المتقدِّم في الكهنة ثيوذوروس زيسيس
تعريب: شادي مخّول، نديم سلّوم
في هذا الأحد الواقع بين 13/26 تموز و 19 تموز/1 آب، تُقيم الكنيسة الأرثوذكسيَّة تذكار آباء المجامع المسكونيَّة الستَّة الأولى الذين عملوا بمحبَّةٍ وجُهدٍ كبيرَين ليَحفظوا حقيقة يسوع المسيح الإله-الإنسان، من أجل خلاصنا. يرتبطُ اللاهوت الحقيقيّ بشكلٍ وثيق بالممارسة الحقيقيَّة وبالروحانيَّة، ويغتذي منهما. تاليًا، هو مرتبطٌ بشكلٍ وثيق بسعينا المستمرّ للكمال في المسيح. تُقبَل تحديدات المجامع المسكونيَّة كشهاداتٍ معصومةٍ وحصينةٍ للتقليد الأرثوذكسيّ.
مع ذلك، هناك من يسعى اليوم لأن يقلِّل من أهميَّة هذه المجامع وأهميَّة الآباء المعايني الله الذين عملوا فيها، وأن يحوِّروها بغية "اتِّحاد" كنيسة المسيح الحقيقيَّة مع أجسامٍ أُخرى غير أرثوذكسيَّة.
ينتفض ضدَّ هذا التيار المتقدِّم في الكهنة ثيوذوروس زيسيس، البروفسور الفخريّ في معهد اللاهوت في جامعة أرسطو – تسالونيكي، كمدافعٍ قويٍّ عن التقليد الآبائيّ للكنيسة الأرثوذكسيَّة متكلِّمًا بالحقِّ في المحبَّة. ويسعى أن يقدِّم لمتابعيه لاهوتًا آبائيًّا سليمًا بطريقةٍ واضحةٍ وعمليَّة. يمكن الاطِّلاع على سيرة الأب ثيوذوروس الذاتيَّة عبر الرابط التالي http://impantokratoros.org.
نورد أدناه نموذجًا من الأب ثيوذوروس موجَّه بشكلٍ خاص إلى الحركة المسكونيَّة المنتشرة بين بعض أعضاء الكنيسة الأرثوذكسيَّة واللاخلقيدونيين، خاصةً بسبب سوء استخدامهم للاهوت المجامع المسكونيَّة ولاهوت النجم الساطع القديس يوحنا الدمشقيّ.
1. التقييم العام للحوار:
من المتعارف عليه أنَّه من بين الحوارات التي تُجريها الكنيسة الأرثوذكسيَّة الجامعة مع المبتدعين (heterodox) نجد الحوار مع المونوفيزيين أو "اللاخلقيدونيين" أو "ما قبل خلقيدونيا" أو "الشرقيّين القدامى"، أو كما دعيوا مؤخَّرًا -بما لا يوافق التقليد- "الأرثوذكسيين الشرقيّين". انتهى هذا الحوار، على مستوى اللجنة اللاهوتيَّة المشتركة التي كانت تديره، باتِّفاقٍ يتَّضح منه أن ما من شيءٍ يفرِّقنا إيمانيًّا، وأنَّ الاختلافات الملاحَظة حتى الآن هي نتيجة لسوء فهم وسوء تفسير المصطلحات اللاهوتيَّة التي يفهمها الخبراء اللاهوتيون الآن بشكلٍ أفضل من الآباء القديسين، وأنَّ الانفصال الأساسيّ للاخلقيدونيين عن الكنيسة لم يكن لأسبابٍ لاهوتيَّة بل سياسيَّة.
هذه الصورة المشوَّهة سادت من بداية المناقشات في كلٍّ من المؤتمرات الأربعة غير الرسميَّة بين الأرثوذكسيين واللاخلقيدونيين التي عُقِدَت – كما تجدر الملاحظة – بمبادرة من مجلس الكنائس العالميّ، وفي الاجتماعات الرسميَّة للّجنة الأرثوذكسيَّة بما يخصّ هذا الحوار والمؤتمرات بعد اللجنة المشتركة. خاصةً، أنَّه وُجد أشخاصٌ، أعضاء في الحوار وممثلون للكنائس، اعتقدوا أنَّ "أرثوذكسيَّة" اللاخلقيدونيين غير قابلة للجدال وفوق كلِّ نقاش، وتاليًا لا لزوم للحوار اللاهوتي، لأنَّه يجعل الأمور أكثر تعقيدًا. لقد حافظوا على هذه النقاط واقترحوا أنَّه على الكنائس أن تمضي قدمًا نحو إعلانٍ بسيطٍ للوحدة، لأنَّ خمسة عشر قرنًا من التباعد كانوا بدون مبرِّر. بناءً على هذا الأساس، لقد كانت الكنيسة على خطأ على مدى هذه القرون، ليس فقط مئاتٌ من الآباء القديسين العظماء واللامعين والحكماء والمستنرين قد أخطأوا بجهادهم وكتاباتهم ضدَّ المونوفيزيين واليعاقبة الذين لا رأس لهم وأتباع سفيروس...، إنَّما أيضًا العديد من الشيوخ القديسين البسطاء والمستنيرين الذين، بحسب ما تُظهره عدَّة قصص واردة في كتاب سير الآباء الشيوخ، رفضوا حتَّى أن يتكلَّموا مع اللاخلقيدونيين حتى يتخلُّوا عن بدعتهم ويعترفوا بقرارات المجمع المسكونيّ الرابع المنعقد في خلقيدونيا.
