القديس إغناطيوس بريانتشانينوف يتحدّث عن نفسه
تعريب: نادين جراد
إذ نُحيي ذكرى القديس العظيم والكاتب الروحيّ إغناطيوس الذي تتناول مُجَلَّداته كلَّ وجهٍ من وجوه الحياة النُّسكية المسيحية في أيامنا هذه، من واجِبِنا أن نتذكّر أنّ القديس إغناطيوس اكتسب حكمتَه العميقة عبرَ حياةٍ مُفعمَةٍ بالأحزان.
رغم أنّه وُلِدَ من عائلةٍ نبيلةٍ وتمتَّع باحترام الإمبراطور الروسيّ نفسه، إلّا أنّ الحسَّ الروحيّ العميق للقدّيس إغناطيوس جعله رئيس دير القديس سرجيوس القريب من المدينة العاصمة خلال حقبةٍ نَمَا فيها فُتورٌ فظيعٌ في الحياة الروحية.
ويا للسّخرية أنَّ هذا الرجل، صاحبَ الفكر العميق، غالبًا ما كان يُساءُ فهمُهُ من قبل "الرهبان الأكاديميّين" الذين عاصَروه.
بعد أن كان أسقفًا على القوقاز، تقاعد القديس إغناطيوس من خدمته، بناءً على طَلَبِه، في دير القديس نيكولا باباييف الواقع على نهر الفولغا. لقد قُمنا بترجمة بعضِ المُقتطفات من رسائله التي يتحدّث فيها القديس، بعفويّةٍ، عن شوقِه الرّوحيّ العميق.
"أنا في السابعة والخمسين من عمري. لستُ طاعِنًا في السنّ على ما يبدو لكنّني أقبلتُ إلى نهاية حياتي، لأنَّ "قليلةً ورَدِيَّةً كانت أيّامُ سِنِيّ حياتي" (تك9:47)، كما يقول البطريرك يعقوب.
إنّ صحّتي ضعيفةٌ بطبيعتها؛ لقد أضعَفَتْها مشقّاتُ الحياة، وأعظمُها كانت هذه الشدّة الروحيّة. ففي بداية "حياتي الرهبانيّة" لم أجد راهبًا يكون صورةً حيّةً للتعاليم النسكيّة لآباء الكنيسة الأرثوذكسيّة. إنّ رغبتي في المُضِيّ بهذا الاتّجاه، إذ أدركْتُ أنّه الاتّجاه الصحيح، قد وضعَتْني في موقفٍ مُعارِضٍ للجميع وفي صراعٍ حرَّرتْني منه يدُ الله وحدها وقادتْني إلى خَلوَتي في دير باباييف هذا. وكما ترَوْنَ، فقد رفعوا أصواتَهم مُطالبين بِنَفْيي وذلك للسبب التالي: بسبب ابتعادِهم عن تعاليم الكنيسة المُقدّسة وقبولِ أفكار تُعارضُ بل تُعادي تعاليمَ الكنيسة...
لستُ نادمًا على رحيلي من الخدمة الاجتماعيّة ولا أعتقِدُ أنّه كان بإمكاني تقديم أيّة فائدة. إنَّ روحي غريبةٌ بشكلٍ كُلّي عن روح هذا العصر وقد أكون عبئًا على الآخرين. الآنَ هم يتقبّلونني، وذلك فقط لِكَوني في الغابات بعيدًا...
ليس عَبَثًا ما قاله أحدُ الآباء القدّيسين أنّ الزارعَ يزرع بشكل أثلامٍ، لكنّه لا يَعلمُ أيّةَ حبّةٍ ستنمو أو أيّة أرضٍ ستُنتج حصادًا وَفيرًا.
