«الرَّحمة الإلهيَّة»

 

محاضرةٌ ألقاها الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان، رئيس دير رُقاد والدة الإله – بكفتين الكورة سنة 2019 في كنيسة سيِّدة النَّجاة – جبيل

 

كلّ علاقة الله بالبشر هي علاقة رحمة لا عدالة. فإن قرأنا أسفار العهد القديم بتمعُّنٍ لرأينا مسيرة ارتداد البشر وجحودهم لكلّ الخيرات والنِّعَم الإلهيَّة. ونرى في المقابل رحمة الله لشعبه. يتعاطى الله مع البشر بحسب مخطَّطٍ معيَّن بغيةَ تحقيق الهدف الأساسيّ الذي خُلقنا لأجله، ألا وهو أن نصير أبناءً له ومشاركين إيّاه في ملكوته. على الرَّغم من ذلك، نظنّ نحن أنّنا أتينا إلى هذه الحياة بطريقةٍ عبثيّة، فنُشبِعُ ذواتنا بالمسرّات الجسديّة متناسين ذلك الهدف السّامي.

إن أردنا أن نحيا حياةً مسيحيّةً حقيقيّةً، علينا أن نضع ذلك الهدف نصب أعيننا، أي أن نجعله حاضرًا في كلّ تفاصيل حياتنا منذ اللّحظة التي نُبصرُ فيها النّور إلى تلك التي نمضي فيها من هذه الحياة. إن فعلنا ذلك ستنكشف لنا عظمة رحمة الله، لأنّنا سنُبصِرُ كلَّ سقطاتنا وضعفاتنا، فنعرف حينها أنّ الله لا يُجازينا بحسب كثرة آثامنا، لأن علاقة الله مع البشر تُحرِّكها محبَّته، والرَّحمة هي جوهر المحبّة. «اَللهُ مَحَبَّةٌ» (1يو4: 16)، لكنّ محبَّته تتجلّى من خلال رحمته التي تلازمها دون انفصال. لذلك نرى في العهد القديم كيف كان الله يهتزّ لمحبّته للبشر كلّما ابعتدوا عنه، «هَلْ أَفْرَايِمُ ابْنٌ عَزِيزٌ لَدَيَّ، أَوْ وَلَدٌ مُسِرٌّ؟ لأَنِّي كُلَّمَا تَكَلَّمْتُ بِهِ أَذْكُرُهُ بَعْدُ ذِكْرًا. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ حَنَّتْ أَحْشَائِي إِلَيْهِ. رَحْمَةً أَرْحَمُهُ، يَقُولُ الرَّبُّ.»(إر31: 20). يتكلَّم إرمياء النبيّ هنا عن رحمة الله للبشر، فقد أدَّبَهم بعد أن كانوا قد ابتعدوا عنه، لكنّ هذا التأديب كان من أجل خلاصهم.

كلّ ما يعمله الله له هدف محدَّد، ألا وهو سرّ الخلاص الذي تجسّد الله لتحقيقه. هذا السّر هو محور كلّ عمل الله، لكنَّه لا يُعاملنا كقاضٍ، كما نظنّ في بعض الأحيان وكأنّنا نحيا وفق ناموس العهد القديم، إنّما كأبناء له. فالله كشف لنا ذاته كأب رؤوف ورحيم. يصوّر مزمور التّيبيكا (102) هذه الرَّحمة الإلهيّة، ويُرينا أساس مسيرتنا مع الله. هل من أبٍ لا يرأف بأبنائه ولا يبذل نفسه من أجلهم؟ قطعًا لا، وهكذا يُعاملنا الله.