بالتأكيد لم يكن لدى الآباء القديسين والشيوخ الجليلين محبَّةً وفهمًا أقلّ من أبطال الوحدة المعاصرين. لقد ارتكز موقفهم على اهتمامٍ رعائيٍّ وتعليميّ، فعلى أولئك الذين انحرفوا أن يُدركوا خطأهم وأن يُقادوا إلى الإيمان الصحيح الذي هو شرطٌ لا غنى عنه للخلاص. الذي يتكلَّم بالحقِّ لديه المحبَّة، حتى ولو تسبَّب بالشقاءِ بدايةً وخلقَ ردَّة فعلٍ، لا الذي يُضلِّل الحقيقة ويتكتَّم عنها آخذًا بعين الاعتبار العلاقات البشريَّة الوقتيَّة لا الحقائق الأبديَّة. هذه المسائل قدّ تمَّ إيضاحها في ضمير الكنيسة. هناك وفاقٌ وسلامٌ خيّرَان وآخَرَان سيّئَان؛ فالسيِّئان هما الوفاق والسلام اللذان يغفلان عن الاختلافات في الإيمان، "فوحدة الإيمان وشركة الروح القدس" وحدها، التي تصلِّي الكنيسة من أجلها يوميًّا، يمكنها أن تؤسِّس سلامًا عميقًا غيرَ متزعزع وتضمنه، لأنَّها ترتكز على وحدةٍ روحيَّةٍ وأسراريَّةٍ. عندما تغيب هذه الوحدة، يكون لدينا وفاقٌ وسلامٌ سيّئَان وكاذبَان يُديمانِ جرح الانفصال والانقسام ويُخفيانه؛ في هذه الحالات "حربٌ حميدةٌ أفضل من سلامٍ يقطع إنسانًا عن الله"[1].
الصورة الزائفة والخياليَّة حول عدم وجود اختلافات في الإيمان مع اللاخلقيدونيين بدأت بالظهور في بداية هذا القرن، لكن تمَّ عرضها بشكلٍ مغرٍ جدًّا وجذَّابٍ في العقود الأخيرة التي كانت خلالها، المدعوَّة بالحركة المسكونيَّة، قد بلغت ذروتها قبل أن كانت قد تعرَّضت لضرباتٍ مدمِّرةٍ لا مفرَّ منها ناتجة عن إحياء الاتِّحاديَّة (على سبيل المثال الروم الكاثوليك) الكاثوليكيَّة وتقويتها، وعن اللاهوت التوفيقيّ الغامض ونسبيَّة البروتستانت، والتي بالنهاية، بعد ظهورها العاري والمكشوف في الاجتماع العام السابع لمجلس الكنائس العالميّ المنعقد في كانبيرا – أستراليا (شباط 1991)، بدأت بإثارة المتاعب للأرثوذكسيين.
على كلِّ حال، ثمرة هذه النسبيَّة والتوفيقيَّة اللاهوتيَّة التي كانوا يحصدونها كانت الصورة المُجَمَّلة لاختلافاتنا مع المونوفيزيين، الذين لم يُدعَوا هكذا من بعد، إنَّما بدايةً دُعيوا بــ"اللاخلقيدونيين"، ثمَّ "ما قبل الخلقيدونيين"، أو "الشرقيين القدماء"، والآن "الأرثوذكسيين" بما أنَّنا هدمنا الحواجز والحدود، على الرَّغم من نصيحة الآباء "ألاَّ ننزع الحدود الأبديَّة التي وضعها آباؤنا"، وسمحنا للمونوفيزيين، الذين كانوا هراطقةً لمدَّة خمسة عشر قرنًا في ضمير الكنيسة، أن يُصبحوا ورثةً للأرثوذكسيَّة، وأن يُدعوا أرثوذكسيين مثلنا دون عودةٍ وتوبة. إنَّ التشوُّش والفوضى اللاهوتيَّة هي حقًّا محيِّرة، كما هو هدم كلِّ الحواجز. إن قرأ أحدٌ ما أو سمعَ، قبل عشر سنواتٍ فقط، مصطلح "اللجنة الأرثوذكسيَّة المشتَرَكة"، أو "الكنائس الأرثوذكسيَّة" لفهم أنَّها لجنة الكنيسة الأرثوذكسيَّة أو الكنائس الأرثوذكسيَّة المحليَّة التابعة للكنيسة الأرثوذكسيَّة الشرقيَّة الجامعة التي تتألَّف من الكنائس الأرثوذكسيَّة المستقلِّة في الشرق، مع كنيسة القسطنطينيَّة التي تحتلُّ المركز الأوَّل. مع ذلك، لم يعد هذا واضحًا الآن؛ بعد عدَّة سنواتٍ من العمل المنظَّم الذي أتمَّه مخطِّطو المسكونيَّة، يمكن أن تحوي "اللجنة الأرثوذكسيَّة المشتَرَكة" لاخلقيدونيين منذ أن كنَّا قد وافقنا على كنائس المونوفيزيت كالأقباط والسريان اليعاقبة والأرمن والأثيوبيّين...، أنَّها مُحصاةٌ الآن ضمن الكنائس الأرثوذكسيَّة الشرقيَّة. قبل البروتستانت، كان البابا هو المعلِّم الأوَّل للتوافق اللاهوتي والكنسي كما يتَّضح في المؤسَّسة الاتِّحاديَّة، حيث يُسمح للمهتَدين بالمحافظة على سماتهم المميَّزة، وحتَّى على هرطقاتهم، والشرط الوحيد هو أن يعترفوا بأوليَّة البابا.
النتيجة الثانية لهذه النسبيَّة اللاهوتيَّة وتدمير حدود الكنيسة كانت ركود الحسّ الكنسيّ والوعي الذاتي للعديد من اللاهوتيين الأرثوذكسيين، خاصةً لأولئك الذين انخرطوا في مجلس الكنائس العالميّ، لكن أيضًا لمن ارتبط بطريقةٍ ما بتلك الروح المسكونيَّة المندفعة التي صُقِلَت على مدى عدَّة عقود. هذا الركود، كثمرة لتحقيقٍ لاهوتيٍّ موضوعيٍّ مُفتَرَض، محميٌّ بأسماء لاهوتيين أرثوذكسيين مسكونيين مرموقين، بدأ تدريجيًّا بمهاجمة اللاهوتيّين المعتَبَرين حتى الآن تقليديين.
