفرده على عرش مجده، في المدينة المقدّسة، «وسور المدينة كان له اثنا عشر أساسًا وعليها أسماءُ رسل الخروف الإثني عشر» (رؤيا 21: 14)، الرعاة الأوائل (الرسل) جالسون على كراسيهم يدينون قبائل شعب الله الجديد. إذا نشأت خلافات التي لا يمكننا تهدئتها بالصدق، يجب حلّها في مجمعهم، لا المجمع الممثّل بشخصٍ واحد بل بالكنسية كلّها الممثّلة من قبل أولئك الذين عيّنوا لإدارتها.
لا نجد شيئًا إذًا في كتابات العهد الجديد مؤاتيًا، حتّى من بعيد، للسلطة السياديّة التي يمنحها اللاهوتيون الغربيون للقدّيس بطرس وأساقفة روما الذين يعتبرونهم خلفاءَه.
يمكننا أن نقولَ إنّ هذه السلطة مدانة رسميًا. لقد ذكرنا في ما سبق كلمات رسميّة جدًا ليسوع المسيح. يحمل كتابُ أعمال الرسل والرسائل حقائق تبرهن بوضوح أنّ القدّيس بطرس لا يتمتّع بأيّ أفضليّة (فوقيّة) في المجمع الرسوليّ. نقرأ في الواقع في أعمال الرسل: «ولما سمع الرسل الذين في أورشليم أنّ السامرة قد قبلت كلمة الله أرسلوا إليهم بطرس ويوحنا» (أع 8: 14)، إذًا كان بطرس يخضع ليس فقط للمجمع الرسوليّ ضمن جماعته بل إلى العديد من الرسل العاقدين اجتماعًا في أورشليم بما أنه تلقّى مهمّة منهم. نقرأ في الكتاب عينه (أع 11: 2-3) أنّ المؤمنين المختونين لاموا بطرس لذهابه إلى غير المؤمنين، وأنّ بطرس اعتذر وقال إنّه طاع أمرًا محدّدًا من الله. هل هكذا نتعامل مع رئيس سياديّ وهل تكون ردّة فعل الرئيس هكذا؟ لم يترأّس أبدًا بطرسُ في مجمع أورشليم (أع 15: 7...)؛ إنّ يعقوبَ كان من تفوّه بكلمة «أحكم». لم يتكلّم بطرس إلاّ في دوره، مثل عضو بسيط؛ بينما تكون الرئاسةُ حقَّه لو كان رئيسًا مكلّلاً بالسيادة على كلّ المجمع الرسوليّ. ينكر بولسُ الرّسول أسبقيّة بطرس (غلا 2: 7-8-9-14)، ويؤكّد بأنّه مساوٍ له، يضعه بعد يعقوب، ويقول إنّه وبّخه لأنّه لم يكن يسلك باستقامة حسب حقّ الإنجيل. ينكرها أيضًا (1 كو 3: 4-5) عندما يؤكّد رسميًا أنّ بطرس ليس ببساطة إلاّ رسولاً، مثله، مثل أبّولوس وأنّه لا يجب التعلّق بأحد أو بالآخر كمعلّم لكن فقط بيسوع المسيح. ينكر، أخيرًا، بطرسُ بنفسه الأسبقيّة التي أرادوا مكافأته بها، لأنّه بتوجّهه إلى رعاة الكنائس التي أسّسها لا يتكلّم عن نفسه إلاّ كزميلهم (1 بط 5: 1).
ولد رينيه-فرنسوا غوتيه في الأوّل من شهر كانون الأوّل عام 1816 في بلوا (مدينة تقع على تلّة نهر لوار في وسط فرنسا). منذ المدرسة الثانويّة كان لديه شغف في الكتب التاريخيّة الأكثر جفافًا التي فنّدها حرفيًا. عام 1839، سيمَ كاهنًا. عيّن كاهنًا في قرية Saint-Aignan-sur-Cher الصغيرة، ومن ثمّ في Fresnes في Loit-et-Cher حيث أسّس مدرسةً صغيرةً. بالرغم من صعوبة الحياة وفقرها، صمّم على بحثٍ في تاريخ كنيسة فرنسا. ردّ غوتيه دون تنازل ضدّ بعض الأساقفة في فرنسان معتبرًا بأنّه ليس مجبرًا بالاعتراف بعصمة البابا، إذ هو يعترف فقط بعصمة الكنيسة الجامعة. كانت حياة غوتيه إذًا في باريس حياة كاهن برّئوا منه دون أن يُدان بالكامل، كان مضطهدًا دون أن يُذكر اسم هرطقته. تأسّست مجلّة L’observateur Catholique، الموجّهة والمكتوبة لمدّة اثنتي عشر عامًا عبر غوتيه، عام 1855 لتتصدّى ضدّ عقيدة الحبل بلا دنس الجديدة. وفي هذه المجلّة بدأ غوتيه عمله العظيم في إعادة قراءة النصوص الآبائيّة. كان غوتيه محظوظًا بلقائه الكاهن الأرثوذكسيّ Joseph Wassilieff، كونه مشترك في مجلّة L’Observateur Catholique، ويعلم بأبحاثه حول البابويّة وآباء الكنيسة . حثّه الأب Wassilieff ليصبح أرثوذكسيًا، وبسرعةٍ تمّ النظر بمشروع مجلّة أرثوذكسيّة L’Union Chrétienne والتي ستكمّل إيجابيًا L’Observateur Catholique. بعد وقت قليل من تأسيس L’Union Chrétienne، التقى غوتيه في باريس ليونديوس أسقف Novgorod: وبعد عدّة أشهر أصبح أرثوذكسيًا. ومنذ ذلك الحين أصبحت حياة فلاديمر غوتيه بكاملها مكرّسة للدفاع عن الأرثوذكسيّة. كتب إذًا كتابين كبيرين La Papauté Schismatique (البابويّة المنشقّة) وLa Papauté Hérétique (البابويّة الهرطوقيّة)، آخذًا بعين الإعتبار المجامع المسكونيّة وعقائد الآباء، كما هي معترف بها دائمًا في الكنائس الأرثوذكسيّة. ذهب سنة 1865 إلى روسيا واكتشف بلدًا متجذرًا في الإيمان الأرثوذكسيّ. بعد فترة وجيزة من هذه الرحلة بدأ غوتيه، مُشجعًا من المجمع الروسيّ المقدّس، عمله الأكبر في حياته: L’Histoire de l’Eglise (تاريخ الكنيسة)، في سبعة أجزاء (من أصل عشرة كان مخططًا لها). رقد في 10/22 آذار 1892. أعيد جسده إلى فرنسا حيث أقيمت خدمة الجنازة في الكنيسة الروسيّة.