يصوّر البعض الله في العهد القديم كقاضٍ ظالم، لكنّنا إن نظرنا عن كثب إلى مسيرة البشر في ذلك الوقت نلاحظ أنّ الله لم يُردْ أن يقسوَ على شعبه، لكنّه عاملهم كالأطفال الذين يحتاجون إلى تأديبٍ مباشَر في بعض الأحيان. عاش الشَّعب حياةً جسدانيّةً بعيدةً عن الله، لذلك لم يتمكَّن من فهم عمله الرّوحي. نحن نعلَم أنّ الله قد كشف عن نفسه في العهد الجديد، لذلك لم يكن تأديبه للإنسان محاسبةً على الخطايا التي ارتكبها، كما لم يكن إثباتًا لذاته بأنّه الإله الضّابط الكُلّ والسيّد الوحيد، إنّما كان تحضيرًا للإنسان ليرتقي تدريجيًّا إلى مرحلة البنوّة التي من خلالها يُصبح قادرًا على قبول المسيح ابن الله المتجسِّد، وبالتّالي قبول سرّ الخلاص. لقد كان الله أبًا لكلّ البَشَر، لكنّه اهتمَّ بالشَّعب العبرانيّ بشكلٍ خاص لأنّه أراد أن يُهيّئ شعبًا ليأتي منه المسيح. لذلك نقول إنَّ والدة الإله هي ثمرة كلّ مسيرة الله في العهد القديم، فهذه المسيرة بحسناتها وسيّئاتها قد تمكَّنت مِن إبراز مَن تجسَّدَ منها الإله.

الله ليس رئيسًا على مقياس الرئاسات الدنيويّة، لذلك ابتغى، من خلال تسليم شعبه الخاص للأمم ليسبوه ويقتلوه، أن يعرف الإنسانُ خطاياه وأن يسلك في التّوبة. هدف القسوة التي أظهرها الله في العهد القديم هي أن يعيش الإنسان توبته. هذا يتطابَق مع ما نعيشه اليوم، فبالرَّغم من أنّنا نعيش في عهد النّعمة، إلّا أنّنا نقاوم وصايا الله. غالبًا ما نتذمَّر من التَّجارب والمصاعب، لكن علينا أن نعلمَ أنّ الله يعتني بنا من خلالها، فالإنسانُ يتواضع إزاءَ كثرة التّجاربِ وبذلك يَقبَلُ مشيئة الله. وهذا عملُ رحمةٍ عظيم.

لقد تعرَّض الشَّعبُ العبرانيّ لتجاربَ جمَّة أثناء خروجه من أرضِ مصرَ مع موسى، فبقوا في البرّيَّة مدَّة أربعين سنة. حينها لم يكن عندهم ناموسٌ، ولم يقتبلوا الناموسَ بسهولةٍ، فلطالما ارتَدّوا عن الله وتذكَّروا خيرات مصر، أي العبادة الوثنيَّة. فكانت هذه التَّجارب بمثابة تهيئةٍ ليقتبلوا ناموس الله في حياتهم، ويدخلوا إلى أرض الميعاد شعبًا نقيًّا وطاهرًا، قادرًا أن يحيا في هذه الأرض بحسب الوصايا الإلهيّة، أي أن يحيا حياةً جديدة. وبعد أن دخل الشَّعبُ إلى فلسطين، وكان قد قبل النّاموس، لم تفارقه التَّجارب البتَّة. هذا النّاموس كان بمثابة تهيئةٍ لاقتبال المسيح ابن الله المتجَسِّد وناموس ووصايا العهد الجديد التي كمَّلَت ناموس العهد القديم.

إذًا، نلاحظ أنَّ تعامل الله مع شعبه لم يكن انتقامًا بل تأديبًا. قد بيعَ يوسف بسبب حسد إخوته له، إلّا أنّ الله كان يحضّره ليخَلّصَ شعبه من المجاعة التي أحدَقَت بهم لاحقًا. وكما يقول النبيُّ هوشَع «لَمَّا كَانَ إِسْرَائِيلُ غُلاَمًا أَحْبَبْتُهُ، وَمِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي. كُلَّ مَا دَعَوْهُمْ ذَهَبُوا مِنْ أَمَامِهِمْ يَذْبَحُونَ لِلْبَعْلِيمِ، وَيُبَخِّرُونَ لِلتَّمَاثِيلِ الْمَنْحُوتَةِ. وَأَنَا دَرَّجْتُ أَفْرَايِمَ مُمْسِكًا إِيَّاهُمْ بِأَذْرُعِهِمْ، فَلَمْ يَعْرِفُوا أَنِّي شَفَيْتُهُمْ. كُنْتُ أَجْذِبُهُمْ بِحِبَالِ الْبَشَرِ، بِرُبُطِ الْمَحَبَّةِ، وَكُنْتُ لَهُمْ كَمَنْ يَرْفَعُ النِّيرَ عَنْ أَعْنَاقِهِمْ، وَمَدَدْتُ إِلَيْهِ مُطْعِمًا إِيَّاهُ.» (هو11: 1-4). رحمة الله هذه لا حدَّ لها ولا نهاية لها، هذا ما نلمسه جليًّا في المزمور 135 الذي يروي قصَّةَ وحي الله من الخلق حتى خلاص الشَّعب، وكل آيةٍ تُختَمُ بــ«لأنَّ إلى الأبد رحمته».