يجد المرء أنَّه لمدهشٌ، على سبيل المثال، أن يتمَّ تقييم وتتبُّع موقف اللاهوتيين المشاركين في الحوار، الذين، ارتكازًا على كتاباتهم الخاصَّة، زعموا أنَّ الطريق إلى الوحدة مع اللاخلقيدونيين صعبةٌ وأنَّ الاعتراف بقرارات المجمع المسكونيّ الرابع والقرارات المسكونيَّة الأُخرى هو شرطٌ ضروريٌّ للوحدة، بينما الآن يرحِّبون بالوحدة السهلة والخالية من المشاكل حتَّى دون أن يضعوا شرطًا بالاعتراف بقرارات المجمع المسكونيّ الرابع والقرارات المسكونيَّة الأخرى، بكلِّ بساطةٍ لأنَّه لا يمكن لذلك أن يحصل. كما تمَّ الإعلان عن ذلك من جهة اللاخلقيدونيين في اجتماعٍ غير رسميٍّ في جنيف، بالرُّغم من أنَّ لاهوتيينا يعتقدون أنَّه بإعادة تفسير قرارات المجمع المسكونيّ الرابع سيقنعون اللاخلقيدونيين بقبولها.
غير أنَّها ليست مسألة تفسير، إنَّما تغيير وشقلبة قرارات المجامع المسكونيَّة. على سبيل المثال، أيّ تفسيرٍ سنعطيه للتعريف الإيمانيّ الصادر في المجمع المسكونيّ السابع المنعقد في نيقية، الذي يلخِّص كلّ الإيمان الأرثوذكسيّ ويقول عن المونوفيزيين وقديسيهم ما يلي: "نعترف مع آباء هذا المجمع أنَّ الذي اتَّخَذَ جسدًا من الكليَّة النقاوة والدة الإله الدائمة البتوليَّة مريم هو ذو طبيعتين وأنَّه إلهٌ تام وإنسانٌ تام كما حدَّد ذلك مجمع خلقيدونية طاردًا من القاعة الإلهيَّة إفتيشيوس وديوسقوروس كمجدِّفين وجعل في هذه المنزلة نفسها سفيروس وبطرس وغيرهما الذين كانوا يُجدِّفون بطرقٍ مختلفة"[2].نحن الأرثوذكسيُّون نعتبر أنَّ قرارات المجامع المسكونيَّة هي معصومة، لأنَّه قد تمَّ التوصُّل إليها بوصاية الروح القدس، وتمَّ التعرُّف إليها من ضمير الكنيسة على مرِّ العصور. فهل سنعتدي على مكانة المجامع المسكونيَّة وسُلطَتها بتفسيراتٍ وسفسطاتٍ لاهوتيَّة، وهل سنُحدِثُ انشقاقًا في وحدة الكنيسة الأرثوذكسيَّة الدائمة وجامعيَّتها مُجبرين أرثوذكسيّي القرن العشرين أن يؤمنوا على خلاف أرثوذكسيّي الأجيال السابقة بما يختصُّ باللاخلقيدونيين، خاصَّةً أنَّ هذا الإيمان قد ثُبِّتَ ودُرِّسَ من قبل أشخاصٍ مستنيرين وقديسين؟ ليس اللاهوت بأمرٍ سهلٍ ليتمَكَّنَ أيٌّ كان أن ينظِّرَ ويتشاور به بهدف خلق علاقات شخصيَّة واجتماعيَّة. إن حطَّمتَ أيّ شيءٍ فالبنية كلّها ستتحطَّم. لقد أدرَك الآباء القديسون هذا الأمر جيِّدًا، ولهذا السبب ينصحون الهراطقة بالإقلاع عن الهرطقة وقبول التعليم الأرثوذكسيّ كالسَّبيل الوحيد والطريقة الوحيدة للوحدة. لقد استبعدنا الآن هذه الطريقة مسبَقًا بما أنَّنا قد اعترفنا بهم كأرثوذكسيين ووضعناهم في كنف الكنيسة الأرثوذكسيَّة التي كان آباؤنا القديسون قد طردوهم منها بطريقةٍ إلهيَّةٍ مُلهَمَة لا يشوبها خطأ بقرارات المجامع المسكونيَّة.
2. القديس يوحنا الدمشقيّ واللاخلقيدونيون:
بالحقيقة، ما من أبٍ أو قديسٍ في الكنيسة على مدى تقليد القرون الخمسة عشر، منذ المجمع المسكونيّ الرابع حتى يومنا هذا، يمكن أن يؤمن ويعلِّم أنَّه لا يوجد خلافاتٌ في الإيمان مع اللاخلقيدونيين وأنَّهم في الأساس أرثوذكسيُّون مثلنا. على العكس، هناك العديد من قدّيسي الكنيسة العظماء، بعد مجمع خلقيدونيا، قد حدَّدوا عمق اتِّساع هرطقة اللاخلقيدونيين وعرضها. من بينهم عمالقة اللاهوت وجبابرته، أعمدة الأرثوذكسيَّة، الذين حكمتهم المتنوعة، بغض النَّظر عن استنارة الروح القدس، مدهشةٌ ولا يمكن إنكارها، ومتفوِّقةٌ جدًّا على حكمة أولئك الذين يقودون الحوار اليوم، ويبدو أنَّه لمضحكٌ التحاجُج حول عدم فهمهم لمنطق اللاخلقيدونيين ومواقفهم وأنَّنا نفهمهم أفضل اليوم. إذًا، ألم يفهم كلّ من القدّيس مكسيموس المعترف والقدّيس يوحنا الدمشقيّ والقدّيس فوتيوس الكبير -نذكر فقط هؤلاء الآباء الثلاثة الذين تواجهوا مع اللاخلقيدونيين- هذه المشاكل؟ خبرة الحوارات اللاهوتيَّة المرَّة تقود إلى استنتاج أنَّ تحضيرات أعضاء البعثة الأرثوذكسيَّة لهذا الحوار لم تكن متَّحِدة ومنظَّمة، أو مرتكزة على مصادر الإيمان الأرثوذكسيّ، كنصوص المجامع المسكونيَّة والآباء، إنَّما على مصادر شخصيَّة حسب الأفضليَّات والميول اللاهوتيَّة لكلِّ عضو ترتكز بشكلٍ أساسيٍّ على بياناتٍ معاصرةٍ قد أفسدتها الروح المسكونيَّة. من المؤكَّد أنَّ مواضيع الحوار كانت ستُعالَج بشكلٍ مختلفٍ تمامًا لو قرأ الأعضاء الأرثوذكسيُّون الآباء القديسين-حتى ولو الآباء الثلاثة البارزين الذين ذكرتُهم فقط. يرى المرء في نصوصهم نفس التنازلات والتعديلات من جهة اللاخلقيدونيين كما نراها اليوم، لكن قد تمَّت إدانتها من قِبَل الآباء على أنَّها غير صادقة وتمويه بسيط للمونوفيزيتيَّة طالما أنَّها لا تقود إلى اعترافٍ وتعدادٍ صريحَين لطبيعتَين في المسيح في الشخص الواحد بعد الاتِّحاد، بالتالي هي لا تقود إلى اعترافٍ بالمجمع المسكونيّ الرابع.
