عظة في يوم الأحد لجميع القديسين: سِماتُ مُختاري الله

القديس اغناطيوس بريانتشانينوف

تعريب: مارك البيطار

 

«فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضًا بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، وَلكِنْ مَنْ يُنْكِرُني قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضًا قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُني فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. فَأَجَابَ بُطْرُسُ حِينَئِذٍ وَقَالَ لَهُ: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟» فقالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ. وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولًا مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. وَلكن كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ».

(متى١٠ : ٣٢-٣٣ ؛ ٣٧-٣٨ ؛ ١٩: ٢٧-٣٠)

 

إنَّ الرب الكلّي المعرفة، الذي يرى المستقبل البعيد وكأنه زمن حاضر، قال لتلاميذه الماثِلين أمامه، «فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضًا بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، وَلكِنْ مَنْ يُنْكِرُني قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضًا قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متى١٠: ٣٢-٣٣). وهذا الكلام مُوَجَّه لجميع تلاميذ المسيح في جميع الأزمنة والأمكنة بدون استثناء؛ وبالتالي هذا الكلام مُوَجَّه أيضًا لكم أنتم المتواجِدون في هذا الهيكل المقدس، لأنكم صِرتُم تلاميذ المسيح باقتبالكم المعمودية المقدسة. وكما يُضيء البرقُ السماءَ من ناحية إلى الأخرى من دون أن يفقد لَمَعانَه، هكذا أيضًا وَصَلَتْنا وصيّة الربّ منذ ثمانية عشر قرنًا، مُعلَنةً في الأناجيل بقوّةٍ ووُضوحٍ. إنَّ تلاميذ الربّ ليسوا فقط أولئك الذين يُسَمُّون أنفسهم مسيحيّين على اسمه، وليسوا أولئك الذين نَذَروا حياتهم لخدمته فحسب؛ بل تلاميذه هم الذين يعترفون به حقًّا كَرَبِّهِم وسيّدهم وملكهم الأبدي، ويعترفون بأنَّ تعاليمه إلهيّة، ويطبّقون وصاياه على أنّها من الله. يجب أن يكون اعترافهم هذا بالفكر والقلب والقول والفعل وبكلّ حياتهم. فلا يجب أن يُخامِر هذا الاعتراف أيُّ تَردُّدٍ أو خَجَلٍ أو مَلامَةِ.

يتطلّب الاعتراف إنكارًا تامًّا للذات. يجب أن يكون مُظَفَّرًا. يجب أن يُقدَّم هذا الاعتراف كما لو أنَّه في حَلبة مفتوحة أمام كل الجنس البشري وأمام الملائكة والقدّيسين، وحتى أمام الملائكة الساقطين وأمام أنظار السماء والأرض. «لأَنَّنَا صِرْنَا مَنْظَرًا لِلْعَالَمِ، لِلْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ» (١كورنثوس٤: ٩)، هكذا يقول الرسول بولس عن نفسه وعن بقيّة الرسل. لم يخجل الرسل أو يخافوا أن يعترفوا بالإله-الإنسان الذي احتمل الصلب والذي حَكَم عليه القضاة الكَنَسيّون والمَدَنيّون الأقوياء والحكماء في الأرض وأمام الطُّغاة والمعذِّبين، حين واجَهوا العذاب والإعدام، مع الموت العَنيف. حمل الشهداء القديسون مثل هذا الاعتراف إلى الربّ؛ لقد رَووا الأرض بدمائهم مُعلِنين لكلّ المسكونة شهادتَهم المقدسة لحقيقة معرفة الله وعبادته. اعترف الرهبان القديسون بالربّ باستشهادٍ غير منظور، بإنكار مستمرّ لِذَواتهم طوال حياتهم: جاعِلين أنفسهم كَنُقطة اتّحاد بين الأرض والسماء، بين الملائكة والإنسان، أي مُنتَمين إلى السماء خلال وقت حياتهم على الارض، ويدخلون في الشركة مع الملائكة وقوّاتِهم خلال حياتِهم الأرضية. إنَّ مُحبّي الله الذين عملوا في العالم اعترفوا بالربّ بازدرائهم وعدم اكتراثهم بالأرضيّات، فَهُم الذين تنطبق عليهم كلمات الإنجيل بِحَقٍّ: «وَأمّا هَؤُلاَءِ فَهُمْ فِي الْعَالَمِ...، لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ» (يوحنا ١٧: ١١-١٦). إنَّ الاعتراف بالرب مع الإنكار التّام للعالم كان سِمَة جميع القديسين.