[1] - لونوي (Launoy)، دكتور في جامعة السوربون، لديه عدد كبير من الأعمال اللاهوتيّة، التي لا يمكن لأحد أن يتحدى معرفته العميقة، فحص التقليد الكاثوليكيّ المتعلّق بهذه المسألة. برهن عبر نصوص واضحة وأصليّة بأنّ عددًا قليلاً جدًا من الآباء طبّقوا على القدّيس بطرس لقبَ «الضخرة» التي ستبنى عليه الكنيسة؛ أمّا معظم الآباء لم يطبّقوا هذا المفهوم عليه، وسمعوا كلام يسوع المسيح بطريقة مختلفة كليًا. يمكننا أن نعاين مجموعة رسائله التي توازي أهميّةً مجموعة معاهدات عَاِلم من الدرجة الأولى.
[2] - من بين الأباء الذين أعطوا هذا الشرح لهذا النص المشهور «أنت بطرس» نسميّ: القدّيس هيلاريون أسقف بواتييه كتاب 6 والقدّيس غريغوريوس النيصصيّ والقدّيس أمبروسيوس في كتابه السادس حول الإصحاح التاسع للقدّيس لوقا وحول الإصحاح الثاني من الرسالة إلى أهل أفسس والقدّيس يرونيموس في شرحه متى 16: 18؛ والقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم في عظته الـ 55 والـ83 حول القدّيس متى، والإصحاح الأوّل من الرسالة إلى أهل غلاطية؛ والقدّيس أوغسطينوس في المعاهدة 7 و123 حول القدّيس يوحنّا والخطبة 13 حول كلام السيّد المأخوذ من القدّيس متّى؛ أكاس العظة في مجمع أفسس؛ القدّيس كيرلّس الإسكندريّ، الكتاب 4 حول إشعياء، الكتاب 4 للثالوث؛ القدّيس لاون الأوّل الخطبة 2 و3 في الإرتقاء إلى الأسقفيّة، الخطبة حول التجلّي، الخطبة 2 حول ميلاد الرسل بطرس وبولس؛ القدّيس غريغوريوس الكبير كتابه 3 الفصل 33؛ القدّيس يوحنّا الدمشقيّ حديث حول التجلّي.
[3] - بهذه الطريقة فسّر هذا النصّ: أوريجانّس، حول القدّيس متّى؛ القدّيس كبريانوس، من وحدة الكنيسة؛ القدّيس أوغسطينوس، المعاهدة 50 و118 حول القدّيس يوحنّا؛ العظة 205 حول ميلاد الرسل بطرس وبولس؛ القدّيس أمبروسيوس، حول المزمور 38؛ القدّيس باسيان، الرسالة 3 إلى سامبرونيوس.
[4] - قد يكون هذا الرأي غير دقيق، ولكن على الأغلب يشير إلى ما حدث بين بطرس وبولس في موضوع اليهود. قد يكون الكاتب ذكر هذه الفكرة استنادًا إلى توبيخ بولس لبطرس في رسالة غلاطية عن عمل بطرس الذي سمّاه «رياءهم» (غلا 2: 13) حين أخذ موقفًا مع اليهود وابتعد عن المائدة المشتركة مع الوثنيين المهتدين إلى المسيحيّة خوفًا من اليهود المتهودين. (ملاحظة المعرّب)
[5]- « Simon, Simon, Satan a demandé à vous cribler, comme on crible le froment ; mais j’ai prié pour toi, afin que ta foi ne défaille point : lors donc que tu seras converti, fortifie tes frères » (Luc 22 : 31-32)
[6] - لا نجد قبل القرن التاسع أحدًا من الأباء أو من الكتّاب الكنسيين اعترف بشرح وتفسير يعطي سلطة دينيّة وشرعيّة مطلقة للبابا.
[7] - Primus inter pares, premier entre égaux.