الغريب أنَّه بينما يتمّ تجاهل التقليد الآبائيّ بشكلٍ كامل، يتمُّ إعداد منهج كامل جديد والإقدام على استحداث المسائل الإيمانيَّة. من ضمن هذا المقدار الهائل للمواد الآبائيَّة، قد استُشهِدَ بقولٍ للقديس يوحنا الدمشقيّ بشكلٍ سخيف. هذه العبارة، باقتطاعها من سياق النص وبدون أيّ ارتباط مع ما قاله مجرى الذَّهَب أب كنيسة أنطاكية والكنيسة الأرثوذكسيَّة الجامعة في تعامله مع هرطقة اليعاقبة الذين لا رأس لهم، تترك انطباعًا أنَّه يعترف بهم كأرثوذكسيين. اللجوء إلى القدّيس يوحنا الدمشقيّ يلعب دورًا تحفيزيًّا، ويُثير الانطباع بأنَّه باعتباره فم الكنيسة يلخِّص إيمان الكنيسة وأنَّه من كلّ النواحي معلِّمٌ لا يُقاوَم وقاعدةُ الأرثوذكسيَّة. إنَّه لا يُعتَبَر كذلك بكلِّ بساطةٍ، لكنَّه هكذا بالواقع. لهذا السبب، اللجوء إلى رأيه بما يخصُّ اللاخلقيدونيين باعتبارهم تقريبًا أرثوذكسيين، سيشكِّل فعلًا أساسًا متينًا يمكننا أن ندعِّم عليه محاولات استتباع إعادة اتِّحاد اللاخلقيدونيين بالكنيسة الأرثوذكسيَّة. ولو كانت الأمور هكذا فقط، وكان سبب كلِّ هذا الشقاء وهذه المرارة الناتجَين عن التباعد والانقسام هو الغموض وسوء فهم المصطلحات وأسبابٍ تاريخيَّة وسياسيَّة طارئة، خصوصًا أنَّه بقدر ما يمكن أن يستخلص هذا التخمين فهمًا خاصًا من معلِّم العقيدة بامتياز ونصير الأرثوذكسيين القديس يوحنا الدمشقيّ، الذي عاش بعيدًا عن القسطنطينيَّة في كنيسة أنطاكية التي منها ابتُدِعَت كنيسة السريان اليعاقبة، والذي يعرف الوضع بشكلٍ أفضل وأوثَق.
مع ذلك، الصورة التي تُستَخلَص من قراءة نصوص القدّيس يوحنا الدمشقيّ مختلفة ومعاكسة كليًّا، ومُعرقِلة لاحتمالات إعادة الوحدة مع اللاخلقيدونيين، حتى مع الشروحات والتفسيرات، إلاَّ إن عادوا إلى الكنيسة الأرثوذكسيَّة واعترفوا بإيمان خلقيدونيا. يجب أن يجعل هذا الاستنتاج كلَّ من يندفعون إلى تحقيق الوحدة حذرين ومنتبهين، وخاصَّةً كنيسة أنطاكية التي لها من مدينة دمشق مقرٌّ لبطريركها، أي المدينة التي وُلدَ فيها القديس، وهي التي تكرِّمه وتوقِّره كما يتَّضح من تسمية معهدها اللاهوتيّ الذي يحمل اسم القديس يوحنا الدمشقيّ.
لكن دعونا نرى باختصار ما هي الصورة التي تظهر من كتابات القدّيس يوحنا الدمشقيّ. في المقام الأول، من المعروف أنَّه كتب ثلاث مقالات ضدَّ اليعاقبة أو الذين لا رأس لهم ويدعوهم من دون تردد بالمونوفيزيين. المقالة الأولى متعلِّقة بالطبيعة المركَّبة، ضدَّ الذين لا رأس لهم[3]، والمقالة الثانية شموليَّة أكثر من الأولى، كتبها بطلب من بطرس بطريرك أنطاكية بعنوان توموس من بطرس أسقف دمشق الكليّ القداسة إلى المزعوم أسقف داريَّا اليعقوبيّ[4]، والمقالة الثالثة بعنوان رسالة إلى الأرشمندريت يوحنا فيما يختص بالنشيد المثلَّث التقديس (التريصاجيون: قدوس الله...)[5]، يحلِّل من خلاله الطابع الثالوثيّ في نشيد التريصاجيون ويعارض تقييد المسيح وحده كما يفعل المونوفيزيون بغية تبرير إضافة عبارة "يا من صُلبَ من أجلنا". من يحصر نشيد التريصاجيون إلى شخص واحد من الثالوث القدوس "يشارك في غباء القصَّار" ويساهم في "الإهانة الشريرة التي أدخلها القصَّار لتدمير الجميع تمامًا"[6]. بطرس القصَّار بطريرك أنطاكية هو من أدخل الإضافة على نشيد التريصاجيون. كتب القدّيس يوحنا أيضًا مقالةً ضدَّ المونوثيليت حيث ذكر أيضًا فيها المونوفيزيين. كان عنوانها فيما يختص المشيئتين والقوَّتيْن والصفات الطبيعيَّة الأخرى في المسيح بالتزامن وفيما يختص الطبيعتين والأقنوم الواحد[7]. نجد أيضًا مراجع أساسيَّة في أشهر أعماله فيما يتعلَّق بالهرطقات بشكل مختصر متى بدأت وأين ظهرت[8] وعرض دقيق للإيمان الأرثوذكسيّ[9] الذي يشكِّل مع عمل الفصول الفلسفيَّة[10] عملاً واحدًا من ثلاثة أجزاء "ينبوع المعرفة". يوجد أيضًا في أعمال مختلفة مراجع متناثرة عن المونوفيزيين.