كلّ من يعترف بالرب أثناء حياته الأرضيّة الوقتيّة كما علّم الرب ومن يُثبِت في حياته أنه يعترف بالرب كَرَبِّه وإلهه - سيعترف به الرب كتلميذه؛ سيعترف بتلاميذه الحقيقيّين ليس فقط أمام الكون كلّه، ولكن أمام الله الآب. اعتراف الله الابن بشخصٍ أمام الله الآب يقود هذا الشخصَ إلى وحدة أكثر حَميميّة مع الله (راجع يو١٤: ٢٠).

عندما يعترف المرء بالله بطريقة تُسِرّ الله وعلى النحو الذي يُحَدِّدُه، فهذا دليل على أن الله قد اختار ذلك الشخص. ثمرة إرادة الإنسان الصّالِحة هي انضمامه بين صفوف المختارين.

إنَّ كل اعتراف واهِن وغامض هو غير مقبول ومرفوض كشيء غير ضروري وغير مستحق الله. لا يكفي الاعتراف سِرًّا في القلب، بل من الضروريّ الاعتراف بالشفاه وبالكلمات. كما أن الاعتراف بالكلمات لا يكفي، من الضروريّ الاعتراف بالأفعال والحياة. فقال الرب، «لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي فِي هذَا الْجِيلِ الْفَاسِقِ الْخَاطِئِ، فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ» (مرقس ٨: ٣٨). يجب ألا يعترف الإنسان بالرب وبقدرته الإلهية وسيادته فقط، بل أن يعترف أيضًا بتعاليمه ووصاياه من خلال إتمامها. فإنّ إتمامها خِلافًا لِعادات المجتمع البشري المقبولة عمومًا، هو اعتراف بالرب وبكلماته أمام الناس. يُدعى المجتمع البشري بالخاطىء والزاني بسبب مَيلِه غالِبًا نحو حياة الخطيئة؛ عندما خان محبة الله واستبدلها بمحبة الخطيئة. إن العادات التي تسود في العالم وتطغى على جميع القوانين، تتعارض مع الحياة المرضيّة لله وهي في عداوة معها. إن الحياة التي تُرضي الله هي موضوع كراهية واستهزاء للعالم المتكبِّر. فمن أجل الهروب من هذه الكراهية والاضطهاد والسِّهام في العالم، فإن القلب الضعيف وغير الثّابت في الإيمان يميل إلى إرضاء الإنسان، ويخون تعاليم الرب، وبذلك يُبعِد نفسه من صفوف المختارين.

يثبّت الرب تلاميذه بالإيمان به وبتعاليمه، ويؤكّدها بكلمات وجُمَل مُتوَعِّدة صادِرة منه في أوقات مُحَدَّدة. « فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضًا بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، وَلكِنْ مَنْ يُنْكِرُني قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضًا قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متّى ١٠: ٣٢-٣٣).


ليس الخضوع للمجتمع البشري شديدًا كالخضوع للعائلة. إن رفض الخضوع لمطالب المجتمع أسهل من رفض الخضوع لمطالب العائلة لأنها تستند على قوانين الطبيعة، وعندما تتوافق هذه المطالب مع شريعة الله، فإن شريعة الله نفسها تساعدهم. غالبًا ما يجد خادم المسيح نفسه في حيرة بسبب المطالب المُتَناقِضة، غير عالمٍ كيف يحقّقها بما يرضي الله. يجد الرب حَلّاً مُرضِيًا وشاملاً لهذه الحيرة بِتَبَصُّرِه. لقد أكمل الكلمات أعلاه بما يلي: «مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي» (متى٣٧:١٠). أي «مَن يفضّل إرادة والِدَيه أو أي أقارب آخرين بحسب الجسد على إرادتي، مَن يفضّل طريقتَهم في التفكير والفلسفة على تعليمي، مَن يفضل إرضاءهم بدلاً من إرضائي، فهو لا يستحقُّني».