على وجه التّحديد – إنَّ طريقَ حياتي وأولئك الذين يرغبون في مُرافَقتي مليءٌ بالأشواك. لكن هذا هو الطريق الذي يقودُ فيه الربُّ أحبّاءَهُ ومُختاريه! إنْ لم يسلك الإنسانُ دربَ الأشواك، لا يستطيع أنْ يفتَحَ عَينَي روحه، ولا أنْ يرى المواهبَ الروحيّةَ التي يَهَبُها له المسيح. (رسائل إلى رهبان[1](
***
لقد عشْتُ في مَنسَك سِرجييف حقبةً كان خلالها عدمُ الإيمان والقِوى الباطلة، التي تُطلق على نفسها اسمَ الأرثوذكسية، قد هدمتْ تَسَلسُلَ السُّلطة الكنسيّة القديم وازدرَت بالمُقدَّسات وأساءت إليها. والآن يُمكننا أن نلتمس نتائجَ هذه الإجراءات بشكلٍ ملحوظ. أترجّى بنعمة الله أن يغفرَ الجميعُ كلَّ شيء وألّا يفكّروا أنّ أحدًا قد أساء إليّ، لكنّني أُريدُكم أن تفهموا أعمالَ أعداءِ الكنيسةِ والمسيحِ وأن تعرفوهم على ما هم عليه. في النهاية إنّ المسيحَ الدّجالَ سيدَّعي أنّه "المسيح" وينبغي أن يُعلَنَ ظهورُه هنا، بتبريرٍ، كما يسمَحُ به الله؛ لكنّ للمسيح الدجّال وأعماله ثَمَنهم الخاص...
نحن نعيش في هدوءٍ تامّ، واضعين رجاءنا على الرّب الذي سيقود عَبيدَه، حتّى في زمن المسيح الدّجال، ويُعِدّ لهم طُرُقًا ووسائلًا للخلاص، كما يشهد كتابُ الرؤيا. (رسائل إلى رهبان[2](
***
أنا سعيدٌ جدًّا لأنّ مَرَضي قد أعطاني عُذْرًا قويًّا للتَّنَسُّك وحَرَّرَني من تلك الثّرثرة البَغيضة، وَليدة الإدانة والتبرير والمُعارِضة الشَّديدة لتعاليم المسيح، التي تُعَثِّر، ولو قليلًا، روحًا ذاقتْ حلاوةَ السلام النّاتجِ عن حفظ وصايا ربّنا الكلّي الوداعة يسوعَ المسيح.
كَوْني رجلًا مريضًا، لا بُدَّ من أن يكون ملجأ رجائي، لا أعمالي الخاصّة ولا جَدارَتي، بل رحمةُ يسوعَ المسيح الإله – الإنسان وفضائلُه.
بشكلٍ عامّ، إنّ صِحّتي سيّئةٌ للغاية وقد وصلتُ إلى هنا نصفَ ميْتٍ. كلُّ شيء يحصل في أوانه. كان هنالك وقتٌ خصَّصتُه بِمُعْظَمِه لقريبي، والآن حان وقتٌ آخر – وهو الوقت الذي يجب أن أُوجّه فيه انتباهًا شديدًا إلى ذاتي بشكلٍ خاص، من أجل إعداد نفسي، من خلال التوبة، لمغادرة هذه الحياة. (رسائل إلى رهبان[3](
***
مع اقتراب إقامتي الأرضيّة إلى نهايتها، أوجّه تحيّةَ حبّ إلى البشريّة كلِّها، مُتمنّيًا أصْدَق البركات للجميع. كما أتوجّه بامتنانٍ خاص إلى أولئك القليلين الذين أظهروا لي محبّةً استثنائية؛ ومن بين هؤلاء، عددٌ قليل جدًّا – وهو أنتم. أشكرُكُم على تَعاطُفِكُم معي...
ما زلتُ مريضًا؛ ولا ترتبط أمراضي بألمٍ شديدٍ بقدر ما هي إرهاق وحُمّى. طوال هذا الشتاء نادرًا ما كنتُ أغادر غرفتي، ولم أغادرها قطّ من شهر كانون الثاني ولغاية اليوم. لِتَكُن مشيئةُ الربّ! وهل باستطاعة الأواني التي جُبِلتْ من طينٍ أنْ تفهمَ ما هو مفيدٌ وضروريّ لها؟ (رسائل إلى علمانيين[4](
***
لقد قادَتْني رحمةُ الله اللامتناهية إلى مَلاذٍ هادىء. كلّ مَن يرغب في خدمة الله عليه أن يصلّي إلى الربّ أن يهبَهُ هذه النعمة ويُرتّبَ له خُروجَه من العالم. لقد تمَّ ترتيبُ رَحيلي من هذا العالم أمام أعيُنِكُم. ومتى تمَّ الترتيبُ المناسبُ لا ينبغي للمرء أنْ يقعَ في الرّياء. إنّها الساعة الحادية عشر! في وقتٍ وجيزٍ قد يُغلِقُ الموتُ بابَ التّوبة، وليس هنالك وقتٌ للتواكُفِ من جهةٍ إلى أخرى.