تأتي العبارة الجدليَّة للقدّيس يوحنا الدمشقيّ، التي يستشهدون بها كثيرًا كما قلنا في الدفاع عن "أرثوذكسيَّة" اللاخلقيدونيين، من العمل المتعلِّق بالهرطقات وتمَّ تجريدها من سياقها والتي تقول إنَّ اللاخلقيدونيين "انفصلوا عن الكنيسة بحجَّة مجمع خلقيدونيا، في ما عدا ذلك هم أرثوذكسيُّون". بدايةً يجب أن نقتبس النصَّ الكامل للقدّيس يوحنا والذي سنعلِّق عليه من دون الدخول حاليًّا في جوهر تعليمه وهو يعارض تمامًا النصوص المشتركة التي وُقِّعَت في الحوار، كما هو بالتأكيد التعليم المشترك لجميع آباء الكنيسة الأرثوذكسيَّة الذي يعبِّر عنه القدّيس يوحنا الدمشقيّ. النصّ كما يلي:
القبط، وهم المسمَّون كذلك "منشقين" أو "مونوفيزيين"، هؤلاء انفصلوا عن الكنيسة الأرثوذكسيَّة بدعوى الوثيقة التي أُقرَّت في خلقيدونيا والتي عرفت باسم تومُس. إنَّ اسم "القبط" يأتي من أنَّهم كانوا أول من أطلق هذا المذهب أيَّام حكم الأمبراطورين مركيانوس وفالنتينوس. في ما عدا ذلك، هم أرثوذكسيُّون. هؤلاء عارضوا المجمع الخلقيدونيّ، تعاطفًا مع ديوسقوروس الاسكندريّ، الذي عزله المجمع المذكور لأنَّه جعل نفسه محاميًا عن عقائد أفتيشيوس. وقد اختلقوا عليه (للمجمع الخلقيدوني) اتِّهامات كاذبة فنَّدناها أعلاه تفنيدًا وافيًا في هذا المؤلَّف كاشفين للعيان عدم صلابتها وعبثيتها. قائداهم كانا ثيودوسيوس الاسكندري، ومن هنا تسمية "الثيودوسيين"، ويعقوب السوري الذي إليه ينسب "اليعقوبيُّون". وكانا شاهدين على كلِّ هؤلاء، مؤيِّدًا قضيتهم وبطلانها، سفيروس مفسد أنطاكيا، ويوحنا فيلوبونوس ذو الاعتقاد بالآلهة الثلاثة، الذي حاك أفكارًا كافرة. هذان أنكرا سرَّ خلاصنا وكتبا أشياءً كثيرة ضدَّ تعليم آباء خلقيدونيا الثلاثين والستمئة الموحى به من الله، كما نصبا أشراكًا عديدة ووضعا، إذا صحَّ التعبير، حجارة عثرة في درب (راجع مز139: 6) أولئك الذين هلكوا بداعي هرطقتهم المشؤومة. ومع أنَّهما يقولان بجوهرين خاصين (إلهيّ وبشريّ) فإنَّهما يدخلان التشويش في سرِّ التدبير. إنَّنا نعتبر أنَّه من الضروريّ أن نناقش باقتضاب كفرهما ونضيف تعليقات قصيرة تفنيدًا لهرطقتهما الملحدة المشينة. سأوضح تعاليم أو بالأحرى هذيان بَطَلِهم يوحنا الذين يفتخرون به[11].
الملاحظة الأولى التي يجب ذكرها هي أنَّ القدّيس يوحنا شمل اللاخلقيدونيين وحسبهم ضمن الهراطقة. العدد 83 الذي يسبق هذا النصّ هو رقم الهرطقة حسب الترتيب التي وضعها. لو كان يؤمن أنَّهم أرثوذكس، بالتأكيد لما كان سيدرجهم ضمن الهراطقة. دعاهم بصراحة بالمونوفيزيين: "القبط، وهم المسمَّون كذلك منشقين أو مونوفيزيين". كُتِب وقيل الكثير في البيانات اللاهوتيَّة المسكونيَّة المعاصرة عن كونهم ليسوا بمونوفيزيين لدرجة التردُّد في استخدام هذا المصطلح ممَّا يُمال إلى إلغائه. لننتقل إلى العبارة المشؤومة: "انفصلوا عن الكنيسة الأرثوذكسيَّة بدعوى الوثيقة التي أُقرَّت في خلقيدونيا والتي عرفت باسم تومُس... في ما عدا ذلك، هم أرثوذكسيُّون". في القسم الأول من العبارة، يُذكَر بوضوح أنَّ المسألة تتعلَّق بالمنشقِّين الذين لا ينتمون للكنيسة الأرثوذكسيَّة: "انفصلوا عن الكنيسة الأرثوذكسيَّة". إذن هم خارج نطاق الكنيسة الأرثوذكسيَّة. إنَّ سبب انفصالهم عن الكنيسة الأرثوذكسيَّة هو التعريف العقائديّ ووثيقة خلقيدونيا وليس الأسباب التاريخيَّة والسياسيَّة التي يسعى اللاهوتيُّون والمؤرِّخون المعاصرون إلى إيجادها، متَّبعين منهجًا غيرَ لاهوتيٍّ وغريبًا تمامًا عن المنهجيَّة الآبائيَّة والإدراك الذاتيّ للكنيسة: "بدعوى الوثيقة التي أُقرَّت في خلقيدونيا". يؤدِّي استخدام القدّيس يوحنا للدعوى إلى تفاقم موقف اللاخلقيدونيين ويثبِّت سلطة المجمع الرابع المسكونيّ الخلقيدوني ومكانته. بكلام آخر يريد أن يقول إنَّ إيمان خلقيدونيا واضح جدًّا ولا يحتاج إلى تفسيرات وشروحات التي نمارسها في حوار اليوم؛ إنَّ رفضه هو ذريعة لهم للذهاب إلى الانشقاق والانقسام، حيث يقودهم إيمانهم المنحرف عن تعريف خلقيدونيا.