إن الصعوبات والعوائق للاعتراف بالمسيح التي تعمل ضد المسيحيّ من الخارج ليست مهمّة عند مُقارَنَتِها بالصعوبات والعوائق التي في داخلنا. لذلك، الخطيئة التي تحيا في العقل والقلب والجسد تُعارِض الاعتراف بالمسيح مباشرةً، أي الاعتراف من خلال إتمام وصاياه؛ فتُعارِض هذه الخطيئة هذا الإنجاز بِتَنَعَنُّت أو صَلابة. عندما تُفسِد الخطيئةُ الخيرَ الطبيعي في الإنسان، يصبح الاعتراف صعبًا من خلال السعي إلى الاعتراف بالطبيعة الساقطة أيضًا ومَزجِها بالإعتراف الحقيقي. فيُفسد هذا المَزجُ الاعترافَ بالمسيح. إنه يوهِم بأن سقوط الطبيعة الساقطة هو غير مُكتَمِل، وينتقص من أهمّية المسيح الكاملة تمامًا، وبالتالي لا يمكنها تَحَمُّل مثل هذه النَّجاسة. يتطلّب الاعتراف بالمسيح اعترافًا حازمًا بفساد الطبيعة الساقطة[1].

إنّه لَمُمكِنٌ الابتعاد عن المجتمع البشري أو الأقارب؛ ولكن أين تذهب كي تهرب من ذاتك؟ أين يمكنك الاختباء من طبيعتك؟ كيف تُفلِت منها؟ من أجل التَّحَرُّر من العبوديّة إلى الطبيعة الساقطة، يوصينا الرب بِصَلْبِ طبيعتنا؛ أي إنكار إرادتنا لتثبيت حركة عقلنا وجاذبية قلبنا لوصايا الأناجيل. وهكذا، «وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ» (غلاطية٢٤:٥): لقد صلبوا عقلهم الجسدي وإرادة طبيعتهم الساقطة، التي تأسست عليها  حياة الخطيئة ومَيل الجسد والنفس إلى الخطيئة. هكذا فالعالم قد صُلِبَ للرسول وهو بدوره قد صُلِبَ للعالم (راجع غلاطية٦: ١٤). لقد صلى النبي القديس داود إلى الله ليعطيه القوة والقدرة على صلب نفسه: «سَمِّر جَسَدِي بِخَوْفِكَ» (مز١١٨: ١٢٠)؛ أي، عقلي الجسدي وإرادتي، حتّى يَبقيا مُسمَّرَين! «ثَبّتْ كَلِمَتَكَ لِعَبْدِكَ الَّذِي يَخْشَاكَ» (مز١١٨: ٣٨)، كي أكون مسترشِدًا بِثَباتٍ بكلمتك في عَمَلي المنظور وغير المنظور. من يُميت طبيعته الساقطة بسيف تعاليم المسيح - وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا (مرقس٨: ٣٥ ؛ متى١٠: ٣٩). وعلى العكس، كل من يعمل وفقًا لمنطق ومُغرَيات طبيعته الساقطة، ويقبلها على نحو خاطىء على أنّها جيدة - «وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُني فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي».

لقد عَزَمَت الكنيسة المقدسة أن تشرح بشكل مُرضيٍّ للغاية مصير مختاري الله في الزمان الحاضِر وفي الأبدية، ووجدت بعد سَماعِها الجملة المَخوفة والعادلة والحازمة من فم الله أنه يجب علينا أن نقرأ اليوم إجابة الرب على سؤال الرسول بطرس: فَأَجَابَ بُطْرُسُ حِينَئِذٍ وَقَالَ لَهُ: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا»؟ (متى١٩: ٢٧). لقد وعد الرب الرسل الاثني عشر أن سوف يكون لهم شرفٌ عظيمٌ. بما أنّ الإله-الإنسان هو الملك الأبديّ الوحيد لإسرائيل، أي لجميع المسيحيّين، إسرائيل الروحيّة - التي يجب أن تضمّ جميع أمم الأرض وتسكن أخيرًا في أرض الميعاد، الفردوس - فمن الطبيعي أنه يجب أن يكون رُسل الإله-الإنسان، الذين أتت من خلالهم جميع الأمم لتخضع لله، قادة وقضاة إسرائيل الجديدة هذه، الأمّة السّماويّة الأبديّة. بعد أن أعلم المسيحُ الرسلَ بأهمّيتهم في الحياة الأبديّة (راجع متى٢٨:١٩)، يضيف الرب، «وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولًا، (متى١٩: ١٩) لأَجْلِي وَلأَجْلِ الإِنْجِيلِ... إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ الآنَ فِي هذَا الزَّمَانِ، بُيُوتًا وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ وَأُمَّهَاتٍ وَأَوْلاَدًا وَحُقُولًا، مَعَ اضْطِهَادَاتٍ، وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ». (مرقس١٠: ٢٩-٣٠ ؛ قارن متى١٩: ٢٩). الاضطهاد هو الحياة الدنيويّة. إنها اضطهاد[2] لأن البشر طُرِدوا إلى الأرض وتعرّضوا للعذاب بسبب تَجاوُزِهم وصايا الله. إنه مكان وزمان اضطهاد أتباع المسيح، لأن أمير هذا العالم يسود هناك، وبما أنَّ حُكم الخطيئة هو الأكثر انتشارًا هناك وهي عدوّ أتباع المسيح، تضطهدهم بقسوة وتظلمهم دون انقطاع. إنهم يتعرّضون لشتّى أنواع عذاب الخطيئة في داخلهم ومن الخارج. إنَّ الأرواح الساقطة التي تتعطّش لتدمير أتباع المسيح، تعمل ضدّهم بِكَراهيّة محمومة ومَكْرٍ لا يُصَدَّق؛ يعمل ضدّهم أيضًا غالبيّة الناس الذين استعبَدوا أنفسهم طوعًا للأرواح الساقطة، والذين يخدمونها كأدوات عمياء وتعيسة. كما تعمل ضدّهم أيضًا أهواؤهم وضعفاتهم.