يستغرب البعض من وجود عدَّة أحداثٍ في العهد القديم حيث يأمر الله شعبه بالقضاء على الأمم المعادية كالشعوب الوثنيَّة. لكنَّ الله كان يأمر بذلك بغية القضاء على الخطيئة والشَّر، إذ لا يمكن القضاء عليهما في العهد القديم إلا بهذه الطريقة. هذه كانت غاية قتلِ إيليَّا النبي لكهنة البعل آنذاك، كذلك الأمر في حادثة الطوفان وأحداثٍ أُخرى عديدة تُظهرُ رحمة الله الكبيرة تجاه البَشَر التي تتجلَّى في تدميره لقوَّة الشَّر في هذا العالم.

ما يَحدث اليوم مشابهٌ إلى حدٍّ ما لأحداث العهد القديم، لكن بحلَّةٍ أُخرى. يسمح الله اليومَ بالحروب والويلات بالرَّغم من كونها تقتلُ الجسد، إلّا أنَّه يبتغي خلاص النُّفوسِ، لذلك يقول لنا الرَّب «وَلاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ» (مت10: 28). فبدون الكوارث والويلات لن يتوب الإنسانُ وبالتالي لن يُستأصَلَ الشَّر. لذلك سماح الله بموت آدم هو عملُ رحمةٍ بحدِّ ذاته، فلو لم يسمح بذلك لصارَ الشَّرُّ خالدًا.

نلاحظ في نشيد والدة الإله «تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي، لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ، وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ الأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ» (لو1: 46-50)، أنَّ مريم تردِّدُ نفس اللّازمة التي ردَّدها أنبياء العهد القديم. يتكَلَّمُ بولس الرَّسول أيضًا عن رحمة الله قائلًا: «اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا» (أف2: 4). أعظم عمل رحمةٍ في العهد الجديد هو تجسُّد الإبن، لأنَّه غيَّرَ كلَّ علاقة الإنسان باللّه فأصبحت علاقةً داخليَّة، وبذلك تحقَّقَت البنوَّةُ بشكلٍ فعليّ. لهذا يقول القديس يوحنا اللّاهوتي «وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ» (يو1: 12).  فبدلَ أن يموت الإنسانُ بسبب خطاياه، تجسَّد الإله ومات من أجل الجنسِ البشريِّ وحمل خطاياهم برفعها على الصليب. وبهذا صلبَ الخطيئةَ والشرَّ وحقَّقَ كلَّ هدفِ خَلقِهِ للإنسان، وأعادهُ إلى أساس ما قبل السُّقوط. لذلك قُلنا إنَّ الخطيئة ليست أمرًا قانونيًّا إنَّما انحرافٌ عن الهَدَف، أي عن مسيرة الإنسان نحو الله. بُغية تصحيح هذه المسيرة المنحرفة يجب القضاء على الخطيئة الكامنة في داخلنا. العودة إلى الذَّات هي علاجٌ لهذه الخطيئة لأنَّها توضح مدى بُعدِ النَّفس عن الله، وكم هي مملوءةٌ بالجحود والتعَدِّي على الوصايا الإلهيَّة. نحن لا نُبصِرُ إلَّا أعمالنا الخارجيَّة، لكنَّنا إن تفحَّصنا ذواتنا يوميًّا نلاحظ التكبُّرَ والإدانةَ والحَسَدَ المعشِّشَة في دواخلنا، وهذه بذاتها هي انحرافٌ عن الوصيَّة التي يدعونا الله من خلالها أن نُحِبَّ قريبنا كأنفسنا (مت22: 39). إذًا علينا أن نحاسب أنفسنا يوميًّا، تمامًا كما يحسب التاجرُ كلَّ يومٍ ربحه وخسارته. بهذه الطَّريقة نصلب خطايانا ونسلك في مسيرة التَطَهُّر.