إذًا، ما معنى القسم الثاني من العبارة "في ما عدا ذلك، هم أرثوذكسيُّون"، الذي يثير الارتباك؟ بكلِّ بساطة، يضع القدّيس يوحنا الدمشقيّ جنبًا إلى جنبٍ الخطأ اللاهوتيّ العظيم برفض خلقيدونيا، الذي يضع غير الخلقيدونيين تلقائيًّا خارج الكنيسة، مع الحفاظ على نصيبهم في الحياة الكنسيَّة كما في الأمور الإيمانيَّة الأخرى فيما يختصّ بالتعاليم والممارسات والعادات الليتورجيَّة المتعلّقة بكونهم أرثوذكس أي ما يوافق الكنيسة الأرثوذكسيَّة الجامعة. يعلم الجميع أنَّ الوحدة تفترض مسبقًا الوحدة في الإيمان والعبادة والإدارة وخاصةً أنَّه في المسائل الإيمانيَّة تصل الوحدة حتَّى إلى التفاصيل الصغيرة لأنَّه بسبب العلاقة العميقة والمتماسكة لحقائق الإيمان "من يسيء إلى جزءٍ صغير يسيء إلى الكل". من المؤكَّد أنَّ عقيدة خلقيدونيا المتعلِّقة بالاتِّحاد الأقنوميّ بين الطبيعتيْن في شخص المسيح هو تعليم عقائديّ أساسيّ ويشكِّل رفضه هرطقةً، حتَّى لو كان أولئك الذين يرفضونه "أرثوذكس من كلِّ النواحي الأخرى". هذا هو موقف القدّيس يوحنا الدمشقيّ الذي تمَّ تأكيده في بقية الاقتباس بالإضافة إلى مواقفه الأخرى. لكن قبل أن ننتقل إليها، يجب أن نقول في السياق الحالي إنَّ ما يُقال عن اللاخلقيدونيين يمكن أن يُقال أيضًا عن الآريوسيين ومحاربي الإيقونات: هذا يعني أنَّ الذين انفصلوا سابقًا "بدعوى الوثيقة التي أُقرَّت في نيقية 1" والذين انفصلوا لاحقًا "بدعوى الوثيقة التي أُقرَّت في نيقية 2" هم أرثوذكس من كلِّ النواحي الأخرى. إذًا، هل من المفترض أن نتساءل حسب هذا المنطق عن عدد القرارات وعن طبيعة وأسماء المجامع التي رفضها الهراطقة بهدف تحويلهم أرثوذكس وتدمير الحدود الثابتة "التي وضعها الآباء" تدريجيًّا وتقسيم جسد الكنيسة عبر الزمن و"مع جميع القديسين" ليس في ضوء عودة واضحة بتوبةٍ بل باعتراف غامض ومبهم لغير الخلقيدونيين؟
ما تبقَّى من الاقتباس مثير أكثر للاهتمام. يملك اللاخلقيدونيُّون نظرةً إيجابيَّةً عن ديوسقوروس الذي عزله مجمع خلقيدونيا لدفاعه عن تعليم إفتيشيوس. لهذا السبب قاموا بتلفيق اتِّهامات لا تحصى ضدَّ المجمع والتي قمنا بالفعل بتبديدها "مظهرين مدى حمقهم وغبائهم". يذكرهم القدّيس يوحنا في أعمالٍ محدَّدة ذكرناها سابقًا ضدَّ اليعاقبة. كان قادتهم ثيودوسيوس الإسكندريّ، لهذا السبب ندعوهم بالثيودوسيين، ويعقوب البرادعي السوري الذي من خلاله ندعوهم باليعاقبة. كان حلفاؤهم سفيروس "مفسد أنطاكيا" ويوحنا فيلوبونوس اللذيْن من خلال تعاليمهما "أنكرا سرَّ خلاصنا العام". كتبا أمورًا كثيرة ضدَّ "التعاليم الملهمة بها من الله للآباء 360"، مضلِّين ومدمِّرين الكثير من الناس في "هرطقتهم الخبيثة".
كان المرجع الموجز لتعاليمهم الملحدة والملاحظات الصغيرة المحرَّفة الهدف في رفض "هرطقتهم الملحدة المشينة".
عندما تُنقَل هذه النقاط إلى واقع اللاهوت المعاصر فإنَّها تُظهر ما يلي: لا يشكّ القدّيس يوحنا بصحَّة إدانة ديوسقوروس – الذي يبرِّئه الآن العديد من الأرثوذكس – بسبب دفاعه عن هرطقة إفتيشيوس في المجمع. إنَّ عبارة "ديوسقوروس لم يُجرَّد لأسباب إيمانيَّة" التي لفظها البطريرك أناتوليوس والتي أصبحت شعارًا للحوار مثل عبارة "في ما عدا ذلك، هم أرثوذكسيُّون"، لا تعني الاعتراف بأرثوذكسيَّته لكن ببساطة لم يأتِ إلى المجمع بعدما تمَّ استدعاؤه إليه وجُرِّد بسبب هذه المخالفة القانونيَّة وليس "لأسباب إيمانيَّة" كما هو واضح في تعليق ليونديوس المذكور هنا في الحاشية. مع ذلك، لو أتى لكان تمّ تجريده لأسباب إيمانيَّة لأنَّه كان هرطوقيًّا[12].