إذ أدركتُ أنّ أيّامي قد فَنِيَتْ كالظّل، وأنّ قوّتي تزداد ضُعفًا، بالإضافة إلى رغبتي الطويلة في قضاء أيّامي الأخيرة في التنسُّك، تقدّمتُ بطلبي إلى المجمع المقدّس بأن أتقاعدَ من خدمتي في الأبرشيّة وأُرسَلَ إلى دير باباييفسكي في أبرشيّة كوستروما. شعرتُ بعدها بسلامٍ استثنائيٍّ في روحي، وحتّى بفرحٍ عذبٍ، كما لو كنتُ قد أتممتُ واجبي. لستُ أميل إلى العيش في أماكنَ ذات شُهرةٍ أو إلى شغل مَناصب مَرموقة، كما أنّ ضُعفي وصحّتي لا يسمحان بذلك الآن. إنْ كنتُ أتردَّدُ وأُرجِئ يومًا بعد يومٍ رغبتي الحقيقيّة في أن أُعزِلَ نفسي بهدف التوبة (الهدف الذي يحاول عدوُّ خلاصنا أن يُغريني ويجذبني بعيدًا عنه بكافة الذَّرائع المخادِعة)، فقد أُمضي بقيّةَ أيّام حياتي في هذه الازدواجيّة والضّياع وقد يَغلبُني الموتُ وأنا غيرُ مستعدّ. بابايكا (Babaika) هو مكانٌ جافّ وصحّي، يقع على جانب نهر الفولغا، وهو منعزلٌ، يزوره عددٌ قليلٌ من الزوّار – وقد لا يزوره أحدٌ قطّ خاصةً في فصل الشتاء. إذا منحني الله هذا المَلاذ، فقد يصبح مَلاذًا لكثيرين يرغبون حقًّا في خلاص نفوسهم بعيدًا عن ضجيج هذا العالم.
اطلبوا من المتقدّم في الكهنة أن يُحدّث الميتروبوليت عنّي أو أن يكلّمَه من خلال أسقفٍ ينوب عنه. إنّني أقوم بهذا بناءً على حقيقة أنّ العديدَ من الرهبان الأكاديميين يملكون فكرةً سيّئة جدًّا عَنّي، إذا حكمتُ بنفسي... (رسائل إلى الأهل والأصدقاء[5](
***
سوف أخبرُكم عن دير (القديس نيقولاوس) باباييفسكي الذي يُسعِدُني جدًّا من جميع النواحي. الموقع رائعٌ! يا للهواء! يا للمياه، ويا لشدّة نقاوة مياه الينابيع! الينابيعُ تتدفّق وتجري من التلال بكميّةٍ أظنّها تكفي بطرسبرغ بكاملها. ما أروع أشجار السنديان وما أقدَمَها! يا للمروج! يا لجمال نهر الفولغا! يا للسكون! يا للبساطة! أفتحُ كتابًا لكاتبٍ ناسكٍ، أقرأُه، وأعلمُ أنّه باستطاعة المرء هنا أن يتبعَ نصيحَتَه بدقّةٍ، أمّا في بطرسبرغ فهو يحملُها فقط في مُخَيِّلَتِه ورَغَباتِه. باختصارٍ، لا يمكنني أن أتمنّى، في رحلتي الأرضيّة، مَلاذًا أفضلَ في الوقت الحاضر[6].
المصدر
http://orthochristian.com/121114.html
[1] Letters to monks. https://azbyka.ru/otechnik/Ignatij_Brjanchaninov/simfonija-po-pismam-svjatitelja-ignatija-brjanchaninova/66#sel=14:1,14:43
[2] Letters to monks. https://azbyka.ru/otechnik/Ignatij_Brjanchaninov/simfonija-po-pismam-svjatitelja-ignatija-brjanchaninova/1
[3] Letters to monks. https://azbyka.ru/otechnik/Ignatij_Brjanchaninov/simfonija-po-pismam-svjatitelja-ignatija-brjanchaninova/67
[4] Letters to laypeople. https://azbyka.ru/otechnik/Ignatij_Brjanchaninov/simfonija-po-pismam-svjatitelja-ignatija-brjanchaninova/206
[5] Letters to family and friends. https://azbyka.ru/otechnik/Ignatij_Brjanchaninov/simfonija-po-pismam-svjatitelja-ignatija-brjanchaninova/369
[6] https://azbyka.ru/otechnik/Ignatij_Brjanchaninov/simfonija-po-pismam-svjatitelja-ignatija-brjanchaninova/204