ينال أتباع المسيح، حتى في هذا المنفى المؤقت، مائة ضعف أكثر ممّا تركوه من أجل المسيح ومن أجل وصاياه. إنهم يتلقّون نعمة الروح القدس بشكل حسيّ. قبل أن تجلب النعمة الإلهية التعزية، تتدمّر كل أفراح العالم وتعزياته؛ أمام الغِنى الروحي، أمام المجد الروحي، تتدمّر جميع ثروات العالم ومجده؛ إن الملذّات الآثمة والجسدية في نَظَر القديسين هي رَجِسة ومُقَزِّزة، مليئة بالمرارة المُميتة؛ إنَّ حالة الأغنياء والعظماء في هذا العالم هي مثل قبر أبيض لامع من الخارج، ولكن في الداخل مليء بالرائحة الكريهة والفساد - تلك الصفات التي لا تنفصل عن كلّ جُثّة ميت. إنَّ النفس الفاسدة بالموت الأبدي - الاغتراب عن المسيح – يمكن أن تُسَمّى بالجُثّة.

إنَّ كل الأشياء والمزايا الأرضيّة الجيّدة تترك الإنسان وتبقى على الأرض. فوفقًا لقانون الموت الذي لا مَفَرّ منه والذي لا يرحم، يترك الإنسان الأرض ويستقر بشكل نهائي في الأبديّة. لكنَّ النّعمة الإلهيّة تتبع قاعدة مختلفة: فهي ترافق الشخص الذي اكتسبَها هنا إلى ما وراء القبر. هذا بمثابة تَعَهُّد وشهادة لمختار الله. عندما يَمثُل أمام الدينونة التي تنتظر كلّ إنسان بعد الموت، ويقدّم شهادته وتعهّده، تجلب له النّعمة، بشكل ملائم، غنى روحيّ وأبدي لا يوصف ولا حدود له وروعة وسعادة في السماء باعتبارها النتيجة المنطقية لما قام به. قال الرب: «فِي الدَّهْرِ الآتِي (مرقس١٠: ٣٠)، سيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ» (متى١٩: ٢٩)، فالحياة فائضة جدًّا وصافية، ذلك الإنسان الجسدانيّ، الذي يحدّد أفكاره عن المجهول بناءً على معرفته بالمعلوم، لا يستطيع أن يبني أي فهم لها. نرجو أن نحظى أيضًا باعتراف دقيق بالرب، لكي نرث هذه الحياة التي أُعِدَّتْ لنا جميعًا برحمة الرب التي لا تُدْرَك ولا تُحَدّ، والذي افتدانا بواسطة ذاته. آمين.

 

المصدر:

http://orthochristian.com/35501.html

 

[1] انظر غلاطية ٥: ٤؛ ٢: ١٦؛ ٢١؛ (القديس اغناطيوس بريانتشانينوف)، «عظة حول الخلاص»، الخبرة في النُّسك 2.

[2] في النص السلافي لهذا المقطع الإنجيلي، عبارة «مَعَ اضْطِهَادَاتٍ» مكتوبة во изгнании مِمّا يعني أيضًا «في المنفى» أو «كمنبوذين».