كيف ينال الإنسان رحمة الله؟

الله أمينٌ ورحيمٌ، بشكلٍ خاص، على الَّذين يحبّونه ويؤمنون به إيمانًا كاملًا. لذلك، على الإنسان الذي يطلب رحمة الله أن يحبَّ الله أكثرَ من كلِّ أمرٍ دنيويٍّ وأن يقتني إيمانًا وثقةً به، أي عليه أن يُصلِّي بثقةٍ عالمًا أنَّ كلَّ ما سيناله هو بحسب مشيئة الله، لأنّه هو رجاؤه الوحيد. يقول القديس ثيودوسيوس في كتاب الفيلوكاليا «لا توجَد رحمة إلهيَّة ولا رجاء في بلوغ اللّاهوى للنَّفس التي تُحبُّ هذا العالم أكثَرَ من خالقها، وهي ملتصقة بالأشياء المنظورة وتميل بكليَّتها إلى رغبات ومسرَّات الجَسَد». يقول القديس إسحق السُّرياني أيضًا «بمقدار ما يحرم الإنسان نفسه من الخيرات الدنيويَّة، تتبعه رحمة الله وتحمله على ذراعيها محبَّته للبشر».

رحمة الله هي حاجةٌ للإنسان، وما من شيءٍ يمكننا أن نستعيض به عن هذه الرَّحمة. لهذا نطلبها في سائر الصَّلوات؛ مثلاً صلاة الرَّب يسوع «يا ربِّي يسوع المسيح يا ابن الله ارحمني» هي، كما يقول الآباء، اختصارٌ لكلّ الإنجيل. لأنَّه إن عَرَف الإنسانُ كيف يطلبُ رحمةَ الله بشكلٍ صحيح سيتمَكَّنُ من عيش كلّ وصايا الإنجيل. ولتحقيق ذلك على الإنسان أن يعرف خطاياه وضعفاته. يفسِّرُ المزمور الخمسون «إرحمني يا الله كعظيم رحمتك...» هذا الأمر، موضحًا أنَّنا نطلب عظيمَ رحمةِ الله أي كلَّ رحمته، لأنَّنا نعي حاجتنا لهذه النِّعمة، فالإنسانُ المتواضع يعرف مدى بعده عن الله معتبرًا أنَّه أكبرُ الخطأة كما يقول بولس الرَّسول «الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا» (1تيم1: 15). يقول النبيّ في المزمور عينه «فإنّي أنا عارفٌ بإثمي وخطيئتي أمامي في كلّ حين»، لهذا قُلنا إنَّ العودة إلى الذَّات ومعرفة الخطايا شرطٌ أساسيٌّ لنوال كلَّ رحمة الله. لأنَّه بمقدار معرفة الإنسان لحقيقته وكثرة خطاياه ينال رحمةً من الله. ما من إنسانٍ يحيا ولا يُخطئ، لكنَّه عندما يتوب يعي حقيقة نفسه عالمًا أنَّ الله لن يرصد كثرة خطايانا ولن يُحاسبنا بحسبها، فإن كان كذلك لن نتمكَّن حتى من الوقوف أمامه «إن كُنت للآثام راصدًا، يا ربُّ، يا ربُّ، من يثبتُ؟ لأنَّ من عندك هو الاغتفار» (مز129: 3-4).

يتَّقي الإنسانُ الله من خلال توبته وحفظه لوصاياه. موسم الصيام هو أكبر فترةٍ للتوبة لأنّه عودةٌ إلى الذَّات. كلَّما امتنع الإنسان عن كلِّ الملَذَّات الدنيويّة عبر ضبطه لأهواء النَّفس، كلَّما ولجَ أكثر إلى داخل نفسه، وهنا تبدأ التَّوبة. التوبَةُ في المسيحيّةِ ليست ندمًا على خطيئةٍ ارتُكِبَت، لأنَّ النَّدم يعيدُ الإنسانَ إليها بسهولةٍ. أمَّا من يتوب توبةً صادقةً يقضي على الخطيئة المعشِّشَةِ في نفسه، هكذا يستمطر الإنسانُ رحمةَ الله. يتَّضِحُ هذا الأمر في تراتيل الصوم؛ مثلًا «إفتح لي أبواب التَّوبة يا واهبَ الحياة لأنَّ روحي تبتكر إلى هيكل قُدسكَ آتيًا بهيكل جسدي مدنَّسًا بجملته، لكن بما أنَّكَ مُتعطِّفٌ، نقِّيني بتحنُّنِ مراحِمِك». إذًا علينا أن نطلب أوَّلًا من الله أن يَفتحَ لنا أبواب التوبة قبل أن نطلب منه التنقيةَ بتحنُّنِ مراحِمِه. لا يطلب المسيحيّ الحقيقيّ من الله إلَّا الرَّحمةَ، فإن حَصَلَ عليها يكون قد حصَّلَ كلَّ شيء. طلبُ الكنيسة المستَمِر لهذه الرَّحمة «يا ربِّي يسوع المسيح يا ابن الله ارحمني»، «يا ربُّ ارحم» إلخ، يكشفُ حاجةَ الإنسان لها، ويكشف له مدى بُعده عن الله.