يرفض القدّيس يوحنا تحفُّظات واتِّهامات اللاخلقيدونيين ضدَّ خلقيدونيا باعتبارها لا أساس لها. في الحوار المعاصر، يحاول الأرثوذكس تفسير وتبرير مجمع خلقيدونيا من خلال تبنِّي انتقادات اللاخلقيدونيين في كثير من النواحي وخاصَّة حنقهم ضدَّ القدّيس لاون بابا روما، الذي ربما أغرى المجمع إلى آرائه النسطوريَّة وقسَّم الشرقيين وهو المسؤول الكامل عن الانشقاق والانقسام في العالم الشرقي، والذي يحاول الحوار اليوم تصحيحه وعلاجه. نتيجةً لهذه الضراوة ضدَّ القدّيس لاون هو المجهود المبذول حتَّى على مستوى البحث اللاهوتي لإظهار "الطابع الكيرلُّسي" للتعريف الخلقيدونيّ وإبعاد القديس لاون عن قرارات المجمع، حيث يمكنهم بهذه الطريقة قبول غير الخلقيدونيين.
من المؤكَّد أنَّ هذا التبنِّي غير المسبوق في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسيَّة لاتِّهامات الهراطقة ضدَّ مدافعي الإيمان وأبطاله، من بينهم القدّيس لاون، عمود الأرثوذكسيَّة العظيم في الكنيسة وبرج التقوى وحصنها،[13] أدَّى إلى وجهة نظر أنَّ لاون غير معنيّ بالحوار الأرثوذكسيّ اللاخلقيدونيّ، بل بالكاثوليكيّ اللاخلقيدونيّ. مع ذلك، فإنَّ إيمان الكنيسة غير المنقسمة هو كاثوليكيّ (جامعيّ)؛ كما آمنت روما كذلك القسطنطينيَّة والإسكندريَّة وأنطاكية، وأيضًا بالعكسِ كما آمنت أصغر أبرشيَّة ورعيَّة كذلك فعلت المراكز الكنسيَّة الكبرى. بالتالي يتعلَّق الأمر بهم جميعًا. ويلٌ لنا إذا نقلنا الشروط بعد الانشقاق إلى حقبة قبل الانشقاق وجعلنا قدّيسي الكنيسة مسؤولين عن عدم استحقاقنا.
يشير الانفصال والانقسام والانشقاق عن الكنيسة بحسب القدّيس يوحنا الدمشقيّ إلى الحرمان من إمكانيَّة الخلاص. من خلال تعليمهم ينكر اللاخلقيدونيُّون "سرَّ الخلاص العام". هؤلاء الذين تمَّ إغواؤهم والذين أغووهم إلى الهرطقة، كما هو الحال مع كل هرطقة، يُدمَّرون ويخسرون خلاصهم ويُقادون إلى الهلاك. نقرُّ ونعلِّم جميعنا أنَّ جوهر التعليم العقائديّ وجهادات الآباء القديسين وهدفها لم تكن جدالات لغويَّة وتأويليَّة وتوضيحات لفظيَّة بل حماية إمكانيَّة الخلاص الذي يدمِّره الهراطقة. علاوة على ذلك، نقرُّ أنَّ الصراع بأكمله قد حصل ليس لكي ينتصر هذا الرأي أو ذاك بل لكي يستطيع الإنسان أن يخلص. مع ذلك، يميل الموقف إلى الانتشار اليوم في الحوارات اللاهوتيَّة أنَّنا جميعنا نشكِّل كنائس وأنَّنا مخلَّصون فيها وأنَّنا كنائس شقيقة أو عائلتين من كنائس التي ليس لديها اختلافات كبيرة في الإيمان لكن ببساطة لا نتَّفق على المصطلحات ونفسِّر بعض المسائل بشكل مختلف. لهذا السبب نقدِّم بعض التفسيرات لهذه الاختلافات وكلّ شخص يبقى في مكانه. يحتفظ الأرثوذكس الشرقيُّون أي اللاخلقيدونيُّون بالطابع الكيرلُّسي عن الطبيعة الواحدة للكلمة المتجسِّدة التقليديّ لهم، بينما نستخدم نحن الأرثوذكس صيغة الطبيعتين كما تنصُّ نصوص الحوار.[14] ليس لهذه المصطلحات أيّ تأثير على الخلاص، وقد ارتكب الآباء القدّيسون والقدّيس يوحنا الدمشقيّ خطأً في رؤية اللاخلقيدونيين ضالِّين في الهرطقة، خارج الكنيسة، ويحاولون لا بالتملُّق إعادتهم إلى حظيرة الكنيسة. أولئك الذين يديرون الحوارات اليوم يكتبون بشكلٍ متناقض مع آباء الكنيسة: "ندرك الآن بوضوح أنَّ كلًّا من العائلتين حافظتا دائمًا بإخلاص على أصالة الإيمان الخريستولوجي الأرثوذكسي والاستمراريَّة غير المنقطعة للتقليد الرسولي على الرغم من استخدامهما للمصطلحات الخريستولوجيَّة بطريقة مختلفة".[15]
كانت نيَّتنا أن نعرض ونعلِّق على نصوص القدّيس وخاصةً أعماله ضدَّ اللاخلقيدونيين المونوفيزيين من أجل إظهار أنَّ الاحتكام إليه كشاهدٍ على أرثوذكسيَّتهم لا يتوافق مع الحقائق. تمَّ عمل هذا الاحتكام بشكلٍ واضح على قاعدة الاقتباس من عمله المتعلِّق بالهرطقات. في الواقع، إنَّ الصورة الكاملة التي يأخذها المرء من مجمل كتاباته موجودةٌ في خلاصته كما يقول بنفسه منتقدًا "هرطقتهم الملحدة المشينة" الذين يجدون أنفسهم فيها يخسرون خلاصهم. على ضوء هذه النقاط تتَّضح كيفيَّة أرثوذكسيَّة الشرقيّين "الأرثوذكس" ومدى تفاؤلهم لنجاح الوحدة مع الكنيسة الأرثوذكسيَّة، طالما نؤمن أنَّ القديس يوحنا الدمشقيّ، فخر الكنيسة الأنطاكيَّة، فمُ الكنيسة وصوت الآباء والمجامع.
المصدر: http://orthochristian.com/80882.html
[1] القدّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ، الخطاب 2. 82. (دفاعًا عن رحلته إلى البنطس؛ PG35:488C) ؛الخطاب 6. 11 (السلاميَّة الأولى؛ PG 35:736AB): "الخلاف على الاستقامة أفضل من التوافق العاطفيّ". القدّيس يوحنا الذهبيّ الفم، عظةٌ حول متى 35. 1 (PG 57:405): "فوق كلّ شيء هذا هو السلام، عندما يُقطَع الجزء المريض... هذا ما حدث أيضًا في قضيَّة ذلك البرج الشهير؛ فخصامهم الحسن قد أنهى سلامهم الشرّير، وقد صُنعَ السلام بهذه الطريقة". القديس إيسيذوروس الفرمي الرسالة 4. 36، لبطرس الراهب (PG 78:1088C): "هناك، يا صديقي الحكيم، كل من الحرب الشرعيَّة والسلام الأكثر إزعاجًا من أي صراعٍ عنيد-كما يقول المزمور، "لأنّي حسدتُ الأثمةَ لمّا رأيتُ سلامةَ الخطأة" (مزمور72: 3)".
[2]Mansi 13:377A.
[3]PG 95:112-125; critical edition in Bonifatius Kotter, O.S.B. (ed.), Die Schriften des Johannes von Damaskos, vol. IV (Berlin: W. de Gruyter, 1981), pp. 409-417.
[4]PG 94:1436-1501; critical edition in Kotter, op. cit., pp. 109-153 [this work is better known as Against the Jacobites—trans.].
[5]PG 95:21-61; critical edition in Kotter, op. cit., pp. 304-332.
[6]PG 95:57 (Kotter, op. cit., p. 329).
[7]PG 95:128-185; critical edition in Kotter, op. cit., pp. 173-231).
[8]PG 94:677-780; critical edition in Kotter, op. cit., pp. 19-67.
[9]PG 94:789-1228; critical edition in Kotter, Die Schriften des Johannes von Damaskos, vol. II (Berlin: W. de Gruyter, 1973), pp. 7-239.
[10]PG 94:521-676; critical edition in Kotter, Die Schriften des Johannes von Damaskos, vol. I (Berlin: W. de Gruyter, 1969), pp. 51-146.
[11]PG 94:741A-744B (Kotter, op. cit., vol. IV, pp. 49-50).
[12]De Sectis 6 (PG 86.1:1233B-1237D); critical edition in Franz Diekamp (ed.), DoctrinaPatrum de IncarnationeVerbi: Ein griechisches Florilegium aus der Wende des 7. und 8. Jahrhunderts, 2nd ed. (Münster: Aschendorff, 1981), pp. 177-179.
يقولون إنَّه ليس من الضروري القبول بمجمع خلقيدونيا لأنَّ المجتمعين فيه كانوا متقلِّبين ومتعارضين. هؤلاء الأشخاص نفسهم عزلوا إفتيشيوس في بيزنطية وقبلوه مع ديوسقوروس في أفسس بينما رفضوا فلافيانوس، ومرَّة أخرى الأشخاص نفسهم قبلوا فلافيانوس في خلقيدونيا ورفضوا ديوسقوروس. نقول في الردِّ على هذا إنَّه لا يجب على المرء أن يأخذ العوامل البشريَّة في الحسبان. لكن حتَّى لو ظهر خمسة أو أكثر من ثلاثين من أصل 360 متقلِّبًا، كما تقولون، لا ينبغي لهذا السبب أن نرفض مجمعًا من 600 رجل بينما جلس الرجال نفسهم في مجمع مع ديوسقوروس في أفسس ولم ترفضوا هكذا مجمع بسبب هؤلاء الرجال.
يسألون مجدَّدًا "لماذا لا تقبلون ديوسقوروس إذا – كما أكَّد أناتوليوس بطريرك القسطنطينيَّة - لم يتمَّ عزله لأسباب إيمانيَّة؟" نجيب بالحقِّ أنَّه لم يُعزل لأسباب إيمانيَّة. لهذا لم يأتِ إلى المجمع لكي لا تخضع قضاياه للتحقيق؛ لكن لو أتى واستُجوبَ لكان قد عُزل كهرطوقيّ لأنَّ هذا ما كان عليه. بما أنَّه استُدعيَ ثلاث مرات ولم يأتِ وجعلوا هذا سببًا لعزله، لهذا السبب قال أناتوليوس إنَّه لم يُعزل لأسباب إيمانيَّة.
يقولون مجدَّدًا "قبِلَ المجمع ذاته الهراطقة ولهذا لا يجب أن يُقبَل". يتحدَّثون عن ثيوذوريتوس (القورشي) وإيفا (الرهاوي). نردُّ أنَّ المجمع لم يقبلهم حتَّى إبسالهم نسطوريوس.
يسألون مرَّة أخرى بحَيرة "لماذا لم يطلبوا من ثيوذوريتوس إبسال كتاباته ضدَّ كيرلُّس؟" نجيب على هذا أنَّه لا يجب أن يتَّهموا المجمع بذلك بل القدّيس كيرلُّس لأنَّه دخل في شركة مع الشرقيين ومع ثيوذوريتوس نفسه ولم يطلب من ثيوذوريتوس أن يُبسل كتاباته. لذلك لا ينبغي اتِّهام المجمع بعدم فعل ما لم يفعله القديس كيرلُّس بنفسه. ومع ذلك، عندما طُلِب من ثيوذوريتوس إبسال نسطوريوس، عمل المجمع ما لم يعمله القديس كيرلُّس. حتَّى لو افترضنا أنَّ إيفا وثيوذوريتوس هرطوقيَّان، لا ينبغي رفض المجمع بسببهما. قبِلَ مجمع نيقية بسبعة هراطقة كانوا في السابق آريوسيين واستمرُّوا بعد ذلك بهرطقتهم وليس لهذا السبب يُسمَّى 311 أب بل مجمع 318 أب. على نفس المنوال، تواجد جوفينال الأورشليمي وأساقفة آخرون في مجمع خلقيدونيا والذين كانوا متواجدين مع ديوسقوروس في أفسس، وليس لهذا السبب يرفضون هذا المجمع بل في الواقع يتبنُّونه."
[13]أنظر خدمة عيد القديس في 18 شباط
[14]التصريح المشترك الثاني للجنة المشتركة للحوار (جنيف، أيلول 1990)
[15]المرجع ذاته