يبدأ زمنُ التريودي بأحد الفرِّيسي والعشَّار. كان الفريسيُّ مكتفيًا بذاته وبأعماله الخارجيَّة غيرَ طالبٍ لرحمة الله. بينما كلَّ ما طلبه العشَّار هو الرَّحمة. بمجرَّد أن يعتبرَ الإنسانُ نفسه بارًّا، تتبَدَّلُ نظرتهُ إلى الآخرين فتُصبحُ نظرةَ استعلاءٍ واحتقارٍ، حتَّى دون أن يقصد. لهذا، قال المسيح هذا المثَل «لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ الآخَرِينَ» (لو18: 9).

الأحد الثاني من زمن التريودي هو أحد الابن الشَّاطِر. يُعطينا هذا المثلُ صورةً كاملةً عن رحمة الله الذي رغم ابتعادنا عنه، يعاملنا كأبناء، وهو مستعدٌّ لأَن يقبَلَنا دونَ أن يحاسبنا على خطايانا، بمجَرَّد اعترافنا بها، كما قَبِلَ الأبُ ابنه الضَّال. لهذا السَّببِ قُلنا سابقًا إنَّ الله لا يُعاملنا بعدلٍ فإنَّ عدله يختلفُ عن عدلِ البَشَر، ورحمته تغلب عدالته. لقد كان الله أبًا للإنسان في كلِّ الأزمنةِ، لكنَّ ظلمةَ الإنسانِ وحالته الجسدانيَّة منعَتهُ من رؤيةِ الله كأب.

يقول القدّيس إسحق السُّرياني في كتاب النُّسكيَّات ما يلي: «ما هي التَّوبة؟ هي القلبُ المنسحقُ والمتواضِع وميتَةٌ مزدَوجة (أي ميتَةٌ عن الأهواء بالنَّفس والجَسَد) طوعيَّة عن كلّ الأشياء... وما هو القلب الرَّحوم؟ هو القلب الذي يحترقُ من أجل الخليقةِ كلِّها، النَّاس والطُّيور والحيوانات والشَّياطين وكلِّ مخلوقٍ، وأنَّ مجَرَّد تذكُّرها أو مشاهدتها يرغم على ميل الإنسانِ على الدُّموع وقلبهُ على الانقباض لكثرة شفقتهِ عليها وعدمِ قدرتهِ على سماع أو مشاهدة أذيَّتِها أو ما يعتريها من حُزنٍ مهما كان. ولهذا إذا قدَّم هذا الإنسانُ صلاته فهو يقدِّمها دومًا مصحوبةً بالدُّموعِ من أجل الحيوانات وأعداء الحقيقة وحتى من أجل الذين يؤذونهُ، طالبًا من الله أن يحفظَهم ويغفرَ لهم. ويُصلّي أيضًا من أجل الزَّحَّافات لما في قلبه من غزارة حنان». يصوِّرُ لنا القدّيس إسحق في هذا المقطع الإنسانَ التَّائبَ، أي الذي اقتنى رحمة الله في داخله وأصبح مُشابهًا له؛ «كُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ» (لو6: 36).

يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس «إنَّ الذِّهنَ طالما هو مستعبدٌ للأهواء لا يمكنه أن ينالَ رحمة الله ويتَّحد به». الجهادُ الرُّوحي ضدَّ الأهواء يُفسح المجالَ لعمل رحمة الله في الإنسان. فبمجَرَّدِ أن يبدأ الإنسانُ بمقاومةِ الخطيئةِ تبدأ رحمة الله بالعمل، أمَّا من لا يُجاهد ضدَّها فلن يذوقَ نعمة الله ورحمته. يُكمل القديس غريغوريوس قائلًا: «جهادُ الإنسانِ ضدَّ الأهواء يكون بالامساكِ والعفَّةِ والسَّهرِ والتَضَرُّعِ إلى الله وعمل الفضائل. كلّ هذه تجعل الإنسانَ مستأهلًا لرحمة الله وللبركات الإلهيَّة والنِّعَم».

عندما تغيَّر اللّاهوت الكاثوليكيّ في الغرب، تغيَّرَت كلُّ طريقة تفكيرهم، فصارَ لاهوتًا سكولاستيكيًّا وحقوقيًّا يستند على العقلانيَّة والفلسفة. وقد انعكسَ هذا التغيير اللّاهوتي سلبًا على الحياة الرُّوحيَّة فاستبدَلوا، في القرون الوسطى، الجهادَ الرُّوحي بزيارةِ الأماكن المقَدَّسة والتَّبَرُّعِ للكنائس والأديار، لأنَّ الجهادَ يتطَلَّبُ صومًا وصلاةً وسهرًا وتعبًا من أجل المسيح. لذلك لا يجب أن نقبل روحانيَّاتٍ غريبةٍ عاطفيَّة. أمَّا الرُّوحانيَّة الأرثوذكسيَّة فقد حافظت على اجهاد الصَّلبِ ضدَّ الأهواء. وبقيت مُمارساتها النسكيَّة ثابتةً لا تتغيَّرُ، لأنَّه ما من شيءٍ يستأصلُ الخطيئةَ سوى القسوة على الجسد، طبعًا لا أعني بذلك أن نؤذي أجسادنا فهذا مرفوضٌ في المسيحيَّة، وبذلك سيتمكَّنُ الإنسانُ من ضبط أهواء جسده ويُصبح سيِّدًا عليها لا العكس.

عسى أن نتمكَّنَ من أن نرحَمَ بعضنا بعضًا لنحقِّقَ ما طلبه الله منَّا، أي أن نكون أبناءً له، فهو «يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ» (مت5: 45). علينا أن نكون على مثال الله بعيشنا هذه الرَّحمة، فالإنسانُ لا يقتني رحمة الله ما لم يرحمَ هو بدوره الآخرينَ. فالعبدُ البطَّال لم يرحم عبدًا آخرَ كما رحمه سيَّده وعفاه من الدَّين لذلك عاد هذا الأخير ونزعَ رحمتهُ عنه (مت18: 23-35). علينا أيضًا أن نتبع جواب الرَّب يسوع المسيح لبطرسَ الرَّسول عندما سأله «يَارَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«لاَ أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ» (مت18: 21-22). فالرُّحماءُ هم فقط الذين سيُرحمون «طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ» (مت 5: 7). وعملُ الرَّحمةِ يُغذّي البِرَّ، لذلك قال المسيحُ للجمعِ «إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ» (مت5: 20)، وفي الوقت عينه ينزع منَّا قساوةَ القلب، يقولُ القديس إسحق السُّرياني «القلب القاسي والخالي من الرَّحمةِ لا يُمكن أن يتنَقَّى، أمَّا الإنسانُ الرَّحيمُ فهو طبيبُ نفسه لأنَّه يطرد من داخله ظلمةَ الأهواءِ كما بريحٍ عاصفة». لكن أعمال الرَّحمة هذه لن تُخلِّصَنا إن لم نعملها لأجل المسيح، فثِقتنا هي باللّه، لذلك قال بولس الرَّسول «بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ» (أف2: 5)، لئلاَ نفتخرَ بأعمالنا. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم «قبل كلِّ شيءٍ آخَر علينا أن نتعلَّم الرَّحمة، أن يكونَ الإنسانُ رحيمًا يعني أن يكون بشرًا»، و«إن لم نكن رُحماء فنحن نتوَقَّف أن نكون بشرًا... الرَّحمة تجعلنا حكماء». فلنتُب يا إخوَة، لأنَّه بقدرِ ما يوجد أناسٌ تائبون تستمرُّ رحمة الله في هذا العالم.